وليد معمو
كان “بوستك ” لا يفوِّت مناسبة أو يوفر وقتاً لتثبيت أركان نفوذه في داخل بيته وخارجه ، فتجده يستعرض مناوراته وبهلوانياته أمام زوجته ، وأولاده ، ليضفي على شخصه شيئاً من سلطة معدومة أو واهية ، تارة بالتهديد وأخرىٰ بالوعيد ، فتراه يقول كلما دق الكوز بالجرّة :
ياليتني أصير والياً لساعة واحدة… يا إمرأة… !!!.
ويا ليتني أصبح قائممقاماً كبيراً فقط لنصف يوم…!!.
نعم فقط لنصف يوم … لا غير … !!.
كنت سأربي أهلك وأولادك وأهل القرية من جديد ، وكما أريد ، ليقفوا أمامي مثل العمد … أجل مثل العمد !!.
وخاصة أخوتك ، كنت سأعلِّمهم الأدب من جديد ، حتى يعرفوا ويتعرفوا على صهرهم الحقيقي “بوستك” من جديد ، ولعلّمتهم كيف يكون الأدب والاحترام !!!.
كانت هذه هي حال السيد ” بوستك ” في معظم الأيام ومجمل النواحي ، وهي هواجس شخصيته الغريبة ، الممرغة بأحلامِ نومهِ ويقظته ، والمتباكية دائماً على أمجاد العائلة الوهمية التى لم يرها أحدٌ غيره ، ومترنحاً بين المال والجاه … المعدومين … حالماً وتائهاً في دهاليز الزّعامة … على أنقاض ممالك عائلته المزعومة ، التى أسسوها ذات يوم إفتراضي ، وفي أرض معلقة في سماء ذهنه .
تذهب الأيام وتجيء أُخر ، ويترادف غروب شمسها بشروقها ، في حياة السيد ” بوستك ” الرتيبة ، وهو يتمرّغ في غبار الفحم كبغل ، فهو مجرّد فحّام صغير في غابات السنديان بكورداغ ، يذهب كل صباح إلى الغابة حنطيُّ البشرة ، ويعود بعد بضعة أيام كزنجي أسود ، عيونه وأسنانه تبرق في أرجاء سحنته السوداء .
ومنتوجه من الفحم بالكاد يسد رمقه ورمق الأولاد ، بعد رفده بحشائش جبل هاوار القابلة للاستخدام البشري ، وإضافة بذور غابة السنديان من الزعرور والبلوط… والجانرك الكورداغي المّر الأصيل .
وذات يوم وكان بوستك قد تسلل عائداً إلى بيته من عمله في الفحمكارية عبر وادي “سوسناك”، خلسة كي لا تراه الأعين وهو موشح بالسواد ، ودخل فناء داره ، وطرح بجسمه المتعب على الأرض ليرتاح قليلاً ، ولم يكن قد تسنى له بعدُ الوقت الكافي ليغتسل من غبار الفحم ، ودون سابق إنذار ، يُفاجئ بجلجلة وهمهمة قوية في الخارج !.
وإذ بـجوقة من الخيَّالة العثمانيين ، مزركشي الهندام ونظيفي الأبدان ، وعلى درجة عالية من القيافة والأناقة ، و يبادرونه بالسلام والسؤال : أين قصر “گولين بوستك” باشا ?!!.
بعيونٍ مدهوشة أجابهم : يا سيدي لا يوجد في المحلة غيري أسمه كولين بوستك ، وها أنا ذا أمامكم ، وهذا هو منزلي… وهذه هي حالتي .!
ترجّل اليوز الباشي من صهوة جواده مقترباً وهامساً في أذنه ، لكي يدخل وينظف ويرتب نفسه ، فهو يحمل له فرماناً هاماً من السلطان سيغير حياته ، وأن عليه أن يجهز حاله ليصار إلى تنفيذ الفرمان .
دخل الرجل بيته بسرعة ، وأخذ حماماً سريعاً على طريقته ، وهو مرتعد الفرائص خائف !!.
خرج بعدها جاهزاً لتلبية الأمر السلطاني ، وعلى حين غرّة ضرب له الجمع تعظيم سلام ، ونفخت الجوقة في المزامير ودُقت الطبول ، وألبسوه معطفاً مبعوثاً من السلطان ، مباركين له المنصب الجديد ، فقد بات يلبس عباءة السلطان وأصبح الحاكم بأسمه ، و استكملت الجولة المراسيمية المقتضبة ، حيث قُرأ فرمان ملك الزمان ، واستقر المعطف القادم من الآستانة على قوام الوالي الجديد …
وأفاده اليوز باشي أن المنطقة برمتها ستنعم بدءاً من اللحظة تحت حكمه وحكم السلطان ، بالرعاية الكريمة .
انصرفت جماعة المراسم بعد اكمال عملها ، من أمام دار جناب الوالي الجديد ، والرجل مشدوه ، ومستغرب للموقف كله ، وغير مصدق ، لما بين يديه وحاله ، ولكن ما شاء الله قدّر وفعل ، فتقبّل المنصب فرحاً مزهّواّ .
تاركين للوالي ما يلزمه من القوة والرجال والأختام والقراطيس .
وطوال تلك الليلة لم يذق الرجل طعم النوم ، متقلباً على جنباته في الفراش ، ولا يقر له قرار ، يفكر بمن سيبدأ عهده الميمون ، والسلطان الذي في داخله ، كبُرَ ونما بسرعة ، ولم يدع له مجالاً للنوم …، فالسلاطين متشابهون ، صغيرهم وكبيرهم ، كالافاعي السامة .
في صبيحة اليوم التالي نزل برفقة خيّالته إلى دار السراي مزهواً ، وبعد التسليم والاستلام الروتيني ، من الوالي القديم ، وإكمال إجراءات البروتوكول الضرورية ، جلس بوستك على كرسيه ، في نهاية المطاف .
وفي أول ممارسة لسلطته ، أمر جنوده بجلب أخيه المشاكس الأعرج “كويتو” ، فجُلب الرجل على جناح السرعة ، ومثل بين يديه كعمود خيمة .
أمر الوالي العسكر بأخذ “كويتو” خارجاً وليربطوه إلى سارية في ركن من دار السلطنة وصعد هو إلى سطح السراي ، في حركة استعراضية أمام أعين الرعية والعسس والمخاتير ، وتبوّل على رأس أخيه ، حيث هو على الأرض ، وعلى الملأ ، لتلقينه ، وتلقينهم ما يلزم من دروس عنجهية السلطة ورعونتها البشعة ، ثم أمر بأنصرافه و “كويتو” ذليلٌ مكسور ، بينما هو تمختر نازلاً مزهواً بعد تفريغ نقطة من سمه الزُّعاف في جسد الرعية ، ومنشرحاً من ألم أخيه ومهانته .
قضى الوالي ” بوستك ” باقي النهار في التجول بين بعض بيوت القضاء ، وهو يهدد العامة بالويل والثبور وعظائم الأمور ، طالباً منهم الاستعداد والتحضُّر لخدمته ، حيث خدمة السلطان ، ومشيراً إلى ضرورة إحضار الخراج للباب العالي … ، فرأس الطاعة هي مدفوعات ورضى من سلطان الزمان .
عاد الباشا إلى بيته ، والطريق لا تتحمَّله ولا تسعه ، للطغيان المستعر بداخله ، ففي كل خطوة كان يشعر بأن الأرض تهتز تحت قدميه ، والحقيقة أن قلبه بخفقانه هو الجزء الذي كان يهتز ويرتجف من الكون .
وفي منتصف ذات ليلة ، ليست ببعيدة ، بعد بضعة أيام من تسلمه الحكم ، وبينما كان الوالي يغط في نوم عميق ، ويسرح في سهول وكروم الناس ، ويجمع ويطرح أكياس الزبيب ، وخوابي السمن والعسل ، وجرار الزيت ، وأكياس القمح والشعير ، يوقظه منادٍ ، في الخارج ، كي يخرج ، فطلع عليهم ، وكانوا كتيبة فرسان كبيرة ، طلبوا إليه إعادة المعطف والنياشين والأختام السلطانية ، دون مقاومة ، وأن هذه العدة لم تكن له أصلاً ، وقد أرسلت بطريق الخطٱ ، بسبب تشابهٍ في الأسماء ، وأن المعطف لشخص آخر يحمل نفس الأسم “بوستك” ، وأن الولاية ستذهب لصاحبها الحقيقي ، بدءاً من صبيحة اليوم التالي .
جرد بوستك من جميع المظاهر السلطانية ، من مال وجاه وسلطة ولكن بعد فوات الآوان . فقد كان قد تبول على رأس أخيه ، الذي هاجر البلدان بسبب الذل والهوان !!!.
كورداغ في 5-2-2017