أحمد إسماعيل اسماعيل
حين دفعت كتابي الأول للنشر كنت موزعاً بين الفرح والخوف: فرح وحيد وخوف على أكثر من صعيد، الفرح بولادة كتابي الشبيه بفرح الأب بولده البكر، الولادة التي حدثت بعد سنوات من المطالعة والمتابعة في الشأن المسرحي؛ غير أن هذا الفرح لم يكتمل بسبب مخاوف كثيرة سبقت ولادته: مخاوف لا تتعلق بصحة الكتاب وبنيته، إذ كنت متيقناً من أنه سيولد معافى، فقد سبق لي أن أجريت له كل التحاليل الضرورية قبيل ولادته، بيد أن كل ذلك غير ذي أهمية لمن يريد لكتابه أن يرى النور، ويحتل مكاناً له على أرفف المكتبات، وذلك لا يكون إلا بالحصول على مباركة وزارة الإعلام؛ مباركة يحصل الكاتب بموجبها على شهادة مكتوبة بقلم موظف اتحاد الكتاب العرب، تؤكد فيها هذه الجهة إن المولود خال من فيروس التابو الثلاثي الأبعاد: الجنس والدين والسياسة، وعليه يُمنح الكتاب شهادة لا مانع من النشر والتوزيع.
ولأن كتابي الذي أسميته “مسرحنا المأمول” والذي يضم بين دفتيه مجموعة من المقالات المسرحية الموجهة لبناء المسرح الكردي الفتي في سوريا، كان خالياً من أي حديث عن الدين أو الجنس، عدا إشارات سياسية، تجسدت في عبارات عامة، مثل استغرابي من سياسة الحظر على الثقافة والفن الكرديين، وسياسة تدجين الطفل الكردي، والعربي أيضاً، في مدارس الدولة الحزبية، وما شابه ذلك، كان عليّ، أنا الكاتب الغرُّ الذي يجهل دهاليز وزارة الإعلام واتحاد الكتاب، البحث عن وسيلة أو وساطة للوصول إلى دار نشر تتكفل باستحصال شهادة ولادة وموافقة من الوزارة المذكورة، وذلك مقابل رشوة مالية، أو بوضع اسم دار نشر لبنانية على غلاف الكتاب، وهي وسيلة درجت على ممارستها دور نشر سورية عديدة للتهرب من المساءلة السياسية أو الأمنية، فصادفت في دمشق شاباً من مدينتي يعمل سمساراً لدور النشر، قادني هذا الشاب إلى دار نشر يديرها رجل من بلدياتي، وفي مكتب دار النشر استغل صاحب الدار هواجسي ومخاوفي من احتمال عدم الحصول على الموافقة، لأنني لم أحسن تشفير السياسة في مقالات الكتاب الموجهة للعاملين في المسرح الكردي المحظور أساساً، ثم طلب مني التحلي بالصبر، والاتصال به بعد شهرين، وفعلت ما طلبه مني، وكنت خلال هذه المدة التي استطالت، أعاني آلاماً أشد قسوة من آلام تأليف الكتاب، وبعد انقضاء مدة الشهرين اتصلت به، فأكد لي خلال الاتصال إنه حصل على الموافقة، ولكن بعد أن بذل جهوداً جبارة، ليطلب بعدها عمولة لقاء أتعابه، فوافقت على الفور، وبعد ثلاثة أسابيع ظهر الكتاب في ألف نسخة، وكان ذلك سنة 1997، كانت الطباعة سيئة جداً، استلمت النسخ بفرحة أم تضم وليدها إلى صدرها، حتى لو كان هذا الوليد مشوه الخلقة، ونقدته مبلغاً كبيراً مشفوعاً بالشكر الجزيل له ولصديقي السمسار، وعدت بكتابي إلى بلدي، وهناك قمت بتوزيع نسخ الكتاب بنفسي على المكتبات والأصدقاء وبعض الأحزاب المحظورة في مدينتي، وفي النهاية…اختل حساب البيت مع حساب السوق، ولم أحصل على بلح اليمن ولا على عنب الشام. لا نقود مالية ولا حتى صحفية.
قدمت بعدها مجموعة قصصية تحمل عنوان “رقصة العاشق” إلى وزارة الثقافة لتجنب استغلال دور النشر، فتم رفض المجموعة وعليه توقيع السيدة نجاح العطار وزيرة الثقافة آنذاك، دون أي تبرير، وكم كان استغرابي شديداً حين فازت المجموعة في السنة نفسها بجائزة الشارقة للإبداع سنة 2000، مرت ثلاث سنوات، قدمت بعدها كتابين مسرحيين للحصول على الموافقة: واحد لوازرة الإعلام وآخر لاتحاد الكتاب العرب، فتم رفض الكتابين، إنها لعنة السياسة، حتى لو كانت في حدها الأدنى، أتقنت بعدها فن اخفاء المقاصد بكثير من التوريات وقدمت نصاً مسرحياً شديد القسوة سياسياً إلى وزارة الثقافة، فتمت الموافقة عليه، مع ثناء شفهي من مديرية التأليف، سعدت كثيراً لامتلاكي سرَّ اللعبة وتمكني من إخفاء مقاصدي عن الرقابة، غير إن الفرحة سرعان ما تلاشت حين انتبهت بعدها بزمن أن أساليب الإخفاء التي لجأت إليها في نصوصي كانت من الكثرة والكثافة بحيث أخفت مقاصدي عن القارئ أيضاً. وكررت بعد صدور الكتاب عن وزارة الثقافة التجربة ذاتها، فتمت الموافقة على طباعة أكثر من كتاب موجه للأطفال.
نشرت أكثر من كتاب في وازرة الثقافة ثم في دور نشر خارج وطني، الإمارات العربية خاصة، وكردستان العراق، ولقد بلغ ما نشرته حتى اليوم 13 كتاباً دون أن أحصل على ما يناسب هذا الكم من اهتمام نقدي. والسبب: إنها السياسة؛ ليست سياسة النظام فحسب، بل سياسة دور النشر الخاصة التي تستغل الكاتب الجديد مالياً، ثم تتخلى عنه في التوزيع والتسويق والدعاية، وسياسة دور النشر الحكومية، وخاصة وزارة الثقافة التي لا تنشر سوى ما يناسب سياسة النظام، إضافة إلى أن ما تطبعه يكاد ربعه فقط يتم توزيعه على مراكزها الثقافية، أما الباقي فمصيره الدفن حياً في المستودعات.
أما القارئ، المتلقي في أوطاننا، فهو سيد مزاجي في هذا المجال بالذات، عبد في كل شيء إلا مع الكتاب، إذ إن الكتاب الوحيد لديه هو الكتاب المقدس، وحتى هذا الكتاب لا يمسه إلا إذا مات شيء ما في داخله، فرح، أمل، عافية، أو مات قريب له، واستثني هنا من يقرأه بدوافع إيمانية وحتى معرفية. أمّا لجوؤه القديم، المتلقي، إلى المطالعة في كتاب أدبي أو غير أدبي، كوسيلة لجلب النوم، فقد أصبحت موضة قديمة، اندثرت مع موت الجدات اللواتي كنَّ يروين الحكايات الشائقة للأطفال قبل النوم، إذ أن وسائل أكثر من الكتاب فعالية في هذا المجال، كالمسلسلات التركية والهندية المدبلجة، قد تقدمت على الكتاب في جلب النوم براحة وخدر لذيذ.
أما النقاد، الجهة الموكل إليها أمر فرز الغث من الثمين في حقل المعرفة، فقد انقسمت إلى طوائف وشيع، طائفة تعمل مقابل أجر بقصد التسويق، وأخرى ضمن شلة تجمعها روابط غير أدبية، وطائفة ثالثة حزبية سياسية، وربما كانت القلة منهم جادة، غير أنها لا تجد في الذهب إلا كل ما يلمع، أو لَمَعَ، فلا تمسُّ النتاجات الصادرة حديثاً حتى يثبت الدهر جدارتها، وتلمع هي الأخرى.
ولذلك أصبح كل من يفكر في إصدار كتاب يجد من الضرورة امتلاك، أولاً، وقبل كل شيء، وسائل تضمن له، ليس نشر كتابه فقط، بل تسويقه.
وللتسويق في واقع استهلاكي، كل شيء فيه مجرد سلعة؛ أفانينه.
مجلة الجديد _لندن_العدد 27 نيسان 2017