دين الفطرة

د. آلان كيكاني
عنوان كتاب للفيلسوف والكاتب الفرنسي الشهير جان جاك روسو أنتهيت للتو من قراءته، وأعتقد أن العنوان الأصلي للكتاب يختلف قليلاً عن عنوانه المعرب، إلا أن محتوى الكتاب يدل على أن العنوان المعرب هو الأنسب لمضمونه.
الكتاب صغير، ويحاول فيه الكاتب، الذي ولد في بدايات القرن الثامن عشر ويُنظر إليه على أنه أحد أعمدة عصر التنوير، إثبات أن الإيمان بالله فكرة متأصلة وفطرية في الإنسان ولا يحتاج إلى رسائل ورسل وكهنة ووعاظ، كما لا يستدعي التلقين ليدركه العقل وتتقبله النفس. 
وأنا أقرأ الكتاب حضرتني طرفة ذكرها الشيخ العلامة ابن كثير في كتابه المصباح المنير في تفسير القرآن، حيث يقول الشيخ أن أحدهم سأل أعرابيا بسيطاً كيف يستدل على وجود الله ففزّ الإعرابي وقال: 
– يا سبحان الله، أليس للبعر من باعر؟ 
فقالوا:
– بلى. 
فقال:
– إذن للكون خالق قادر.
الكتاب عبارة عن مواعظ فلسفية على لسان قس لأحد الشبان المتشككين بفكرة وجود إله خالق للكون يحاول من خلالها جان جاك روسو الدعوة إلى الإيمان بالله والابتعاد عن الفلسفات التي تدعو إلى الإلحاد ونبذ الدين. والملفت هو أن اسماء الله والمسيح والإنجيل والتوراة لا ترد في الكتاب إطلاقاً. عدا كلمة الرب التي يتم ذكرها عدة مرات. وذلك على العكس من دعاة المسلمين الذين يحاولون إثبات وجود الله للمتشككين من خلال القرآن والحديث.
ويحكي روسو في متن الكتاب قصة قس اختار لنفسه عقيدة بسيطة وصادقة لا تضارب فيها بين العقل والقلب. ويقدم هذا القس، قس جبل السافوا، عظات، كما أسلفنا، إلى شاب مخاطبا إياه بولدي، أو ولدي العزيز، أو أيها الشاب الطيب، يحثه فيها على تجنب شكوك الفلاسفة وأوهام القساوسة. وبهذا ينتقد روسو على لسان هذا القس الفلاسفة الذين يدعون إلى اتخاذ الشك عقيدة، داعياً إلى نبذ فلسفة التعقيد والعودة إلى فلسفة التبسيط لينتهي قائلا: تبين لي أن أولى الأفكار وأعمها هي أبسطها وأقربها إلى العقل. 
وكذلك ينتقد روسو فلسفة الماديين التي تدّعي أن المادة الجامدة قد أنتجت كائنا ذا حياة، لكنه لا يدخل بعدها في جدالات حول ماهية الرب، مقرا أن أكبر استخفاف بالرب ليس الغفلة عنه بل التفكير فيه بما لا يليق. هكذا يحث روسو على البساطة وعدم الاجتهاد في سبر جوهر الرب لأن ذلك حسب رأيه يزيد من غموضه ويعقد من تصوره مكتفياً الإقرار بوجوده دون الخوض في تفاصيل عقيمة.
والمثير للانتباه أن روسو يكتب كتابه هذا بعقليةٍ لا زلنا نتفتقدها نحن المسلمون في أيامنا الحالية بعد قرنين ونصف القرن تقريباً من رحيل روسو، ما يدعوني إلى الافتراض أن الأوروبيين يسبقوننا فكريا بثلاثة قرون على أقل تقدير.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصطفى عبدالملك الصميدي/اليمن*

تُعدّ ترجمةُ الشَّعر رحلة مُتفَرِّدة تُشبه كثيراً محاولة الإمساك بالنسيم قبل أن يختفي سليلهُ بين فروج الأصابع، بل وأكثر من أن تكون رسماً خَرائِطياً لألوانٍ لا تُرى بين نَدأَةِ الشروق وشفق الغروب، وما يتشكل من خلال المسافة بينهما، هو ما نسميه بحياكة الظلال؛ أي برسم لوحة المعاني الكامنه وراء النص بقالبه…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

تَتميَّز الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتب اللبناني الأمريكي جُبْرَان خَليل جُبْرَان ( 1883_ 1931 ) بِعُمْقِها الفَلسفيِّ، وقُدرتِها عَلى تَجاوزِ الماديَّاتِ ، والتَّعبيرِ عَن الحَنينِ إلى مَا هُوَ أسْمَى وأرْقَى في النَّفْسِ البشرية . وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد شُعورٍ أوْ طُقوسٍ تقليدية ، بَلْ هِيَ حالةُ وَعْيٍ مُتكاملة…

ابراهيم البليهي

من أبرز الشواهد على إخفاق التعليم الذي لا يقوم على التفاعل الجياش عجزُ الدارسين عن اكتساب السليقة النحوية للغة العربية فالطلاب يحفظون القاعدة والمثال فينجحون في الامتحان لكنهم يبقون عاجزين عن إتقان التحدث أو القراءة من دون لحن إن هذا الخلل ليس خاصا باللغة بل يشمل كل المواد فالمعلومات تختلف نوعيا عن الممارسة…

خلات عمر

لم يكن الطفل قد فهم بعد معنى الانفصال، ولا يدرك لماذا غابت أمّه فجأة عن البيت الذي كان يمتلئ بحنانها. خمس سنوات فقط، عمر صغير لا يسع حجم الفقد، لكن قلبه كان واسعًا بما يكفي ليحمل حبًّا لا يشبه حبًّا آخر.

بعد سنواتٍ من الظلم والقسوة، وبعد أن ضاقت الأم ذرعًا بتصرفات الأب…