لا تسألوني ما اسمها: شاعرة

ابراهيم محمود
” إلى مجهولة معلومة في أعالي الشعر “
سيدة كردية ، كما أعلم بسيرتها، وأنا أكتب عنها دون أن أسمّيها استجابة لما تعرَّف به، تعلِمني أنها يائسة من خاصة الشعر لديها، وهي ذات اقتدار، ولعلها من حيث المبدأ تمنح الشعر المكانة المستحقة، سوى أن برمها من تعامل الكرد قبل غيرهم بهذا الكائن الفائق النعومة، الفائق الإثارة، قد يكون من الأسباب الموجبة لأن تغلق على نفسها بالطريقة هذه، ولعلها فيما تتنفسه شعراً، يبقيها منفتحة على روح من الشعرية المانحة لها حضوراً فنياً تحسَد عليه قياماً وقعوداً، حضوراً وغياباً.
سيدة في مقام الشعر الكردي، ولو أنها تسلس القياد للشعر بلغة ” الضاد “، إلا أن ذلك لا يمنع من أن يكون النبع نبعاً، إن انبثق في هذه الجهة أو تلك. ما يهم هو الاحتفاء بولادة نبع، نبع يغترَف منه بمقياس روحي، تأتيه جموع الطيور والزهور من كل فج عميق، فالشعر وحده لا يحتاج إلى من يكون دليله، أو ” مكبّر صوت “، يكفيه اسمه ليس إلا.
كردية شعر السيدة هذه، وهي البعيدة عن الوطن المعنَّى، تتجلى في أن مجموعتها الشعرية التي تنتظر لحظة ” الولادة “، أي ” كي لا يجرح المطر أصابعه “، تمضي في فتح عالم الشعر المطري: كيف يمكن للشعر أن يكون مطراً ؟ ما أكثر حالاته وهيئاته ووجهاته. إنما كيف يؤتى به، ويصار إلى كتابته؟ ذلك ما يتوقف على الذاكرة الروحية التي تكون ” أساس التفكير الشعري ” بتعبير” هارولد بلوم “. كيف يمكن أن تنبني علاقة بين مطر لا يقبَض عليه، منهمر من عل، وينفذ في مسامات التربة؟ مطر شفاف، ومطر متقدم في انسكابه، والأصابع التي تصل باليد، واليد بالجسد، والجسد موصول بالروح، أي حين تكون الأصابع مطلات الروح المرئية، وهي تستقبل المطر.
والمطر صيَغ، وشاهد عيان سماوي، ومترجم أحوال الأرض، ورحالة منثور على الكائنات، وملامس أسرارها.
ولعل السيدة الكردية التي أرادت مني أن أقيم حواراً مع شعر مجموعتها، قبل أن تقيم هذه صلات مع الخارج، هأنذا أتكتم على اسمها بالكامل، ودون أن أعلمها بما أقدمت عليه في هذه المباشرة الكتابية، مع شعر لا يحتاج إلى من يفيّزه، وهو يمتلك قائمة الإمكانات التي تنسّبه إلى أعالي الشعر، كما لو أن الكتابة من هذه النقطة النائية، تعبير دال على لاشيئية المسافة، كأني ألمحها تسمع نبض ما باحت به روحها خلل ما أحاول نثْره في الفسحة الضوئية كرمى شعرها، وليس كرمى معرفة قائمة بيننا، الشعر وسيط روحي من نوع خاص لمن يتدارك أمره، وهو يقبض على جمره.
التحكم بناصية الشعر من أولى علامات النجاح في القول الشعري، من تأكيد الطيران خارج المضمار المرصود.
لقاؤها مع الشعر، هو معانقة روحها الشعرية، والتي تتعدى بها ما هو محدود، وأهلية توزيع أدوار:
خرجتُ أُقلّبُ أوراقَ الشجرِ ..
أبحثُ عن قلوبِ المطرِ الماضي في جيبِكَ..
رائحةُ الفَقْدِ تكسو الطريقَ ..
تعلِّمُني كيف أرمي سُجني الانفراديّ لزنزانةِ السرابِ ..
كيف أختلفُ في الفقدِ وأتجاوزُ الثقوبَ في قلبي لأصلَ قبلَ الحبِّ ..
لأُقبِّلَ ما أهملتَه فيَّ ..
ما كانَ قبلَكَ حزينٌ ..
ما كانَ بعدَكَ حزينٌ..
لم تتعافَ أظافري التي نسيتُها في ظهرِكَ ذلكَ المساءْ 
ليس في المنثور ما يمكن اعتباره مألوفاً، إنما هو إخراج المعنى من المبنى المغاير في أسلوب العمران، هو جعل المبنى على مقياس المعنى، وما يتطلبه هذا الإجراء بصيرة تقيم نقاط وصل بين الكلمة وشقيقتها، بين الصورة ونظيرتها، حيث انفجار الرؤى:
الورق الموصول بالشجر، والشجر بالأرض، والأرض بالمساء وبينهما الدليل والرسول المائي، وعبرهما يكون الأنا والآخر، من يكون أرضاً ومن يكون سماءاً، من يعيش لحظة المؤاساة، ومن يوثّقها، ومن يؤرشف للمعاناة…الخ.
في قول الشعر ثمة ما لا يحتاج إلى تفكيك: ثمة شعر يشبه القنبلة، حيث يصعب التحكم بها، العجز عن نزع فتيلها، لأنها تودي بالساعي، وبالتالي، فإن بدعة الشعر في تخيل حمولة القوة في ” قنبلة ” الشعر المضيئة وحدودها.
إن ما تسمّيه لغة الشاعرة هو جموح الاغتراب، هو المنفى الذي يتعشش في متن القلب، في الذاكرة، هو دوام استدعاء الآخر، لأن هناك خللاً في الواقع، لا بد من التوحد للإرجاع به إلى سويته الطبيعية، ودورة الحياة فيه.
خرجتُ أقلِّبُ حزنَ الورقِ ..
أبحثُ عن اللهِ وأكتبُ كي يغدوَ أجملْ …
كي لا تشعرَ الأشجارُ أنها خرساءْ ..
كي لا تحزنَ القطعةُ النقديةُ في بركةِ الماءْ ..
كي لا يجرحَ المطرُ أصابعَهُ..
ربما يقول الشاعر ما لا يدرك فحواه، وهو منتش بإكسيره، والشاعرة بدورها كائن من نوع آخر، واللغة هي صنيعة مجاز من نوع خاص، تخضع الطبيعة، وحتى السماء وكائناتها هي الأخرى لمنطق الشعر.
ففي الوارد: ما أقربنا إلى الورق: نحن ورق: ورق شجر، ورق كتابة، وثمة ما يسطرنا، ثمة ما يمضي على ما نكتب، ويكون الورق زورقنا ” السكران ” إلى اللامحدود، ولقاء الله من أولى أولويات التعبير الشعري لتأكيد مأثرته في إسكان كل ما يمكن التفكير فيه هذه الحاضرة الشعرية المنفتحة على اللاتناهي. كل شيء يأخذ قيمته من دفق الشعر، وحيث الشعر نفسه يمنح الشيء حراكه، جمالية القيمة التي تديمه زمنياً، والصمت ذاته يتحول إلى ناطق، هكذا هو المطر الذي يجري ائتناسه، والأصابع وهي تتجول في زحمة المطر، وهي تغزله أو تمضي في نسجه أضمومة ماء لروح عطشى.
السيدة الكردية المدثرة بإزار الشعر خجلة من نفسها، كما يظهر، وهي ترغب في شعر أكبر مما هو عليه، أجمل مما هو موصوف بين يديها: أصابعها، أكثر كريستالية وهي تستحمه في بحر المطر المرشرش، غير أن خجلها في غير محله إن سعت إلى الحجْر عليه، وعدم إطلاق سراحه، فالمطر الذي يثقل على السحاب يهوي به أرضاً يدفع به إلى التلاشي، وأ تتمناه أعذب مما هو عليه فهذا لا يسمح لها في أن تكتم على نفسها، وقد شب عن طوق الكلام العادي، لأن خطوة كهذه، ربما تمثّل حلقة في سلسلة شعريات، إن جاز التعبير، ليكون لدينا أكثر من المعطى.
كما في قولها أيضاً :
دخلتُ سِحْرَ الحبِّ متنكِّرةً..
أحتفلُ بالعصافيرِ العاريةِ.. 
تدخلُ روحي متخمةً بالريشِ…
تخرجُ عاريةً
ارتديتُ حقائبَ العشاقِ 
ربطتُ شَعري برسائلِهم الطويلةِ
صنعتُ من دموعِهم مشنقةً لخصري الذي يرتجفُ كي لا تموتَ 
تعطَّرتُ برائحةِ الحزنِ 
لَبستُ كَعبَ الليلِ النائمِ
ورفعتُ أراجيحَ الحبِّ..
أترانا في حاجة إلى أن نقوم بدور الترجمان، وما يترتب عليه من ” إساءة ” إلى مقام الشعر، وهو يعاش من الداخل، من قبل من لديهم ملكة التذوق الشعرية، وكيفية تلخيص العالم في جملة، في مقطع ما، في مشهد شديد الإيجاز؟
ليس في قافلة المتردد ما هو نظير المعتاد، فثمة لعبة ذكية في عملية البناء والاستقصاء الشعريين. كل جملة شعرية من حيث المعنى والبوح، تستقل عما عداها، غير أن لدينا بناء طوابقياً، يصلنا إلى ما وراء الحسي العادي، مثلما أن هناك أكثر خطوط اتصال أفقية تصلها بجهات مختلفة، حيث ليس في مقدور أي مكابد وجود، إلا ويجد صورته في مرآته.
وربما تصدمنا السيدة الكردية هذه وبأجنحتها الشعرية بتنويهات قد يضطرب لها من يتلقى القول كما هو، وليس لأنه مركَّب بالطريقة المتعارف عليها، ففي الشعر ليس من شيء إلا ويمنَح الاسم الجدير به كما هو التذوق الشعري.
كما في مغامرة القول الشعري هذه:
أُصلِّي لكلِّ شجرةٍ أمرُّ بها قبلَ أنْ أضعَ يدي عليها وأمسحَ ..
أمسحَ جَسدي الذي كانَ يتألَّمْ ..
يتألمُ جداً لأنَّهُ يعلمُ ..
يعلمُ بأنَّنا سنموتُ ..
سنموتُ كلانا عاريين ..
عاريينِ دونَ تابوتْ .
هلْ حقاً كان علي أنْ أقتلَ اللهَ!؟ ..
لا علينا أن نعاتب السيدة هذه، أو نعاقب روحها التواقة إلى استرداد الأنفاس في عالم متقطع الأنفاس، أن نحاسبها على بنية الجملة، على هفوة لغوية، أو تركيب إنشائي غير متداول، لأن كل مفردة يجاز لها في أن تمضي رحلة معنى مختلف لها، وإن حاولت مقاربة الشجرة كشجرة، والجسد كجسد، والموت كموت، والله كالله…ألخ، فإن على روح الشعر السلام، وربما ذلك يذكّرنا بما يتوجب على شاعرتنا أن تتنبه إليه، وهو أن ما يمكن أن تجلّد به نفسها، أو تقرّع روعها، على خلفية نسج شعري من هذا القبيل وما يمكن أن يكون أن يدوَّ في سجل الحسيب والرقيب، ليس في محله، لأن فورة الشعر وهي بعلامة الانتشار المطرية والأصابع الألف وواحدة، هي الي تشفع لها في أن تعيش فضاءها الروحاني بامتياز.
ثمة عالم كامل أودَع دفتي شعرها المفتوحتين، إنه مجتمع شعري من نوع يحمل بصمتها، كما في :
يُؤلمُني أحمرُ الشفاهِ على فمِ النساءِ المتصابياتِ ..
الوحدةُ على أطرافِ أصابعِهنَّ المصبوغةِ بلونِ الآلهةِ ..
رسائلُ المطرِ وهي تُغرقُ شَعري الطويلَ وتنتحبُ..
يُؤلمُني أنِّي كلَّما كُسِرَ ضلعٌ في روحي أتذكَّرَكَ ..
أتذكَّرَكَ وأندمُ ..
أندمُ لأنِّي أحببتُكَ ..
أندمُ لأنِّي لا أُحبُّكَ الآنَ ..
أندمُ لأنِّي كنتُ عمياءَ
للقائم بمسح أسمائيٍّ للكلمات ومواقعها، يصعب عليه القيام بصلات الوصل بين الواحدة والأخرى، لكن ” أحمر الشفاه ” ليست بمعزولة كقيمة اعتبارية عن ” رسائل المطر “، وهذه ليست منفصلة عن ” ندمها “، بقدر ما يكون تشكيل بانورامي يفترض الطبيعة وهي تناظر سماء مرئية حتى درب تبانتها، وهذا يضفي على الشعر جمالية المعانقة لما هو داخل في سر الوجود، أو ما يصلنا بأنفسنا، بعللنا، ومآسينا، وعذاباتنا، ولهفتنا المؤجلة إلى سعادة باتت صعبة المنال.
ولا بد أن السيدة الكردية هذه في مختتمها الشعري لا تختتم قولها الشعري، إذ ربما تنتظر دورة شعر أخرى، أن تعيش مخاض قصيدة شعرية تفيض على متن الصفحة وهامشها، كما هو المنتظَر من الشعر وبراعة وهْبه:
كان من الممكن ان يكون الشتاء أقل كآبة
ان لا تنام الطيور لوقت طويل 
ان لا يتحول الزمن الى مشنقة
لولا انك أحببت تلك المرأة 
لولا ان قلبي تحول لثقب كبير تسقط منه الأشجار
لا تنسى وأنت تقطع حياتي اليها ان تلتقط ورقة من الأرض 
أن تضعها بجانب قلبي الذي في جوفك
وأنت تقطع الانتظار بها أن تكون حنونا 
حنونا على عقارب الساعة التي تدغدغ روحي 
كلما خرج وجهي 
وجهك من بين الأيام 
كان 
كان 
اللعنة كان 
لولا اني تعثرت بسمكة حمراء 
سمكة رائعة تحمل كلمة أحبك 
كانت 
كانت تطير نحو السماء.
 حينما سقط.
وجدتني مقتبساً هذا المقطع  والذي تنتهي به القصيدة/ المجموعة، وهي نهاية ذات صلة بالكلام المسطور، ولكنها النهاية التي تحفّز فينا الروح المناسبة لأن تعيش نعمة جمال شعر كهذا، أن تحاط علماً بما هو موزَّع بين الأرض والسماء.
وهي من حيث المسيرة الشاقة لم تودّع قصيدتها الشعرية الطويلة، لم تلوّح لها بروحها، إنما أرادت لها تحليقاً حيث يجب أن تحلّق، كما هو المراد من الشعر، وأن تعطي فرصة لقارئها في أن ينتظرها وهي بكامل هيئتها، ليحلق بخياله معها، حيث يجب أن يكون التأكيد على التفاعل المطلوب بين شعر يبحث عن ذواقته، وذواقة يبحث عن شعره، أي بالصيغة التي يكون فيها الشعر قيثاراً مطرياً وهي بتردد صداه، والقراءة توحد الأصابع مع أوتاره.
أعود إلى تثبيت إلى ما انطلقت منه، لها: للسيدة الكردية وهي في انتظار ما يمكنني قوله، ولمن يهمه أمر شعر فواح الأثر كهذا، وبكثير من الثقة:
لا تسألوني ما اسمها شاعرة ” وبالأذن من شعرنا نزار قباني في تحريف صدر بيته الشعري هذا ” !
يمكن لكردنا أن يحتفوا بلحظة شعرية دونما خجل، ومن امرأة كهذه، أن يحتفوا بصوت سيدة كردية شاعرة، وليس أنثى، مجرد أثنى، حيث يكون الشعر وأهلوه، إن أرادوا أن يكونوا أهلاً للحياة وبدعتها !
دهوك، في 12- 2/ 2017 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…