إبراهيم اليوسف
هكذا تصفع عيني الورقة الجديدة من الرّوزنامة المعلّقة على الجدار، هذه الرّوزنامة التي كانت من عداد أولى قراءاتي الطفليّة، حين لم يكن في بيتي ما خلا الكتب السميكة لوالدي المغفور له، وهي تمضي في دوّامة النّحو، والصرف، والشريعة، والتفسير، والحديث، بل والمنطق، ونتف من التاريخ، وشذرات شعريّة من بينها دواوين لإبن الفارض وإبن عربي والجزريّ والخانيّ ورابعة العدوية، هذه الكتب التي ستصبح خميرة مكتبتي التي ستكبر، وستضم كتباً مارقة، لايرضى عنها والدي، وأخرى لايرضى عنها أولو الأمر، لدرجة أن لي الآن كتباً معتقلة لدى إحدى الجهات غير المختصة ، بعضها لايمكنني التعويض عنه، واأسفاه.!
– اليوم الأحد.!
الأحد إلا نكهته السالفة والرّسائل ميّتة الحبر لصديقتي.
الأحد ببقايا أجراس كنائسه وصلوات أهلي الآثوريين والسريان والأرمن.
ـ اليوم الأحد…!
***
غمّة داكنة بادية في الأعماق، اضطراب بيّن، يفضيان إلى شبه اختناق داخلي أصمّ، إزاء كلّ صباح أحد, جديد, منذ أن تضاعفت عطلتنا الأسبوعية المجيدة, واستطالت على غير عاداتها كي تحتلّ رقعة أقرب يوم تال، بعد الجمعة، على طريق التأورب, في قضايا القشرة, بعيداً عن الفوضى في الجوهر اللائق بالرّوح, ولعلّ مبعث هذه الغمّة, وذلك الاضطراب يعود إلى أنّني سأكون في مواجهة يوم عمل جديد, بل أسبوع عمل جديد, حيث سأقرض عقوبة فرضت عليّ منذ إلقائي قصيدة شعرية في خيمة عزاء صديقي الشيخ معشوق الخزنوي, مع زملاء آخرين, تمادوا إلى درجة إلقاء كلمات تبين خصال الرّاحل, وعبقريته الموؤدة ظلماً على أيدي قتلته!.
– اليوم الأحد
– الأحد الصّرف
إنّه الأحد الفاتن على قدم واحد…!.
أحد بروائح من لغات كثيرة
أحد في أكثر من جهة في الخريطة..!
أحد في “بقجة” الرماد
يكتب نعوته..!
***
ها أنا ذا أنهض منذ السادسة صباحاً، كي أدلق الماء على وجهي، أسمع “جقجقته”، وأمشّط شعري بأصابعي، مردداً أغنية وحيدة حفظتها لمحمد شيخو، لأحتسي الشاي الأخضر الذي دعتني صديقتي مزكين كي أدمنه، منذ أن أدمنتها، وأغدو من جمهرة أسراه، وأخرج لاهثاً لألحق بمركبة نقل المدرسين الحديثين، والمغضوب عليهم، والضّالين، ممن يتناثرون على طريق قامشلو- تربسبي، أحمل دفتر تحضيري الذي فيه شرح غير لائق لبيت شعري:
إذا بلغ الفطام لنا صبيّ تخرّ له الجبابر ساجدينا.!
على ضوء ثمان وعشرين سنة، لاأقول: عاماً، من العمل في مجال التدريس، هذه المهنة المقدّسة التي كانت حلمي الأول، حلمي الوحيد، وقد تحقّق لي، لألاقي منذ إحدى وعشرين سنةً المزيد من العنت، والتضييق على خناقي، بسببها، وكأنّني أحمل لوثةً هالكةً، وهو ما دعا أولي الأمر لأن يقصوني عمّن أحبّ من تلاميذ وطلاب، من خلال قرارات جائرة، مدبّرة ضدّي، وهو ما يدعوني لأفكّر – “مكرهاً” أخوكم لابطل – في الصيف المقبل بطلاق هذه المهنة الأثيرة لديّ، بعد أن دفعت على دروبها أجمل سنوات عمري، ونالت دروس القواعد، والبلاغة والعروض، من ظهري، فقصمته، أو كادت، كي أغدو بلا معجزة شخصية، بل نصف عاجز، بأحلام هائلة، لاحدود لها..!.
– اليوم الأحد الفصيح
مجرّد أحد – هنا – اسماً
أحد لايشبه الآحاد
أحد من وقت قليل
أحد لاتكتب فيه قصيدة
أحد لاترتكب فيه قبلة
أحد مطيع
أحد شرس
أحد شاعر
أحد يا ويلاه.!
***
أحد كأنّه لايعرفني..!
***
بضع صفحات من رواية لم تنته
صورة مدهشة في قصيدة لم تكتب
وجوه أصدقاء صفوة
صوت أنثى عارم من بعيد
اعتذارات مكرورة من تقصير مزمن
كشكول يعجّ بالخطط الفاشلة
تأوهات جريحة
اكتشاف متأخّر، بعد حوالي ربع قرن من رحلة مع تلميذ غادر، وممثل مصاب بلوثة الفصام، يلهيني بكلامه العسليّ على أنّني أبوه الروحي، أبوه تماماً، ومعلّمه، بعد أن اطمأننت واهماً بأنّني قد أنقذته من لوثة حليبه الأوّل، ليواصل صعوده الوهميّ على جثث سواه، منصرفاً إلى مؤامراته المتقنة، موجهاً بوصلة نمائمه في خريطة خاصة، راكلاً خميرة القصيد، والملح، والخبز والعشرة..!
تبّاً للثعلب الماكر
تباً له… وتب…!
***
اليوم الأحد
أحد مكربن
أحد مكهرب
أحد منحور
استهلالة الأسبوع
لا مفتاحه…. أحد..!
أحد بساعاته الأربع والعشرين
أحد بلا ساعة يد
أحد بساعاته التي لاتسع
أحد يقود جنازة أسبوع لم يمت
أحد لاهدنة فيه للحلم
أحد في ثياب العمل لا “بيجامة” النوم
أحد جديد
أحد من خديعة ماسيّة
أحد لاذع مرير
أحد لاصديقة لي فيه
لا قصيدة لي فيه
لا صديق
أحد ـ صدأ
أحد قامشلو
أحد صدى
أحد أصغر من أحد
أحد أكبر من أحد
أحد من خيانات وخيبات
أحد من أصدقاء جدد رائعين
وصديقات فاكهات
أحد من بريد متكوّم
أحد من أحلام لاتتحقّق
أحد من عيون لاتكلّ
أحد لاعطلة لي فيه
***
أحد لايشبه أحداً..!.
قامشلي2007
من مخطوط بعنوان: مزاميرالسيع العجاف