«أسبوع طويل في آمد» لفواز حسين: نوستالجيا وواقعيّة سحريّة كرديّة تكابد بؤس الراهن

هوشنك أوسي
 
باريس، آمد (دياربكر، عاصمة كردستان تركيا) وبلدة عامودا الكرديّة في الشمال السوري، ثلاثة أمكنة رئيسة تتحرّك في عوالم رواية “اسبوع طويل في آمد” للروائي الكردي السوري فواز حسين، الصادرة في 173 صفحة من القطع المتوسط عن دار “آفيستا” في اسطنبول، العام الفائت. هذه المدن الثلاث، بما تختزنه من ذاكرة الراوي (فرزند) أثناء سرده سيرة حياته، بما فيها من تقاطعات وحيثيات وإحداثيات، وفق خط زمني متعرّج، غير منتظم، هذه المدن، تظهر وكأنّها ثلاثة أبطال، تشترك وتتشبك وتتشابك مع حيوات الأبطال الآخرين في هذا العمل. ولا تكمن أهميّة هذا العمل باعتباره المعبر أو المنصّة التي حاول فوّاز حسين من خلالهما تسليط الضوء على العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخ كرد تركيا، وما عانوه من حرب ودمار وفقر وتشرّد وآلام، كانت حصيلة الصراع بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي، وحسب، بل أن مستند الأهميّة يرتكز على تقينات وطرائق السرد والبناء الفنيّ للرواية أيضاً، ما يشي بوجود طاقة وخبرة سرديّة تتكئ على خزين وتراكم لدى صاحب الرواية.  
وحين نكتشف أن حسين المولود سنة 1953 في أحدى القرى الكردية التابعة لمدينة عامودا، سافر إلى فرنسا 1978، وأنهى تعليمه العالي في جامعة السوربون الفرنسيّة سنة 1988، ويكتب الرواية بالفرنسيّة أيضاً، (إلى جانب كتابته بلغته الأمّ؛ الكرديّة)، وترجم ألبير كامو إلى الكرديّة، وعاش منذ 1992 ولغاية 2000 العاصمة السويديّة استوكهولم، هذا يعني أن الرجل عايش واحتكّ مع أدبيّ وثقافتيّ الجنوب والشمال الأوروبي. ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك في طريقة كتابته للرواية والتقنيات التي استخدمها على مستوى بناء الأشخاص والتحوّلات التي تطرأ عليها، وتوزيع العقد أو البؤر الدراميّة في سياق سرد الاحداث، مع وجود مقدرة عاليّة على التخيّل وتوظيف ما هو غير واقعي في سياق واقعي، وبالعكس. وعليه، ربما ليس من الغريب أبداً أن يخلص القارئ، حال انتهائه من السطر الأخير من “أسبوع طويل في آمد”  بأنه إزاء نوستالجيا كرديّة مؤلمة، في إطار واقعيّة سحريّة، تكابد بؤس ومرارة الراهن الكردي أيضاً. كل ذلك، رغم ان الروائي نوّه في مطلع كتابه، إلى أن هذه الرواية، ليست سيرة ذاتية، وأي تقاطع او تطابق بين شخوص الرواية وما هو موجود في الواقع، هو محض صدفة، وأن الحقيقة الوحيدة هي الأمكنة، بخاصّة منها مدينة دياربكر. إلاّ أن ذلك لا يلغي بأن في كل عمل روائي ثمة شيء من السيرة الذاتية او خزين الذاكرة التي يتعمد عليها الروائي، أثناء بنائه عمارته الروائيّة.
مما لا شكّ فيه ان هذه الرواية سياسيّة، لكنها أتت في قالب أدبي، تخيّلي، سلس وممتع، سواء على مستوى بساطة اللغة ونبرتها الساخرة، ومحاولتها التعبير عن الاعتصار والمكابدة النفسيّة والشروخ والانكسارات العميقة في نفسيّات أبطال العمل، أو على مستوى الإيحالات والدلالات والإسقاطات التي وظّفها حسين ضمن متنه الحكائي. ذلك أن معاناة الراوي وهربه من وطنه كان نتيجة خطأ بسيط ارتكبه مع عنصر المخابرات، غيّر كل مجرى حياته، وجعله يعيش مرارة المنفى 25 سنة، كل ذلك من شأنه جعل الرواية سياسيّة، تسلّط الضوء على همجيّة نظام البعث في تعاطيه مع كرد سوريا أيضاً. ثمّ ما اكتشفه في آمد (دباربكر) من خراب اجتماعي، ثقافي، لغوي، اقتصادي…، وحالة الاغتراب الكبيرة عن اللغة الأمّ (الكرديّة) نتيجة حملات الصهر القومي والحرب والأرض المحروقة التي مارسها الجيش التركي، وانتقاده كل الأطراف المشتركة في الصراع، هذا أيضاً، جعل من الرواية سياسيّة، تستند على قصص إنسانيّة جد مؤلمة. وهنا تظهر مهارة حسين ونجاحه في رصد جوانب إنسانيّة مؤلمة من أحوال الكرد على طرفي الحدود التركيّة والسوريّة. بمعنى آخر، رصد التحوّلات السياسيّة وتخريباتها في بنى المجتمع، بعين إنسانيّة، وبعين المحلل الاجتماعي والنفسي، وليس بعين السياسي. ويندهش القارئ من الجرأة التي تنطوي عليها انتقادات الروائي للجانب الكردي، من دون أن يذكره بالاسم حرفيّاً. وهذا ما سنأتي على الإشارة إليه في الأسطر اللاحقة. وعليه، هذا النص الروائي الغاية في الجرأة والمكاشفة، لم يضع الكاتب في مواجهة تجربة سياسيّة، عسكريّة كردستانيّة كبيرة وحسب، وبل في مواجهة جيش الكتبة والمثقفين الدائرين في فلك الحزب، في أجزاء كردستان الأربع، وفي المهجر أيضاً. ذلك أن الكردستاني، مسيطر على الكثير من مفاصيل الحياة السياسيّة والثقافيّة والإعلاميّة والمدنيّة في جنوب شرق تركيا، خصوصاً، وفي مدن تركيّة كبرى على وجه العموم. وأي نقد جريء للحزب الكردي الاوجلاني، ربما يترتّب عليه تبعات وخيمة، تلحق بالكاتب او الناشر، على حدّ سواء.
 
بساطة الفكرة:

فكرة الرواية بسيطة مفادها؛ إن رجلاً في الخمسين من عمره، بعد مضي 25 سنة له في المهجر الباريسي، ونظراً لموجة الثورات والانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي ومنها سوريا، يقرر العودة ليس إلى مسقط رأسه (بلدة عامودا الكرديّة، في الشمال الشرقي وعلى الحدود التركيّة – السوريّة) بل للوقوف قبالتها على الطرف التركي من الحدود، ليلة كاملة، يقضيها متأمّلاً أنوار مصابيها. وبعدها، “فليحدث ما يحدث”. وعلى متن الطائرة التي تقلّه من مطار شارل ديغول إلى اسطنبول، يتعرّف على شخص كردي وزوجته وابنته، اسمه (نوزاد) يبدو عليه المرض، جاء للعلاج في فرنسا. وفي إطار النقاش الذي يبدأ بالحديث عن اغنية شعبيّة كرديّة، ينزلق الحديث نحو معرفة جزء من حياة الرجلين. فيذكر فرزند جانب من تفاصيل يوميات طفولته في عامودا، عبر استحضار الذكريات، وكيف انه كان بعيداً عن السياسة. وفي منتصف الثمانيات، مع انتشار حزب العمال الكردستاني (دون ان يذكره بالاسم) في المناطق الكردية السورية وفي مدينة عامودا، تغيّرت أحوال أمّه التي باتت تناديه بلقب (هفال – رفيق) وتتحدّث في السياسة وتطلق الشعارات والوعود، من قبيل؛ أنه بات الاحتفال بعيد النوروز وباستقلال كردستان قريباً، وسيكون ذلك في مدينة دياربكر على وجد التحديد. وصارت امه تلومه لأنه لم يلتحق بالحزب ولم يحمل السلاح…الخ: “يا حيف على الأشهر التسع التي حملتك في بطني. الرفاق على قمم الجبال يقاتلون هذا العدو الوحشي. وانت تتحدّث إلى في أمور تافهة، وتأتي على ذكر العمل وأواني الطبخ!. بفضل القائد (أوجلان، دون ذكر اسمه)، نحن نمرّ بمراحل شديدة الأهميّة والحساسيّة والخصوصيّة يا رفيق. وسترى في العام المقبل، كيف سنحتفل بعيد النوروز في آمد، عاصمة كردستان المحررة والمستقلّة. نحن نتحدّث عن حريّة واستقلال شعب. وأنت تتجه نحو إرضاء بطنك وتسعى إلى ان تصبح رأسماليّاً!” (ص 58). فيشعر فرزند أن حياته بدأت تتسمم: “حال سماعي كلام أمّي، أدركت أن ما تبقى من حياتي، سأقضيه في كره كلمة {رفيق – هفال} ككرهي لوباء الكوليرا. لم أكن افهم، كيف لأمّ حملتني تسعة أشهر، تأتي وتناديني برفيق؟!” (ص 58).
وهرباً من مضايقات ومنغصات أمّه، اتجه إلى القامشلي (مدينة شمال سوريا) وافتتح مطعماً صغيراً، لأنه كان يحبّ مهنة الطبخ. وبالتالي، كان عليه أن يزوّد مفرزة المخابرات باللحم المشوي (الكباب) مع السلطة ولبن العيران يوميّاً. وفي أحدى الأيّام، تأخّر وصول اللحمة. فاضطر إلى أن ياخذ دجاجة مشويّة إلى عنصر الأمن. ما أثار غضبه وفتح بات جنهم عليه وعلى حياته، وتم سجنه. ولم يخرج إلاّ بعد ان دفع كل ما كسبه من عمله خلال سنوات كرشوة. وفور خروجه من السجن، قرر الهرب من سوريا إلى لبنان، ومنها إلى قبرص، فايطاليا ثم الاستقرار في فرنسا. وهنالك، اشتغل في مهن كثيرة، آخرها فتح “كوشك” لبيع الجرائد والمجلاّت الفرنسيّة. ثم قام بإجراءات لمّ الشمل بصعوبة بالغة حتى تصل إليه حبيبته (برفين) التي أحبّها أثناء عمله في القامشلي. فأنجبت له ولدا اطلق عليه اسم “دارا”. يموت في سنّ مبكّرة، نتيجة مرض كان يعانيه. وتقدِم زوجته على الانتحار برمي نفسها من الطابق السابع، حزناً وكمداً على فقدان طفلها. يبقى فرزند وحيداً يعيش مرارة الوحدة والغربة والتوق إلى الوطن، متنقلاً بين قبري طفله وزوجته الموجودين في مقبرتين مختلفتين!. لكنه يقرر الخروج من هذا “القفص” ومغادرة مدينة الأنوار (باريس) لرؤية أنوار مصابيح بلدته الصغيرة (عامودا).
وبعد الافتراق عن (نوزاد) في مطار اسطنبول، واتجاه فرزند إلى دياربكر (آمد، كبرى المدن الكرديّة جنوب شرق تركيا) واستقراره في احدق الفنادق الأثرية القديمة، يبدأ رحلة اكتشاف عاصمة كردستان تركيا (آمد) التي كانت أمّه تقول له بأنهم سيحتفلون بعيد النوروز وباستقلال كردستان في هذه المدينة. ثم يتفاجأ أن أهل المدنية الأكراد يفضّلون الحديث باللغة التركيّة على لغتهم الأمّ، وكأنّه لم يكن هنالك كفاح ونضال كردي، راح ضحيته 40 ألف شخص!؟. واثناء تجواله يصادفه طيف فتاة جميلة تدعى (ستير – نجمة) تحاول ان تعطيه بعض المعلومات عن المدينة، مع إسداء النصح وبعض الملاحظات حول ضرورة التحوّط والاحتراز من السرقة والنصب والاحتيال، مع أهميّة التماس المباشر مع الناس، وعدم النظر إليهم بعين السائح من فوق الأسوار العالية للمدينة: “سترى بعينيك، كيف أن كل مواضيع وأشكال وانواع البوس متركمة هنا، نتيجة ما حدث للاكراد في السنوات الماضية“. (ص 47).
أثناء جلوسه في مقهى “خان حسن باشا” الأثري، يلفت انتباهه رجل، تبدو عليه سحنة المثقفين. يدخل معه في حوار باللغة الكرديّة. لكن الشخص لا يستجيب، إذ يعتبر ان اللغة الكردية، متخلّفة، ولغة القرويين، بينما هو باحث في التاريخ وعلم الاجتماع، واللغة التركيّة هي لغة راقية، ولغة التمدّن والعلم. ويذكر أنه يتبع مؤسسة تديرها “قره يلدز أوزتوركمن (اسم مركّب معناه: النجمة السوداء). يشمئز فرزند من هذا الرجل وكلامه وإهانته لنفسه وهويته ولغته الأمّ، وجبنه وادعائه الثقافة. ويعرف فرزند أن هذه الـ”قره يلدز” هي المسيطرة على كل شيء في المنطقة. أثناء تجواله في المدينة، فجأةً يجد نفسه منقاداً لمكانٍ غامض، موحش وغريب، وكأنه كهف تحت الأرض. وتظهر له امرأة بدينة ومترهّلة وبشعة، تضع الكثير من مساحيق التجميل، يسهر على راحتها فتيات جميلات. ويتفاجأ بوجود فتاة تتكلم الكردية بخوف وحذر، تقوم باعمال الترجمة من التركية الى الكردية. فتخبره بأن يتجنّب التصادم مع هذه السيدة “قره يلدز” وأن يكون مسايراً ودبلوماسيّاً معها.
تذكر “قره يلدز” له؛ انها تعرف عنه كل شيء، وخلفيّة زيارته لآمد. وسألته عن سبب عدم ذهابه إلى مدينته “عامودا”؟ طالما أن الأكراد سيطروا على المناطق الكردية هناك؟!. يرفض فرزند هذا الوصف، ويقول: “إن الجهة السياسية الكردية المسيطرة على مدينته، تتعاون مع نظام الأسد. ولم يتغيّر شيء. وان نظام الاسد ما زال مسيطراً، من وراء الكواليس”. ويسمع منها فرزند تنظيراً سياسياً حول أهميّة تخلّي الكرد عن شعار استقلال دولة كردستان، والعيش مع الأتراك في دولة ديمقراطية واحدة. فيرفض فرزند ذلك، ويجادلها ويذكّرها بحجم التضحيات التي قدّمها الكرد تحت هذه الشعارات. تحذّره “قره يلدز” من تبعات كلامه، وانه تسبب في إزعاج الباحث التاريخي والاجتماعي التابع لها، في مقهى “خان حسن باشا” باسئلته. وهذا غير مقبول. وتخبره بان الشخص الذي التقى به على متن الطائرة (نوازاد) هو احد الخونة المنشقين عن الحزب. وأن المرض الذي يعانيه، سببه “تأديب الحزب له، على ما اقترفه وافتراقه عن الحزب”. يضبط فرزند نفسه، على أمل ان يخرج من ذلك الكهف، لأن أمامه مهمة او رحلة يجب ان ينجزها.
تستمرّ المصادفات إذ يلتقي بطفل في العاشرة من عمره، اسمه ميرزا، يتفيّأ شجرة موجودة على مفترق طرق، يبيع بذر البطيخ للمارّة في قيظ الصيف اللاهب. يعرف فرزند ان الطفل الذي يتكلّم بكرديّة فصيحة، بخلاف اترابه، يريد ان يصبح خطاطاً وفناناً يكتب باللغة الكرديّة. ويتعرّف على ولادته وقصة عائلته. وكيف ان والده ترك امه واخته “بروان” والتحق بالمقاتلين الاكراد، وحمل السلاح في وجه الدولة، جرياً وراء الشعارات الكبرى: “تحرير وتوحيد كردستان“. وكيف ان اخته “بروان” حين بلغت السادسة عشرة، هي ايضاً التحقت بوالدها كي تحمل البندقية معه، وما ألحق ذلك من دمار بالعائلة الصغيرة. فضلاً عن ألم وتشرّد الأم بحثاً عن ابنتها في كردستان العراق، ثم عودتها إلى قريتها، ثم مغادرتها القرية إلى مدينة دياربكر. وإصابتها بلوثة نفسية، قوامها؛ أن زوجها هو المسؤول عن كل ما جرى. حتى انها كانت تظن فرزند هو زوجها (فرمان) الذي اتى مجدداً بعد مضي كل هذه السنوات، كي يأخذ الطفل “ميرزا” كما اخذ اخته “بروان” إلى الجبال.
يتفهّم فرزند الحالة النفسيّة المزرية للأم، ويحاول عدم التصادم معها. وبعد عجزه عن إقناعها بانه ليس فرمان بل فرزند، يقبل على مضض أن يلعب دور فرمان التائب العائد من خيبته وانكساراته ليكمل حياته من زوجته وطفله. يصل فرزند إلى اليوم السابع الاخير، ويغادر المدينة، بعد أن ترك رسالة للطفل ميرزا يذكر فيها أن منح كل ما جمعه من مال في مهجره الباريسي له ولأمه، كي يخرجا من المدينة ويبدأا حياتهما من جديد.
 
التحدّث إلى الحيوان:

اثناء تجواله في المدينة، عدا عن الفتاة “ستير” يصادف فرزند عصفوراً يحدّثه في واقع المدينة الأليم، وعن جبروت وسلطان “قره يلدز” الممسكة بخناق المدينة، في إشارة رمزيّة لسلطة “العمال الكردستاني”. بخاصّة أن شعار الحزب هو النجمة الحمراء. بينما اسم المسؤولة عن السلطة “قره يلدز – النجمة السوداء”. ويشير العصفور إلى التشارك بين “الكردستاني” والدولة التركيّة في ما حصل بالمنطقة من خراب ودمار وتهجير وتتريك: “ما كان للحكومة أن تنجح في سياساتها القذرة مطلقاً، لو لم يلبِّ الحزب نداء استغاثة الحكومة ويأتي لنجدتها” (ص 108). “هذه المرّة الأولى في تاريخ كردستان، تظهر فيها حركة، من المفترض أنها كرديّة تحررية ووطنيّة، ترعب الأكراد لهذه الدرجة!” (ص 110).
 اثناء جلوسه على جسر يسمّى “الابواب العشر” في آخر ليلة له في “آمد”، يلتقي فرزند بجرادة، تتحدّث معه أيضاً عن بؤس المنطقة وما ألحقته الحرب بها، وتشير الحشرة إلى حملات التتريك التي تمارسها السلطة الكرديّة على البشر والحجر باسم تحريرها من سلطة الدولة، في حين أن كل جهد هذه الحركة ينصبّ في طاحونة الإدماج بالدولة التركيّة: “الحركة التي من المفترض أنها كانت تقاتل الدولة التركيّة، وتطالب باللغة والهويّة والخصوصيّة الكرديّة، هذه الحركة، جعلت من اللغة التركيّة لغتها الرسميّة في تعاملاتها الداخليّة والخارجيّة. والأكثر غرابة أن هذه الحركة كانت تنتقد العدو (التركي)، بينما في كل تفاصيل الحياة اليوميّة، تعجل من العدو مقياساً وأنموذجاً لها. وتتحدّث هذه الحركة عن الديمقراطيّة، ولكن أي حزب، مهما كان صغيراً، في حال أظهر نوعاً من المعارضة، كانت الحركة تسحقه. وتلحق به ألف تهمة، على ان هذا الحزب، أحد أذناب الدولة التركيّة والرأسماليّة العالميّة. حركة تتحدّث عن أهميّة العلم والتعليم في بناء المستقبل. ولكنها تفعل المستحيل في سبيل تجنيد الصبابا والشباب، وتمنعهم عن إكمال تعليمهم” (ص 147).
ويعرف فرزند من هذا الجراد الذي يمتلك قدرة على استجلاء الأماكن والاحداث، أن الحزب قام بإعدام الفتاة “بروان – ستير” شقيقة ميرزا، لأنها كانت تسأل كثيراً، وغير منضبطة بقواعد وقوانين الحزب، وتنتقد تفضيل اللغة التركيّة على الكردية ضمن الحزب.
 
يحقق فرزند حلمه في ملاقاة بلدته من وراء الحدود، ويتأمّل أضواء مصابيحها. ويتراءى له صديقه “أحمد المجنون” (أحد مجانين مدينته) من خلف الحدود، ويتبادلان أطرف الحديث، ويريد فرزند أن يلقي لأحمد كيساً من الموالح. لكن الاسلاك الشائكة واللالغام تحول دون وصول هذه الهدية البسيطة. يقرر فرزند اجتياز الحدود وسط حقل الالغام، ولا يكترث بنداءات وصرخات احمد المجنون الذي يحذّره من خطورة ذلك. وفجأة يسمع دوي انفجار يرفعه عن الارض ويلقي به بعيداً، ولا يشعر بحركة رجليه. تظهر له الفتاة “ستير” مجدداً وتحمله وتخرجه من حقل الألغام.
يختتم حسين روايته بنهاية مفتوحة، عبر الرسالة – الوصيّة التي تركها فرزند للطفل ميرزا وأمّه. من دون أن يشير إلى مآل فرزند: هل مات؟ هل عاد إلى باريس؟. وهل كان كل ما جرى محض حلم، وليد نوستالجيا كردي يكابد آلام الوطن والغربة؟!.
 
ضد الحرب ونتائجها:

رواية “أسبوع طويل في آمد” عنوانها يوحي بوطأة الزمن في فترات الحروب. إذ أنه لا يوجد أسبوع طويل وآخر قصير. بينما في الزمن الروائي، كل لحظة من لحظات الحروب، يمكن قياسها بسنين. من جهة أخرى، العنوان والمتن الذي يليه، يحاولا تلخيص ثلاثة عقود في أسبوع من المشاهدات والاستحضارات والحوارات والأحداث. وعليه، هذا النص الروائي يمكن اعتباره من أهمّ النصوص السرديّة التي ألّفها روائي كردي في سوريا، وربما في تركيا أيضاً، تنتقد مرحلة الكفاح العسكري والسياسي الكردي، وحجم النفاق الموجود في هذه المرحلة، والخراب والويلات التي ألحقتها بالمجتمع الكردستاني. كل ذلك في إطار بناء روائي متماسك وسلس ومشوّق، مع وجود نفس فكاهي ساخر إلى جانب اللحظات المؤلمة أيضاً.
وما من شك أن العمل يعاني من بعض الهفوات أيضاً. على سبيل الذكر لا الحصر؛ زواج ام ميرزا (بسنا) من أبيه (فرمان) وهي في سن الثامنة. بينما فرمان في السابعة. وبقاءهما دون علاقات حميمة إلاّ بعد مضي 5 سنوات، بدخولهما مرحلة البلوغ!. هذا النمط من الزيجات، غير موجود في المجتمع الكردي. وإذا كان هنالك حالة فرديّة هنا أو هناك، لا يمكن اعتبارها قاعدة. كذلك لا يمكن اعتبار هذه المعالجة، ضمن الفانتازيا التي قد يلجأ إليها الكاتب في الأعمال الروائيّة التي تنطوي على مساحة من الواقعيّة السحريّة.
هذا العمل، هو رواية المفاجآت والمصادفات والمرارات والتعويض. ففقدان فرزند لزوجته وطفله في باريس، ومحاولته الهرب من هذا الألم والحزن في المهجر، جعله يلاقي ألماً وحزناً أكبر في حكاية الطفل ميرزا وأمّه في الوطن، بحيث تصبح حكاية هذه الأسرة الكردية الصغيرة، حكاية شعب بأكمله. ولجوء حسين إلى استنطاق العصفور والجراد بكلام، يعجز عن التفوّه به المواطن الكردي، في إشارة منه إلى تبعات قول الحقيقة المريرة والمؤلمة. لكأنّ حسين في روايته هذه يقول: لا تسألوا الكرد عن بؤس حالهم، لأنهم لن يقولوا الحقيقة. واستعيضوا عنهم بسؤال الطبيعة، الطيور، الأشجار، الحشرات…، التي ستدلّكم على مرارات ومكابدات وآلام المكان وقاطنيه بسبب الحرب والصراع والاستبداد السياسي. كذلك “الكابوس” الذي هرب منه بطل العمل (نظام البعث وحزب العمال الكردستاني) سنة 1988، وجده يلاحقه ويحاصره في دياربكر سنة 2013. لكأنّ هذا الكابوس أو هذه “الكوليرا”، حسب وصفه في الرواية، صار جزءاً من القدر المكتوب على الاكراد، ولا يعرف أحد، متى يمكن الفكاك او التحرر منه.
==================
مجلة “عالم الكتاب” المصرية. عدد شباط / فبراير 2017
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…