إبراهيم اليوسف
سألت أبي، الذي اشترى لنا البيت، عن طريق عمنا سيد يوسف قرطميني، لنسكنه، بعد أن كبرنا، وبات علينا أن ندرس الإعدادية في المدينة:
-لم سمي شارع بيتنا بـ «شارع الحرية؟»…
جيراننا الشيوعيون، في الشارع، هم من سمُّوه!…
جاء الجواب مفاجئاً بالنسبة إلي. فكيف أن جيراننا غدوا قادرين على تسمية الشارع، كما يريدون، وحين سألته:
وكيف ذلك؟
قال: سيجيبك عمك ملا يوسف:
حدثني عمي السيدا، أن في شارعنا كثيرين من الشيوعيين، منهم أبو خورشيد القيادي «أو شيخموس العلي»، وعبدالله بدرو وآخرون، أغلب بيوت الشارع شيوعيون. أحسست بفرحة غامرة، إذاً: «جيراننا شيوعيون..؟!» وفعلاً، صرت أتعرف عليهم، تدريجياً. أحد هؤلاء نعمان موسى الذي عاد من ليبيا، وحضرت حفل عرسه، سلم علي، عصرذلك اليوم المشؤوم.
كنت على سطح المنزل، لنسمع بعد نصف ساعة من مروره، وسلامه، صراخاً وعويلاً في الشارع، جهة بيت نعمان وشقيقه أبي خورشيد: «نعمان في الغيبوبة، صعقته الكهرباء، ما إن نزل إلى داخل البئر، كي ينظفه، بعد أن ألح عليه مستأجر البيت الشرطي أبو زاهر، قائلاً له: البئرنشفت، جاري..؟!»، ويبدو أن أحد أفراد أسرة الشرطي، ضغط على زر دينامو البئر، سهو اً، كي يملأ الخزان ماء، كماتم تدوين الواقعة في محضرالتحقيق.نعمان كان آنذاك داخل البئر. سرعان ماتم إسعافه إلى المشفى الوطني، ليعود جثة هامدة. وكنت التقيته، قبل ذلك ،في صبيحة اليوم نفسه، أنا والشاعر موفق حمو، و عامرهلوش السالم، في نقابة المعلمين، كنا الثلاثة على طاولة واحدة. كان هو وراء النافذة من جهة الخارج. سلم علينا، دعوته ليشرب معنا كازوز سينالكو، شاياً، قهو ة، فاعتذر، لأنه كان يعمل مع ورشته في المبنى، صباح ذلك اليوم، وقبل أن يعود إلى البيت، كنت سبقته، في العودة إلى بيتنا،لأساعد الأسرة في «تلييس» سطح دارنا الطينية، إذ كان الوقت خريفاً، كما يبدو، في صباح الجمعة الأسود، ذاك.!…
أتذكر، كيف أن زوجته بيان، ابنة خاله، التي تزوجت من الفنان عمر حسيب، بعد وفاته، لتتوفى هي الأخرى، بعد سنوات قليلة، من الواقعة، مع زوجها الثاني، في حادث سير مروري، مروع، على طريق الحسكة- دمشق، وتوفي معهما أحد أطفالهما، خرجت إلى الشارع، صرخت صرخة هزت شارع الحرية، من أوله إلى آخره، بصراخها المرير:
وهي تشقُّ غطاء لحاف عرسهما الذي لما يمض عليه بعد، أكثر من عام أو عامين، وكأنه صفحة من كتاب منته.!…
نعمان كان جد قريب مني، ليس لأن بيتينا كانا متقاربين، بل لأنه كان دمث الأخلاق، مثقفاً، محبوباً، غير أنه توفي وهو في ريعان شبابه، ثم سرعان ما تعارفت على جارنا سليمان كوبو الذي نشأت بيننا علاقة لافتة، كما العلاقة التي تمت بين أسرتنا وجارتنا أم آزادالتي طالما حدثتني عن زوجها الشيوعي عبدي محمد الذي توفي قبل أن نسكن الشارع ،واهتممت بموهبة ابنتها الطفلة شهناز التي انقطعت عن الكتابة بعد زواجها، وكانت تمتلك موهبة واعدة، وها هي تعود إلى الكتابة، من جديد، لأتعرف كذلك على جارنا الفنان فؤاد كمو الشيوعي الذي تأثرت بمنطقه وهو يحكي عن الفن، وإن سيغدو عدنان ملك، الشيوعي، الأقرب إلي، نظراً لتقارب سنينا، وأتأثر ببعض آرائه، عندما كان في منظمات القاعدة ،قبل أن يترك الحزب، وينضم إلى حزب العمال الكردستاني، لأنه كان ممن لا يجدون أية مسافة بين النظرية والتطبيق، وقد قدم روحه ثمن ذلك، وإن سيستشهد غدراً على أيدي بعض رفاقه، كما سنعلم لاحقاً، من خلال بيان يصدره أحمد شنر المنشق عن هذا الحزب، والذي يتم اغتياله، في عزِّ الظهر، في أحد بيوت الحي الشرقي في المدينة.
الجيران الشيوعيون كانوا كثيرين، ومن هؤلاء بيت سيد حسن سيتي الذي ستنشأ علاقة بيني وابنهم نضال، وبنتهم المثقفة، الحنون، شقيقتي الروحية كوثر، بل وبيني وأبيهما وأمهما وعمومتهما، وأحتاج إلى مسرد خاص لأسماء جيراننا، ويبدو أنهم استطاعوا تسمية الشارع باسمه في بدايات دخول الحزب الشيوعي في ماسميت ب» الجبهة الوطنية التقدمية»، عندما كان هناك شيوعيون مبدئيون لم يرضخوا للمكاسب التي قدمها حزب البعث لبعض الوجوه البارزة، ماأدى إلى طمس ملامح الحزب.
عندما كان يسألني أحدهم: ماعنوان بيتك؟
فإن الجواب سرعان ماكان يسلس على لساني:سوريا-قامشلي-شارع الحرية رقم الداركذا، وحين تصبح لي أسرتي، وأصبح مسؤولاً عنها، لم أبتعد عن شارع الحرية، بل عرضت على أبي شراء بيت في امتداد شارع الحرية نفسه، وإن كان كثيرون سيهجرون الحزب، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كنت أسميه ب:الانهيارالمؤقت، تاركين إياه، أو ليتحولوا إلى أحزاب أخرى، كي يبقى عدد آخر، مصراً على استمراريته، على عهده، ناقداً تراجعات الحزب، وكنت من عداد هؤلاء، إلى بعض الوقت.!..
شارع الحرية، العبارة التي كانت تدون على الرسائل التي أرسلها، أوالتي أستلمها، أوعلى فواتيرالماء والكهرباء، بل وفواتيرهاتفي رقم «424856» وكعنوان لي في دائرة النفوس، وفي المدرسة حين صرت طالباً، وهي العبارة التي تثبت على أوراق عملي، حين أصبحت حارساً مياوماً في مكتب الحبوب، أو معلماً، فمدرساً في سلك التربية. عبارة شارع الحرية العنوان الذي قفز من إخراجات قيدي إلى بطاقتي الشخصية، قبل أن تتبدل بجوازسفر، منتهي الصلاحية، فجوازسفرألماني لاأجيد قراءته وبات لابد علي من محو أميتي، وأنافي الخامسة والخمسين، بعد أن آلت بي الجغرافيا إلى هذا المكان، بما يسعفني لأقطع تذكرة باص نقل داخلي ، أوترام، أو لكي أرد على جارتي بالألمانية، وهي تقول لي:
Guten Morgen
كي أرد عليها بالكردية أوالعربية.!..
صباح الخير!…
«الآن، ليس وقت الكتابة عن ثورة لهفتي، ودرجة حرارة براكيني ، وانفعالاتي، فهي غيرممكنة الترجمة»
لم يكن بيتنا الجديد في شارع الحرية الذي سكنته، في منتصف السبعينيات، عندما تركنا «تل أفندي» يختلف كثيراً عن بيتنا في قرية تل أفندي. أمران فقط اختلفا علينا:الكهرباء التي كانت تضيئه، وجعلت أمي تقول:صحيح، أنا حزينة على القرية، وأهلها، ولكن ثمة فرقاً بين عتمة القرية وبين هذا البيت المضاء، لاسيما أن بئرنا في قلب البيت، ولا يحتاج أولادنا إلى أن يأتوا بالماء من مكان بعيد.
تغيرالجوعلى أبي، فقد التقى في المدينة، بكثيرين من أصدقائه، الذين درسوا معه، أيام الحجرة، أوالذين عرفهم في تكية آل الخزنوي، بل وغيرهم، يزورونه، أويدعونه إلى بيوتهم، أحياناً، رغم أنه لايرغب بمبارحة البيت، بعيداً عن أمي، كمانمازحه، وصاربإمكانه الذهاب متىشاء، في أقل من نصف ساعة إلى”تل معروف» حيث مشايخه، أوإلى مرقد
أبيه في«خزنة»، أو مرقد جده في «محمد ذياب» قريباً من الكثيرين منذويه، لاسيما عمي عبدالرحيم، أوالعم سيد يوسف.
في هذا البيت نفسه، استقبلت أصدقاء وصديقات كثيرين وكثيرات. تابعت دراسة عام ونصف من المرحلة الثانوية فيه، نلت فيه الشهادة الجامعية بشكل حر، كتبت فيه قصائدي الأولى التي عرفت النشر، راسلت منه الصحف، المجلات. تعارفت وأنا فيه، على أصدقاء، وصديقات، من خارج بلدي، عبرالمراسلة، كتبت على طاولتي فيه رسائل الغرام إلى أولى حبيباتي، ضحكت مع بعضهن، وبكيت مع بعضهن، فيه قبلت إحداهن،على عجل، عندما رحت أودعها، بعيد زيارتها إلى بيتنا، قرب الباب الخارجي، كي تطردها أمي، بعدما ضبطتني وأنا أحتضنها، في المرة الثانية، مرتجفاً من خجل، إذ لحظت اهتمامي الكبير بها، ومتابعتي لها، شبه متسلل؛ بذريعة إيصالها إلى بيتها، لأن الوقت ليل، والشارع معتم .
لقد بالغت في توبيخي، شاكية إياي إلى أبي، ليصدرا أول فرمان من نوعه: ممنوع دخول هذه الفتاة إلى بيتنا، وهو قراريعادل ثقل أي حصار دولي على أي بلد، في ظل حرب عالمية كبرى…!؟
من سطح هذا البيت دأبت مبادلة التلويح بيدي لإحداهن، وهي بعيدة، بعيدة، نخرج عندما تتعانق عقارب الساعة عند توقيت محدد في ساعة البيت. آه، هاهي نفسها، تبدوأصغرمن حمامة بيضاء، فقد دأبت أن تأتي في مطلع كل صباح، أثناء العام الدراسي، وقبل ذهابها إلى مدرستها ،كي إلي برسالة اليوم، محمية بصديقتها، الجارة، تضعها تحت حجر بابالبيت الخارجي، وتتوارى بعيداً، لأقرأ رسائلها، ويضطرب قلبي، على امتداد حبر خطها الجميل. في البيت ذاته انضممت إلى الحزب الشيوعي ،وفيه عقدنا الاجتماعات والكونفرانسات الكثيرة في غياب أبي الذي راح يسكن قرية «طوبو» يعمل فيها إماماً، بعد أن ضاقت ذات يده، وفقد ماي ملكه من بقايا المال، في خسارات مالية متتالية، وكان قد امتنع عن العمل في مساجد المدينة، لئلا يذكر اسم الرئيس في خطبه.
يقول له جارنا سيد عزيزسيد مراد «أبو ماركس»، العرضحالجي:
مارأيك أقدم لك معروضاً لمديرية الأوقاف كي تعمل إماماً وخطيباً؟.
-لاسيد، لاأريد، الرزق على الله!…
ثمة قوافل تظهر بانتظام، في الشارع، جيئة وذهاباً:طالبات وطلاب المدارس، وجوههم أستظهرها حتى الآن، الموظفون والعمال، مصلوالفرائض الخمس:أبي، أعمامي سيد عبدالرحيم والسيد يوسف ومن ثم السيد عبدالقادر، صوفي حسين حسووالد الكاتب جميل حسو-الأقرب إلى أبي- بل كلهم كانوا قريبين من بعضهم بعضاً وكأنهم أسرة واحدة: الملاهادي رسول، الملاشكري سليمان، الملا سيدفرحان شيخاني، ملا إسماعيل حسين، العفادلي، الرقي، الملايحي إبراهيم، صوفي مجيد شيخموس، صوفي مويجو، محمد حميدي، أحمدي موسي، سيد حسن سيتي، الشيوعي المؤمن، الحاج عبدالله خضرالمللي، ابن قرية تل نايف، صالح خضركاباري، محمود درانزيري، صوفي محمد وشقيقه صوفي عبدالقادرحربي، صوفي حسين زروكي، سليمان حاج خلف، الحاج يونس فلمز، يوسف جينو، محمد جمو. يسلمون في الطريق على كل من يصادفهم: محمد كريمكو- نوري ملاخليل- وفارس درعو ومحمد حسن «ريجي» وغيرهم. تسيرقافلتهم تجاه جامع قاسمو، كي يلتحق بهم سرب آخر هناك، وهم قادمون من الشوارع المؤدية إلى الجامع، من دائرة محيطه:
ملاعلي سيدحسين تالاتي ملاإسماعيل بيجو، جارالجامع، وملاإبراهيم رشيد قرطميني، والملاسليمان بزكوري، والملامحمود «بزكوري ،» والملاعبدالله سيد محمد قرطميني، حاج أحمد قرطميني وحاج حسين قرطميني، وملامحمد سيد عيسى، وسيد فخري سيد أحمي، والحاج جميل خاني سوركي، وحاج فرحان ليلي، وحاج قاسم وضحي وأوصمان وضحي والحاج بري، وحمي مشعل، والصوفي علي الأشقر، وصوفي شكري سلام، وأخوه سيد حزني سلام، وعلي درويش، والأوسطة جي”أوسته عبدو» محمد، وكاتب العرائض ملا أمين أو ملا محمد أمين بشو، وملامحمد بندرممو، ورمضان عبدي خليل، ابن سري كانيي ،موظف التربية، والحاج إبراهيم خلف الكولي، وشقيقه محمد خلف ،بل وعددمن الكوليين، وغيرهم كثيرون .كل من شارع بيته، ليلتقوا في موعدهم اليومي، في الجامع الذي يؤمه ملاأحمد إبراهيم حسين الذي اعتدى عليه جارنا الشيوعي زكي بولي، بعد خطبة تهجم فيها على الحزب الشيوعي، بتخطيط من منظمة الحزب كما سمعت، وكان ذلك قد حدث قبل مجيئنا إلى المدينة . ، قد يتوقف بعض من في موكب المصلين، أثناءالعودة من الجامع، أمام بيت محمد عبود والد الدكتورعبدالرحيم حيثيلعب هو وشيخومحمد والد الفنان محمد شيخو وحندو «كجو» فتاح الدامة، أوطاولة الزهر، ويلتف حولهم كثيرون: حمو عثمان أو جمهور فتاح أوحتى مجيد قرديسي، وأحمد عزت، ومحمد جاجان إبراهيم وآخرون ،أحياناً. . كثيراً، ما حاولت أن أستذكر موتى الشارع نفسه، أجريت إحصائية لهم، رجالاً ونساء، كي أتناولهم في رواية خاصة. ،
حين استقر أبي في قرية جديدة، وظللنا في المدينة، دأب بعض أصدقائه من رجال الدين أن يزوروني في البيت، دونما انقطاع. ألح عليهم أن يباتوا عندي، ومنهم العم الملا محمد الحيدري، والعم الملا محمد نورو، والعم الملا محمد بركات. وكان العم الملا محمود ملا حسين قرطميني الشاعر ،كلما كتب قصيدة جديدة جاء من القرية إلي، ليقرأها علي، ويعود. كما ظل العم الملا علي داري، الأديب، والمناضل، ورفيق دراسة أبي حريصاً على زيارة بيتنا حتى آخرلحظة لي في المدينة، وكان عضواً في حزب كردي، طالما نقل لأبي مايتعلق بمستجدات القضية الكردية، وهما يجلسان، على نحوحميمي..
رجال الدين هؤلاء أحبهم، طقوسهم حميمة، لها نكهتها المتفردة. أعد جميعهم عمومتي، كلما أجد رجلاً معمماً أسلم عليه باحترام، وكأنني أسلم على أبي، حتى وإن لم أعرفه. لقد استفدت من زيارات هؤلاء لأبي ، وأنا طفل، كان عالمهم جد ممتع، لاسيما عندما تضمهم جلسة خاصة بهم ،تنفتح قرائحهم على الحديث غير الرسمي الذي طالما سمعته منهم. حتىأبي يبدو شخصاً مختلفاً، أقرب إلي من أي وقت آخر. ثمة من يذكرطرائفه أيام-الحجرة- يرد عليه باستذكار طرائفه. ثمة من يتبارون منهم في شؤون الصرف والنحو والإعراب، ثمة من يستحضرون منهم شعرالتصوف ،منشدين قصائد الخاني والجزيري وجكرخوين وابن الفارض وغيرهم.
كنت أنبه رفاقي الشيوعيين الذين قد يلتقون بأحد هؤلاء، في بيتنا ،ألا يوجهو ا إليهم، أية كلمة نابية. ولقد صرت أشدد على ذلك أكثر، بعد أن أخطأ، كاتب جديد طالع، كان يزورني، آنذاك، بشكل شبه يومي، في معاملة أبي، الذي دخل البيت، للتو، قادماً من المدينة، بحضور بعض رفاقي، الذين امتعضوا من طريقة مصافحته لأبي رجل الدين، العالم، وفق مقاييس عالمه، رغم أن ذلك الشاب لم يكن شيوعياً في يوم ما، وجاء هذا التصرف، نتيجة خشونته، ونزقه، وها قد غدا، الآن، اسماً معروفاً:
-هذا شخص سيء، إبراهيم، احذر منه!..
قالها أبي، وصدقت قراءته له، بعد أن كنت احتضنته في بدايات تجربته.!..
شارع الحرية، هو الشارع الذي يمتلىء بصفين، متقابلين، من البيوت الترابية، المتراصة، قبل أن يتسلل الإسمنت إليه، شيئاً فشيئاً. كنت أسير فيه تجاه عملي، ذهاباً وإياباً، كل يوم. الشارع الذي أنطلق منه في العصرونيات، صوب مكتب الحزب الشيوعي، أو إلى مركز المدينة، باتجاه المكتبات، وسط السوق. أشتري الصحف والمجلات والكتب ،وأعود منه إلى البيت، حاملاً إياها بيدي، برفقة بعضهم، أو منفرداً؛ لتنطلق منه جنازة أبي إلى مقبرة تل معروف، كي يوارى الثرى، ضمن باحة مراقد مشايخه، وتنطلق منه جنازة أمي إلى مقبرة قرية خزنة، كي تشيع إلى مثواها الأخير، قرب ضريح عمها الشيخ إبراهيم، قرب حفيدها، وكثيرين من أهلها، ليبقى أبي قرب من أحبهم. تلك وصية كل منهما، واضطرت الأسرة لتنفيذهما. شارع الحرية، هو الشارع نفسه الذي كانت تمر دوريات الأمن فيه لمراقبة حركة بيتي، خلال محطات كثيرة ،رغم بعض العيون المزروعة، من حولنا، والمكلفة، بتلك المهمة.
في هذا البيت، وبيتي الآخر، في امتداد شارع البيت نفسه، زارني الشيخ معشوق الخزنوي، زارني صديقي مشعل التمو وغيرهما ممن أعدهم أسرتي الروحية. فاجأني حامد بدرخان بزيارة مدهشة إلى البيت الأول. فيهما التقيت بعض كبارالأدباء والشعراء، والفنانين، والمناضلين، واللاجئين العراقيين، من أحزاب كردية، وشيوعية، ويسارية. في البيت نفسه نام إبراهيم صاموئيل، وفواز قادري وبشير العاني، ود. قاسم عزاوي وآخرون………، و زارني في بيتي الآخر شيركوبيكس، وحين ألححت عليه أن ينام في بيتنا، قال:
مكتبتك، مغرية، لكن، هنا، ضوضاء، سأنام في الفندق.!..
ذات مرة جاء المدينة شاعران، وتم استئجار غرفتين لهما، في الفندق، من قبل المركز الثقافي، لكنهما آثرا النوم في بيتي. في آخر السهرة لما افترشت لهما،سريريهما، أرضاً، قال أحدهما لي:
ألن تزعل منا لوعدنا إلى الفندق؟، فقلت:لا وأنا أذوب خجلاً على واقعي بيتي الطيني المتواضع.
علق صديق يحب مداعبتي بعد ذلك قائلاً:
حين كانا يقرآن لك، فقد كانا يظنانك تملأ فيللا وسيارة!..
قلت له مازحاً بمرارة:
مصاريف استضافتهما استدنتها من الآخرين..!؟.
مرة أخرى، دل الشاعروليد حزني الروائي نبيل سليمان وآخرين، إلى منزلي، جاؤوا في سيارة خاصة، أظنها له، أو للمركز الثقافي، وحين ألححت عليهما إن ينزلا، كي نبقى معاً، في بيتنا. قال لي نبيل: لنمض إلى الحسكة..!»، لكنكم هناك ضيوفي أنا، قالها، ليبدد عني الخجل، وألا يبقى في قامشلي، كي لا يكبدني مصاريف ما، رغم أنني كنت قد أعددت العدة لاستضافتهم، وإن كانت فاتورة مطعم السنابل الحسكي، قد دفعت في غفلة منا من قبل أحد الكتاب.!..
في هذا البيت الطيني المتواضع، تلقيت دعوة من المام جلال طلباني، من خلال أحد ممثليه، كي ألتقيه على مأدبة طعام، في مطعم مدينة الشباب ،وعندما صحبت معي كلاً من الصديقين: أحمد حيدر ووليد حزني ، ووصلنا هناك، وجدت بضعة أشخاص منهم كتاب وسياسيون، على الطاولة. سألت أحد مرافقي المام الذين كانوا يستقبلوننا: من على الطاولة؟، فراح يعد الأسماء، ولما تم ذكراسم ضابط الأمن الشهير محمد منصورة، امتنعت عن الجلوس على الطاولة، ليستقبلني المام جلال ومعي عبدالباقي حسيني، في آخر السهرة، في جناحه الفندقي، بعد أن علم بموقفي، وسرَّ به، ولنتحدث في بعض الأمور، ومنها ما يتعلق بتأسيس اتحاد للكتاب الكرد، ولأعود إلى هذا البيت البسيط، في آخر السهرة ،مزهو اً لأني اتخذت موقفاً مختلفاً..!.
صباحاً، كنت أستيقظ، أنتظرساعي البريد، يأتيني بالرسائل، وهو على دراجته، يقطع مسافات الشارع ببطء، ويدي على قلبي، إلى أن يصل، كي يلوح لي أحياناً من بعيد، مبشراً أن لي معه رسالة ما. صار يفعلها، بعد أن صارت بينناعلاقة جميلة. أطير فرحاً وأنا أستلم خط امرأة، و وردها ،وصورها في رسالة يسلمي إياها، أو طرداً بريدياً فيه كتاب مهدى إلي، أو مجلة، أو جريدة، لي فيهما مقال أو قصيدة. تتعالى أصوات الباعة المتجولين ،تجتمع حولهم النسوة، يلعب الأطفال بالكرة، يجعلون الشارع ملعبهم ،يجعلون نافذتي، باب بيتي مرماهم. في هذا الشارع تعلمت قيادة الدراجة الآلية، والعادية، هو نفسه كان يسأل عنه ضيوف بيتي الذين يأتونني لأول مرة، ومنهم حامد بدرخان، وغيره .
هذا الشارع ذرعته، من أقصاه إلى أقصاه، آلاف المرات، جيئة وذهاباً مع أصدقائي، نتسارر، نخطط، نضحك، نحلم، نتحدث في النساء ،والسياسة، والأدب، والكتابة. بيوت الشارع، كلها، صارت مجرد بيت واحد، بيني وساكني بيوته مودة. تستوقفني إحدى النسوة المسنات:
لقد سأل عن بيتك رجل أمن فلم ندله.!…
الشارع نفسه، بات الآن، مركز ثلاث وزارات، ضمن كانتون الجزيرة.
تغيرت ملامحه، سكانه توزعوا في خرائط دول العالم، لم يبق منهم إلا القلة. ثمة وجوه جديدة، طارئة، تبدو في الشارع، بعد أن تحول إلى اسم أحدأعضاء حزب العمال الذين اختلفوا مع بيت بدرو، وحاولوا خطف أبيهم، لكنه أصيب بطلقة رصاص، قضى يبسببها في حلب التي نقل إليها؛ ليتم استطبابه، هناك، دون جدوى. يقول آل بدرو:
-رفاقه، من أصابوه، أثناء محاولة اختطافه لأبينا..
ممثلو حزب العمال الكردستاني يقولون:
أحدهم من آل بدرو من أصابت رصاصة مسدسه رفيقنا.!…
ثلاثة من أبناء بيت عبدالله بدرو الذي يكاد يبدأ به شارع الحرية، تم اغتيالهم على أيدي رفاق الحزب، بعد أن فشلت عملية اختطافهم لأبيهم ،قرب بيته، ليصاب بالرصاص هو وأحد خاطفيه. غيرأنه نجا، رغم خطورة إصابته، بينما فقد خاطفه حياته. البيت تم الاستيلاء عليه، من قبل الحزب، متحولاً إلى مركز للأسايش، وقد كان من أول البيوت التي انطلق منها حزب العمال، والتحق بعض أبنائه وبناته بالحزب، مقاومين في أعالي جبال قنديل، وليداوى أحد أبنائه جرحاه هناك-ويسمى الدكتور- على امتداد سنوات، غيرأنه نفسه، قضى برصاص رفاق الأمس، مع أخويه، دون ذنب منهم. وكانت أمهم قد خدمت رفاق الحزب، طويلاً، قبل أن تبدأ محنة الأسرة، منذ أن ظهر كلب الحراسة الذي صار يتربع مع أول كل ليلة، فوق سوربيتهم، باسطاً سلطته على الشارع، من خلال نباحه الذي يبدأ لمجرد سماعه لدبيب قدمي أي عابر.
وعندما كان بعضهم يسأل:
لم كلب الحراسة هذا؟
فإن الجواب يأتي من قبل بعضهم:
لأنهم تركوا الحزب.!..
ويقول آخرون:
بل لأن هناك بيتاً للحزب في دمشق باسم أبيهم ولا يتنازل عنه..؟!
شجرة النارنج التي كانت تتدلى أوراقها الخضراء، على امتداد فصول السنة، من فوق سور بيت بدرو، في أول الشارع، لم تعد المرأة التي طالما سقتها، ورعتها، تشم رائحتها التي كانت تملأ الشارع، بعدأن فرت ومن بقي حياً من أسرتها إلى إقليم كردستان، لينطلقوا من هناك صوب ألمانيا، حالمين بالعودة إلى بيتهم، ذاك، يوماً ما. لم يعد أكثر أهل الشارع يشمون رائحة تلك الشجرة، بعد أن صار البيت صورة عن الشارع كله، صورة عن المدينة كلها، صورة عن الوطن كله.
*فصل من- ممحاة المسافة- صور. ظلال و أغبرة و دار أوراق- القاهرة -2016
وهو مكرر في رواية-شارع الحرية- تصدر2017