ادريس عمر-المانيا
bave-maria@hotmail.com
هذا الكتاب بعثه لي صديق عزيز منذ اكثر من سنتين بنسخته الالكترونية وحثني على قراءته… وما جذبني وشجعني على قراءته هو عنوان الكتاب المؤمن الصادق (أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية)، وعندما سنحت لي الفرصة قرأت الكتاب من الصفحة الى الاولى إلى الأخيرة.
والكتاب من تأليف : أيريك هوفر
ترجمة : د. غازي بن عبدالرحمن القصيبي
الطبعة الاولى : 2010 عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)
يحتوي الكتاب على 242 صفحة وموزع على أربعة أقسام رئيسة وكل قسم على عدة الفصول. بالرغم من أن الكتاب قد صدر منذ أكثر من نصف قرن ولكنه يصلح لهذه المرحلة ايضا.. لابل استطيع القول أنه من أولويات السياسي خاصة في هذا العصر قراءة هذا كتاب لأهميته المعرفية والفكرية والسياسية ولفهم ظاهرة التطرف التي ابتليت بها مجتمعات كثيرة خاصة في شرقنا اليوم، أي ما تقوم به الحركات الجماهيرية من تطرف وارهاب لامثيل له في التاريخ.. والكتاب يجاوب على هذا السؤال الذي يشغل بال الملايين من البشر.
ويقول المترجم في مقدمته: لقد ترجمت هذا الكتاب لأنني وجدت جوابا شافياً لسؤال شغل بالي منذ أن بدأت ظاهرة الارهاب تشغل العالم. وهو لماذا يصبح الارهابي ارهابياً .؟.
في هذا الكتاب يسرد لنا المؤلف بأسلوبه الممتع والسلس عن التطرف وجذروه وبذروه والمعادلة التي يعرضها المؤلف بسيطة ومقنعة في الوقت ذاته وهي تبدأ بالعقل المحبط. يرى الانسان المحبط عيبا في كل ماحوله ومن حوله، ينسب كل مشكلاته إلى فساد عالمه، ويتوق إلى التخلص من نفسه المحبطة وصهرها في كيان نقي جديد. وهنا يأتي دور الجماعة الثورية الراديكالية التي تستغل من ينوء به المحبط من مرارة وكراهية وحقد. فتسمعه ما يشتهي أن يسمع، وتتعاطف مع ظلاماته، وتقوده إلى الكيان الجديد الذي طالما حنَ الى الانصهار فيه من هذا اللقاء الحاسم بين عقلية الفرد المحبط الضائع وبين عقلية القائد الاجرامي المنظم ينشأ التطرف ومن التطرف ينبت الارهاب.
على الرغم من أن هناك فروقا واضحة بين المسيحي المتطرف، والمسلم المتطرف، والقومي المتطرف، والشيوعي المتطرف، والنازي المتطرف،إلا انه يبقى صحيحياً أن التطرف الذي حرك هؤلاء كلهم يبقى ذو طبيعة واحدة.
المتطرف الذي يطبع هذه المرحلة بطابعه هو نموذج انساني لايثير التعاطف أنه رجل قاس، معتد برأيه، يصدق ما يقوله، كثير الجدل، وضيع ووقح. كثيراً ما يكون المؤمن الصادق على استعداد للتضحية بأقاربه واصدقائه في سبيل قضية مقدسة. إن الوحدة المطلقة والاستعداد التام للتضحية بالنفس اللذين يعطيان الحركة الديناميكية اندفاعها الذي لايقاوم لايمكن تحقيقهما، عادة إلا بالتضحية بإشياء كثيرة وجميلة وثمينة هي ما تميز الوجود الفردي للانسان.
إذاً يقتصر هذا الكتاب اهتمامه اساساً للمرحلة النشطة الدعوية الى الحركة الجماهيرية. وتتميز هذه المرحلة اساساً، بسيطرة المؤمن الصادق، الرجل ذي الايمان المتطرف المستعد للتضحية بنفسه في سبيل القضية المقدسة، بالرغم من أننا لانعيش في عصر الايمان إلا ان هذا لاينفي وجود ضرب من التدين تمثله ظاهرة ” المؤمن الصادق” إن ” المؤمنين الصادقين” يزحفون في كل مكان، ويحاولون عن طريق الاقناع أو العنف، صياغة العالم على شاكلتهم… سواء كنا نقف مع “المؤمن الصادق” أو ضده، فمن الضروري يمكن أن نعرف كل ما نعرفه عن طبيعته وما يستطيع أن يفعله.ص17
ويشرح لنا الكاتب خصائص الحركات الجماهيرية سواء اكانت دينية أم اجتماعية ام قومية ويقول بانها متماثلة وتشترك في صفات رئيسية تخلق بينها نوعا من الشبه العائلي .. وتولد الحركات الجماهير في نفوس أتباعها استعداداً للموت والانحياز الى العمل الجماعي.
وجميع الحركات الاجتماعية، مهما كانت اختلافاتها المذهبية وأهدافها تستقطب اتباعها الجدد من النماذج البشرية نفسها وجميعها تستميل الانماط نفسه.
فالحركة الجماهيرية خاصة في مرحلتها الاولى لاتجذب أؤلئك الذين يحبون أنفسهم، ويحرصون على تطويرها، بل تستميل إلى اؤلئك الذين يحبون أن يتخلصوا من أنفسهم نهائياً. تستطيع الحركة أن تجذب اعضاءً وتحتفظ بهم، لا لانها تلبي الحاجة إلى تطوير الذات ولكن لانها تلبي الشوق إلى الخلاص من الذات.ص35.
ويتناول الكاتب النماذج التي تجذب إلى الحركة الجماهيرية في فصوله المتعددة: هم المحبطين، والفاشلين والعاجزين عن التأقلم والمحرومين، والانانيون أنانية مفرطة، والعوانس والجنود المسرحون من الجيش والقلقون وكل الذين فقدوا توازنهم أو لم يكن لديهم توازن اصلاً، هم المادة الخام التي يصنع منها مستقبل الامة. أي الحجر المطروح في الشارع يصبح حجز الزاوية في بناء عالم جديد أن الامة التي تخلو من الغوغاء هي التي تتمتع بالنظام والسلام والاطمئنان، إلا أنها تفتقر إلى خميرة التغيير.
وهنا لا بد أن أشير إلى نقطة مهمة وهي موقف الحركات الجماهيرية الصاعدة من الاسرة جديرة بالاهتمام والتأمل. أيدت هذه الحركات كلها في مراحلها الاولى عداء تجاه الاسرة.
وقامت بكل ما تستطيع القيام به لتفكيكها. وفي هذا السبيل لجأت إلى اضعاف السلطة الأبوية وإلى تسهيل الطلاق والى تحمل المسؤولية عن أطفال وتغذيتهم وتسليمهم والى تشجيع العلاقات غير المشروعة بين الجنسين.
جميع الحركات الجماهيرية تبادلية، بوسع أي حركة منها أن تحول نفسها بسهولة إلى حركة أخرى. يمكن للحركة الدينية أن تتحول إلى حركة قومية، كما أنه يمكن للثورة الاجتماعية أن تتحول إلى حركة قومية.
وإلى جانب الحركات الجماهيرية الضارة، هناك حركات جماهيرية نافعة وجيدة فحركة الاصلاح الديني البروتستاني التي قادها مارتن لوثر أو الثورة الإنكليزية، أو الثورة الفرنسية، أو الامريكية وكثير من الحركات القومية خلال القرن التاسع عشر كانت حركات نافعة.
والحركة الجماهيرية يخطط لها رجال الكلمة، ويظهرها إلى حيز الوجود المتطرفون، ويحافظ على بقائها الرجال العمليون.
واخيراً الكتاب لم يكتب بشكل اكاديمي ويفتقد إلى فهرس للمراجع التي اعتمد عليها الكاتب ولايوجد تناسق بين الفصول، ولكن رغم ذلك أنه غني بالمعلومات التاريخية ودعم أفكاره بأمثلة عديدة من الاسلام والمسيحية والثورة البلشفية والثورة الفرنسية والنازية الالمانية والقومية اليابانية وقارنها ببعضها البعض وأعطى الكاتب أهمية لظهور الحركات مقترناً بما جرى من مجريات الاحداث التي جرت في العالم من القرن الماضي وبأسلوبه السلس ويشعر المرء بأن الكاتب عالم نفسي وانه خبير بمكنونات النفس البشرية ويحللها ويظهر آلية تفكير أؤلئك المتطرفين وكيفية رفضهم للحاضر والتفكير في المستقبل وكيف يرون أنفسهم في الجماعة وبأن أي تغيير في الوضع العام سيغير وضعهم أيضا.
الكتاب جدير بالقراءة والتمعن لاسيما من لدن المثقفين والسياسيين والحكومات التي عليها الاهتمام بفئة الشباب المهمشين والمحبطين وايجاد فرص العمل، والدراسة، وتشجيع المواهب المناسبة لهم وتكثيف الانشطة وبناء منظمات المجتمع المدني النشطة للقضاء على الاحباط وملء الفراغ وإيجاد بدائل معتدلة لكي يتخلص المجمعتات من آفة التطرف و
الارهاب والحركات الجماهيرية المتطرفة التي تسبب الكوراث في مجتمعاتنا الحالية.
——————-