إبراهيم اليوسف
جاء رحيل الشاعر الكردي السوري فرهاد عجمو”1960-2017″ قبل أيام-فحسب- بعد صراع طال مدة أشهر مع مرض عضال، ليشكل فراغاً في المشهد الثقافي الكردي في سوريا، باعتبار أنه لقب-وإن بعد رحيله- بأمير القصيدة الكردية، لأنه -في الحقيقة من أهم الشعراء الغنائيين الكرد المعاصرين، إذ إن هذه التسمية لم تأت جزافاً، وإنما نتيجة ماقدمه على امتداد أربعة عقود من الإبداع في مجال الشعرالكردي ليترك لقرائه سبع مجموعات شعرية، هي:
غنية ب”المصائف”1988
بعد ماذا-1995
حبك-1998
المهد1—شعرللأطفال-1989
المهد2-2001 شعرللأطفال-
الصرخة الأولى-2005
الأوراق البيضاء-2000
بالإضافة إلى ديوان” وجهاً لوجه- المشترك مع الشاعرصلاح محمد 2016- وهو أول تجربة شعرية مشتركة- على حد علمي- في تاريخ الشعرالكردي أنجزه الشاعران في الفترة مابين”2004-2009″. كما أن هناك الكثيرمن القصائد غيرالمنشورة في دواوينه الصادرة لما تزل تنتظرالنشر؟.
وأهمية صوت عجمو سجلت له من خلال تميز قصيدته عن سواها، إذ إنه عرف منذ بدايه شبابه بعزفه على أكثر من آلة وترية- الطنبورة- البزق، وقد انعكس هذا الولع من لدنه بالموسيقا على قصيدته التي صنفت إلى جانب نزوعها إلى عالم القصيدة الكلاسيكية التي كتبها قبله كل من أحمدي خاني وملايي جزيري وجكرخوين وتيريج وملا أحمدي بالو وملانوري هساري من الشعراء الذين كتبوا القصيدة التقليدية، وكانوا حريصين على عنصرالموسيقا في إبداعاتهم، ومن هنا فقد راحت قصيدته تخط لنفسها مسارها ضمن هذا العالم، منذ بداية عقد ثمانينيات القرن الماضي الذي بات اسمه يلمع خلاله تدريجياً، لاسيما بعد أن غنى أحد أكبرالفنانين الملتزمين الكرد محمد شيخو بعض قصائده، وهوما فعله آخرون، من ألمع الفنانين الكرد، وباتت قصائد الشاعرتردد على الألسنة، وقد بلغ عدد قصائده المغناة حوالي ستين قصيدة..!
من هنا، فإن الشاعرعجمو حصد جوائز عديدة في مجال الشعر، في مقدمها جائزة الشاعرالكردي جكرخوين للإبداع الشعري 2013 التي منحه إياها الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد والتي تعد أحد أهم جوائز الإبداع الأدبي الكردي، بالإضافة إلى جائزة الشعرالكردي، وجائزة الأديب عبدالرحمن آلوجي وشهادة تكريم من أسرة الشاعرأحمد بالو. كل هذا جاء نتيجة أهمية قصيدته التي كانت تكتب بلغة شفافة، سهلة، بسيطة، محملة بكهرباء عاطفته الكظيمة التي كانت تجد عبرالشعرنوافذ لها، لتحلق، على نحو آسر، مدهش، لافت.
بدأ عجمو حياته الإبداعية بالكتابة باللغة العربية، إلا أنه سرعان ما لجأ إلى الكتابة بلغته الكردية الأم التي أنتج بها جميع أعماله الشعرية، بالرغم من أن الكتابة بهذه اللغة كانت تشكل خطراً على من يكتب أو يقرأ بها، وكان ضبط مجرد ألفباء كردية، أوقصيدة غزلية بهذه اللغة مع أحدهم تهمة كبرى، إلا أن إحساسه الكبير بضرورة أن ينتج إبداعه الشعري بلغته الأم، هذه اللغة التي باتت مصادر رفدها تتعرض للتجفيف والنضوب، ضمن إطار محو هوية إنسانها، وقد رأى أن أعظم مايمكن أن يواجه به هذا الخطرالمحدق بإنسانه أن يكتب بلغته، بل وليخوض حتى غمار كتابة الشعرلأطفاله، ضمن مشروعه الإبداعي الملتزم، مستلهماً التراث الشعري الكردي بقوة في قصائد ه الطفلية إلى درجة التناص والنقل المحض، ومن ثم الاستزادة عليه- بوعي تام- ولقد تعرض بسبب مشروعه الإبداعي ورؤيته للتوقيف، والاستجوابات، والمراقبة، إلا أنه ظل يواصل كتاباته، بصمت، بعيداً عن الضجيج المفتعل، والأضواء، ممارساً نقده بحق كل من حوله، وفي المقدمة أولي الأمرمن أهله الكرد، بما كان يدعو إلى استفزاز بعضهم، واتخاذ الموقف منه، من دون أن يبالي بما يجري له، مادام أن همه الرئيس مصلحة إنسانه!
لو أننا نديرالظهورللأمس
لن نفلح
-لن يصبح واحدنا اثنين-
نظل في آخر مواكب الآخرين
ولن يظل لنا إلا القول:
أواه، يا رباه…
هيمن طابع الألم على الكثيرمن قصيدة عجمو الغنائية ، سواء أكانت وطنية قومية، أوعاطفية، أو تأملية وجدانية، ولعل ذلك تأتى لأسباب عديدة، من بينها تلك الإحباطات الكبيرة التي عايشها على الصعيدين الشخصي والعام، فكان الشاهد، والضحية، وقصيته هذه -غالباً- ماكنت تعتمد على الخطابية، والمباشرة، وذلك لأنه كان يعول على دورها الجمالي والوظيفي في خدمة رؤيته القومية الإنسانية، بعد أن رأى إنسانه مهمشاً، تطحنه خلافاته البيتية، بالرغم من أنه عنوان لمطامع أعدائه الذين ضيعوا أبعاد حضوره التاريخي والجغرافي، وفق مؤامرات غربية معروفة، ماجعله من عداد أكبرالشعوب التي لم تبن دولتها الخاصة، وهوما يحدو بالمثقف الكردي المرتبط بوجدان أهله، أن يثيرأسئلته، ويعلن نفيره.
الانقسامات دعتنا
دون عاصمة
دون حدود
الجهل أفتك بنا
:فأين حدائق الورود الحمراء؟؟
حقيقة، فإن الشاعرعجمو عاش قصيدته، بلا فكاك عنها، أو بينهما. فقد ظل يترجمها في حياته اليومية، بل إنها كانت تترجم رؤاه، ولهذا فقد نذرحياته الخاصة لهذه القصيدة التي كان يرى فيها رهانه الأكبر، والأوحد، وقد كان يجيبنا حين نثيرالسؤال المحظور الاستفزازي لدنه: متى تكون لك رفيقة عمرك لتكون لك أسرة وأبناء؟،قائلاً: قصائدي أولادي وعالمي وحبي،وقد ظل وفياً لهذه الرؤية، ليكون بذلك معري الكرد، أهله، ولربما هذا الإحساس ترجم على نحوعملي، عندما شاهد ثورة السوريين، وانحاز لها، منخرطاً في المظاهرات الشعبية منذ بداياتها، وحتى لحظة كبحها، كما أن اسمه ظهرفي قوائم المطلوبين والملاحقين من قبل السلطة السورية، ما منع سفره للمعالجة في دمشق، في ظل الحصارالمقام على مدينته: قامشلي التي ولد فيها، وغنى لها. مدينة الشعروالشعراء مدينة الحب كما تسمى.
مهمة جمع تراث الشاعر، وإعادة طباعته مع ما لم ينشرله، بما في ذلك تخليد ذكراه من خلال إطلاق اسمه على أحد المرافق في مدينته، وإطلاق جائزة باسمه وبالتعاون مع أسرته هي من مهمة محبي الشاعرعجمو الحقيقيين الذين ظهروا منذ بداية الإعلان عن وجود ورم في دماغه، وخلال فترة استئصال ذلك الورم، وتدهور وضعه الصحي، وإلى لحظة وفاته، ومواراته الثرى في مقبرة-الهلالية-في مدينته”قامشلي” حيث اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتحدث عن دوره كشاعرمبدع في حياة أهله، ومكانه، كشاعرذي صوت متفرد وخاص حقاً، وإن كشف رحيله من جانب آخر، عجز كل من نذرحياته من أجلهم في الوقوف- الحقيقي- معه، فترة مرضه، خلال الحصار والحرب الرهيبين، إذ لم يتحقق حلمه في المعالجة في بلد أوربي، عساه يستطيع إبداع أكثر ما أمكن من قصائد تنزع للحياة في مواجهة أعدائها..
* جريدة الشرق الأوسط- 18-6-2017