ابراهيم محمود
” إلى محمود عباس لكلمة قلناها : غداً “
بقرة جغرافيتنا ذات القوام غير المسبوق
ضجرتْ من ثور تاريخنا الأدرد
كيف أنبّه رحم بقرة جغرافيتنا الفائح الرائحة
إلى خطورة التبرج أمام ثيران الآخرين الرمّاحة ؟
**
التيوس لا تشرب الشاي بسهولة
لا بد من عنزات تخدمها بمواصفات شبقية معينة
وراحتها خير واشية بها
التيوس تثمل بشرب الشاي من مقْدم عنزات
فائقة التبرج بما لا يقاس
**
الحيوان ليس شاهد زور لأحد
وقد رفض امتلاك الذاكرة
يصدَّق الحيوان أنه يتعدى اسمه
من جهة من يحيله أضحية نزواته
**
كيف أبتكر مسافة تعينني
في رؤية ليل المنحدرات
كيف أمنحني جرعة جاذبية
لئلا أنفلت من عقال الأرض ؟
**
امنحوني سوطاً من ماء الفرات
لأنبّه الهواء الراكد من غفلته
علَّ جنادب المكان تخفض صوتها
احتراماً لأشجار أثكلتها قرود المكان
**
أيها العقرب الصريح بمعدنه المقاوِم
هلا أعَنْتَني قليلاً بسُمّك الترياق
لأرواح ضاقت برؤوس تفحَّم داخلها؟
لتهتف باسمك الجهات الأربع .
**
تهجأتُ بظل غزال
تعقَّبتني سن ضبع صفيق
هششتُ عليه بعصا غاضبة
باح لي قائلاً: برّية مفتوحة
أرحم من خطى كثيرين تعرفها طرقاتك
**
قلت للكتابة تنفسي بعمق لينتبه الهواء
قلت للهواء اصحَ ليصافحك الماء
قلت للماء أرني موسيقاك ليرقص التراب
قلت للتراب انتفض بالماء ينتعش الشجر
قلت للشجر أين وعدي بك لغابة باهرة
قلت للغابة شدّي أرضاً إلى عنان رحابة
قلت للرحابة عرَّفي بنفسك كرمى كتابتي
قلت لكتابتي ليس لي إياك
فميلي إلي
كي أستعيد ظلي المختطف مذ ولدتُ
**
لو أُمنَح غالوناً من الهواء
لأعزّز كتابتي بفكرة طليقة
وأعيد الدورة الدموية إلى يراعي
علَّني أحظى بخيال جامح
علَّني أكافَأ برؤية نقية
**
عملت للبحر فركة أذن
وأنا أعاتبه قائلاً: اذهب بأسنان قروشك
ليكون في مقدور مصطافِي كتابتي
الاستلقاء على رمل حرية دافئ
ولو في غفلة من تسونامي ما
**
أحبّة القرنفل
أحبة الحِلم
أحبة الطرق المغردة
أحبة المفاجآت المفتقدة
أحبة البهجة السريعة النفاد
أحبة الأمس الآتي
أحبة الأيادي ذات الشرفات العالية
أحبة الرؤى المنفرجة
أحبة الفخاخ المنصوبة
أحبة اللحظات المغفلة من أسمائها
أحبة المقادير المتقلبة
أحبة صباح مشاكس
أحبة ماء منغلق على نبعه
أحبة المناقير المتوثبة
ها أنتم نزلاء كتابتي
**
يكفيني أحياناً ظل صديق
لتتكئ عليه رؤياي كي تثب
يكفيني أحياناً نبض فراشة
كي أطلق ربيع فكرتي من عقالها
يكفيني أحياناً ترميح نمر مجنح
كي أهب الأمان لخطاي
يكفيني أحياناً سنتيمتر من السكينة
كي أحلم بطفولة لم أعشها بعد
**
أحياناً ، كل طرق كردستان لا تكفي لتمرير فكرة لي
آه، إنها خطيئة الجبال
مالنا وما للذين يركَّبوننا أوهامهم؟
تردُّ الجبال بصوت واحد
ويحجَّر على فكرتي طي حواجز أهلية
**
قامشلو وديعتي النازفة
آمد فجيعتي ذات العويل
مهاباد مأساتي التي لم تندمل بعد
هولير مرساتي المثقَلة بالرصيف
فكيف أنقّح خطاي
كيف أضع ” الهمزة ” على ألف تفصلني عن خطي ؟
**
يؤرقني الحجل ببكائه المر
وما يُسنَد إليه من أفعال
ما الذي أوقع بالكردي ليمضي بخياله التنبل
ملقياً لوم سقوطه على حجل هو زينة كردستان ؟
**
ما أكثر جهات مدادي
ما أقل أقل معابر حلُمي
كل الطرق غير سالكة إلا بصعوبة
بسبب تدافع الظلال
والأشباح الذاتية الصنع
**
تعلمني القصيدة الصباح
يا لضجيج الليل
يا للنهار المكفهر الوجه
يا للصباح المنكود
في بلاد يعادون الساعة فيها
**
حتى أنهارنا ضاقت بأمواهها
حتى جبالنا ضاقت بقممها
حتى طرقنا ضاقت بأدلتها
حتى لغتنا ضاق بلسانها
حتى صوتنا ضاق برئاتنا
حتى قبورنا ضاقت بحفّاريها
وما زلنا نحلم بفراشة مغموسة في الضوء .
**
للتماثيل أن تغوص عميقاً
للشجر أن يفر خجلاً من حراسه
للموسيقا أن تنتحر سخطاً على طباخيها
لأسرتنا أن تطرد النوم بعيداً
للغد أن يتوارى في الأمس
**
في الغد المنصرم
قال القاضي محمد:
كان علي ألا أكون قاضياً
لأكون محمداً
وأحسن التحكم بالأمس أكثر
**
وشق القصيدة لا شأن له بالمحمية
تصوَّروا امتعاضه إذ يعزَم على تبن
بزعم أنه نباتي
كيف لقصيدة جائعة أن ترفع رأسها ؟
**
هذه البلاد التي لم تؤالف الأقفاص
هذه الأقفاص التي تصادق اللاتناهي
كيف لها أن تصغي إلى من
لم يشبَّوا بعد عن القيود المتعددة الألوان ؟
**
يمكن لشجرة بذاتها
أن تبز غابة بكاملها
أن تهزم لغة استخف بها أهلها
إن جف في ضرعها ماء الحياة
**
كم موقعاً صادقته أيها الجغرافي
لتشهد الأرض بأمومة كاشفة ؟
كم موقعة تنفَّستها أيها المؤرّخ
ليمنحك التاريخ شهادة ” غير محكوم ” ؟
**
سافرت في دم ملا جزري
راعني مشهد النابشين في دمه
بزعم فورة عشقهم له
نقَّبت في لحم قاضي محمد
لكم كثُر أكلة لحمه بدعوى تبجيلهم له
تصفحتُ صوت جكَرخوين
أذهلتني أعشاش الوطاويط فيه
**
للكردية أربعون حرفاً
تكفي ترّهات المساومين عليها
كيف يصادق شهداؤها
على اللغة التي أعيتهم وحدتها ؟
**
لغات الكرد كثيرة
لهذا لا لغة للكرد
ما أكثر الكرد
كيف يدخل الأعداء إذاً إلى حنجرتي ؟
**
لكم أئتنس بالذئاب على طاولتي
وأنا أتدثر ببرّية تعطّر طاولة قراءاتي
غرفة نومي تحت رعاية نمر كلّي اليقظة
فلتجرب بنات آوانا حظها في هجوم مباغت
إن كانت من نسل أبيها حقاً!
**
ليس للثيران أشرقت برّية القصيدة
ليس للكلاب الضالة سمّيت بوصلة القصيدة
ليس للفِيلة المتغطرسة امتد نهر القصيدة
ليس للذئاب التي تدخّن الأرجيلة حتى آخر الفجر
ثغت حِملان القصيدة
ليس للخنازير المدثَّرة بالمستقع انفرش مرج القصيدة
ليس للثعالب المفتونة بفسواتها ترشرش عطر القصيدة
ليس لأفاعي الماء المكتظة بالغرور تلألأ سمك القصيدة
ليس لشجر الشوك البصاص يتنزه ورد القصيدة
ليس للسلوقي غير الموقّر ظله يتألق ربيع القصيدة
ليس لشاربيْن ملغمين أقبلت مرآة القصيدة
ليس لليمام الذي طلَّق الهديل توثّب فضاء القصيدة
ليس لوجوه شاهدها القناع يوهب نعناع القصيدة
ليس للحديد الثمل بالصدأ ينتشي مغناطيس القصيدة
ليس لـ” واد غير ذي زرع “، تحط رحالها فراشات القصيدة
ليس لعين خاصمها الماء ورود قافلة القصيدة
ليس لطريق أخطأ لجهات
يطرّي وحشتَه رنين القصيدة
ليس لذهب اعتمره لمعان ماكر
يضيء معصم قصيدة
ليس لعطار يريد دخيل على اسمه
ترحّب به توابل القصيدة
ليس لنخاس مثقل بالابتسامة
تبرَّج جسد القصيدة
ليس لأفق الحرية تغمض روحَها القصيدة
ليس لطفل مشدود إلى الحياة
تحتجب مناغاة القصيدة
ليس لمسن طي جمر الأمل
يغلَق محضر عمر القصيدة
ليس لعامرة بأربعة وأربعين جموحاً
يخيّل أملها حامل راية الصيدة
ليس لمن ينصب فخاخه الرخيصة
تهبط من عليائها القصيدة
ليس لمن يرفع لي ” كأسك كأسك “
تنام جرار خمر القصيدة
**
أحبك لست أحبك
كوني تجاوزت ” حد ” أحبك “
فلا شيء يضير ” أحبك “
أكثر من إني أحبك
وكوني كلّي ” أحبك “
فكيف أحبك جزء المعنى
يقابل أحبك كلَّ المعنى
**
أكثر من اللغة يكون لقاؤك في المستحيل
أبعد من اللغة يكون احترافك في التوحد
أعمق من اللغة يكون احتواؤك في العناق الصامت
أرحب من اللغة يكون ارتشافك في الروح
أعذب من اللغة تكون مزمزة اسمك ليل نهار
أطرب من اللغة يكون التغني بظلك الطليق
أعلى من اللغة يكون استشراف سموّك
أسلس من اللغة يكون انبعاثك في كامل الروح
يا وطناً لم ألتق به بعد
**
إياك أن تشرب من يد
ليست صريحة بأصابعها
إياك أن تشربي من يد
لا تنفتح للضوء بكاملها
إياك أن تغمض عينيك في الريح
فهي تخبئ ذئاباً غير مرئية
إياك أن تفتحي عينيك للريح
فهي تسوط أبخرة تنويم مشبوهة
إياك أن تصافح الرصيف الواطئ
فثمة مقنَّع يلغّم الطريق أسفلك
إياك أن تهادني رصيفاً مستقيماً
فثمة رجل من قذيفة في إثرك
إياك أن تداعب وجهك
خوف قناع يرمي بك أرضاً
إياك أن تداعبي وجهك
خوف قناع يجعلك أرضاً له
**
وهأنذا أنتقل من الغد إلى الماضي القادم
هأنذا أقلب القصيدة على قفاها
هأنذا أطمئن كتاب النثر
بأن كل اللغة على ما يرام
ليهدئ اللسان من روع الأوتار الصوتية
إذ تستباح أبجديات في وضح التلفزيونات
**
أعبر بك الطريق
من يعبر بي الجسر لصراطي ؟
أعبر بك النار المفروشة
من يجنّبني تطاول الأتون ؟
أطوي لأجلك النهر
من يروّض لي الدوامة ؟
أشد لك العاصفة من خناقها
من يمنحني لمسة من النسيم العليل ؟
أقصي عنك وثبة النمر القاتلة
من يُنسيني مباغتة نهش الضبع ؟
**
إنها الأفلام التي تنسّينا برودة الوقائع
إنما كيف لهذه النار في أضلعنا أن ترحل عنا
ريثما نسامر البقية الباقية من فلول أحلامنا ؟
ونحتسيها في رشفة قصيدة
مكتوبة على عجل
على وقع ” غراندايزر انطلق ” !
**
خردل من الخميرة النقية يكفيني
لتشبَّ عجينة الكردي عن طوق وعائها
خردل بالكاد يُلمس على قارعة التاريخ
ليهلل لرغيفه تنور الغريب في الحال
**
متر من الهواء النقي يكفيني
لإنعاش آلاف الكيلومترات المربَّعة من الميكروب الكردي
متر واحد – فقط – من الهواء المحايد
لأعتمر قبَّعة الحرّية
**
للعلم :
تعثرتْ قدما ابنة جارنا
بقصيدة داعرة نصبها لها
ابن جار لنا دأبه احتساء المغامرات
للعلم :
فوجئتْ وردة بشوكة تتربص بها
نزفت دماً
رثتها كل فراشات المنطقة
وانتشت الشوكة على رائحة دمها المضيء
للعلم :
خرج نبعٌ متنزهاً
عكَّر مزاجه سيل جرف
تمغص باطن الأرض
وأبت الغيوم أن تبكي ثانية
للعلم:
وعدت ِالشمس الجبل بمنشفة دافئة
تغطرسَ الجبل بغيمة مانعة
فامتنعت الشمس عن التنفس
وكتم البرد الجليدي أنفاس الجبل
**
ليكن البدء المعكوس:
سأرمي الأنهار بكل كتاباتي
سأتبرع بكل خواطري المتبقية
للينابيع التي لم يأت مخاضها بعد
سأمنح كتبي للمقرورين من البرد
ليحرقوها بطريقتهم
سأتبرع ببقية ثيابي للعصافير المبتلة
سأهبُ المتبقين من أصدقائي
للطرق التي يرغبون فيها
سأنزع عني قلبي الممحو كثيراً
عشاء أخيراً لباتروس أنهكه الجوع
سأنزع عني جلدي قبل فوات الأوان
وأدخل عالم النسيان
عل وطناً يُذكَر بدقة أكثر
ربما لأني الغريب الذي كان عليه
الخروج من كل ما يعنيه آدمياً …
وأريح منّي مني
دهوك – في 9-2/ 2017