العيد والغربة

د. آلان كيكاني
لولا وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي لمرّت أيام العيد في هذه الأيام على الكثيرين منا في بلاد الغربة دون أن يدري بها، لا لخرف أصاب عقولنا ولا لفقدان طال ذاكراتنا، وإنما لأن العيد مهرجان جماعي لا يمكن لفرد أو لبضعة أفراد القيام به في ديار المهجر، سيما وأن تلاقي الأهل والأقرباء والأصدقاء وتبادل التهاني والتبريكات وتقديم الهدايا تشكل طقوساً ثابتة في أيام العيد، والتي لا يكون العيد عيداً بدونها. وقد اعتاد الناس منذ أزمنة سحيقة على انتظارهذه الأيام المقدسة قبل حلولها بأيام وأسابيع ليمارسوا فيه بهجتهم في لمّ الأحبة وإقامة الحفلات والموائد المدعمة بصنوف الحلوى وضروب الشراب وزيارة الأموات واستذكارهم ومناجاتهم في قبورهم والدعاء لهم. وعندما تتفكك الجماعة يزول معه الشعور بقيمة هذا اليوم، ولا يبقى له الطعم الذي كان ولا القدسية التي تميز بها. 
في طفولتي وصباي كان العيد يمر على قريتنا الصغيرة دون أن يتغير فيها شيء، لا زينة، ولا ألعاب، ولا هدايا، ولم يكن فيها مسجد حتى نسمع أصوات التكبير أو خطبة العيد وصلاتها، وحتى لباس أهل القرية كان هو هو، في العيد وخارجه. ورغم هذا كان ليوم العيد وقع كبير في قلوبنا، نستيقظ فيه في الصباح الباكر وفي قلوبنا إحساس أن كل شيء في القرية قد تغير، وحتى وجوه أهالينا كانت تعطينا انطباعات بأنها تغيرت رغم أنها في الواقع لم تكن لتختلف عن اليوم السابق، وهل وجود الحناء على الأيدي وعلى شعور الأمهات والأخوات بالأمر السهل؟ وهل انبعاث العطر من فرد في قرية نائية بالشأن الهين ولا يعني أن هناك مناسبةً جليلة أو يوماً عظيماً؟
كنا نجتمع في ليلة العيد حول أمهاتنا وهن يدهنّ شعورهم بالحناء وننتظرهن حتى ينتهين عسانا نحظى بدهنة من صبغة الحناء على كفوفنا، ولما كنا سننام بعد قليل كانت تطلب منا أمهاتنا أن نأتيهن بجراب قديم ندس فيه أيدينا المحناة قبل النوم كي لا نلطخ الفراش الذي نفترشه واللحاف الذي نلتحفه، ومن جانبهن كن، وأعني الأمهات والأخوات، يضعن رؤوسهن التي تراكمت عليها طين الحناء في أكياس لئلا تتخضب الوسائد بصبغة الحناء صعبة الزوال. ثم نفيق باكراً والفرحة تغمر قلوبنا لا لشيء سوى لأنه العيد، وحتى اللباس الجديد لم يكن جزءً من ثقافة القرية في أيام العيد وذلك لفقر أهلها، وربما لجهلهم. وأقصى ما كنا نحظى به هو أن يقوم أحد من الكبار بتعليق حبل على عمود في سقف غرفة لنتخذه ارجوحة،  نصطف طوابير طويلة لننال دورنا في التأرجح بها، وغالباً ما كان يتخلل الطابور التدافع والتراكل في جو من الضوضاء والهرج والفوضى. أما تسول الطعام والحلوى من بيوت الجيران فكان ركناً من أركان العيد في سني الطفولة. وكان يأخذ شكلاً جماعياً من بضعة أطفال يحملون صرة ويدورون بها على بيوت القرية، بيتاً بيتاً ويبادلون التهنئة بالحلوى.
وفي الواقع ورغم أن يوم العيد لا يختلف عن الأيام العادية، فهو من أربع وعشرين ساعة ويبدأ بشروق الشمس وتغيب فيه الشمس ككل يوم. إلا أن سحر هذا اليوم يأتي من الموروث الثقافي الطويل  للشعوب واختزانه في الذاكرة الشعبية منذ أمد بعيد، مثل رأس السنة الميلادية عند العالم كله، ويوم نيروز عند الكرد، وعيدي الفطر والأضحى لدى المسلمين. وفي الوقت الذي تتخذ فيه الأعياد الوطنية طابعاً رسمياً سياسياً تقوم الدولة بالاحتفال بها، فإن الأعياد التاريخية والدينية تكتسب صفة جماهيرية يحتفل بها الناس جميعا بغض النظر عن أعمارهم أو أجناسهم أو ألوانهم أو حتى معتقداتهم وهذا ما يعطى زخماً كبيراً لهذا الصنف من الأعياد.
في ديار الغربة كثيراً ما نستعيض عن الاحتفال بأيام العيد بالحزن والغم والاكتئاب. وإذا كنت سورياً فلا بد أنك تنتظر العيد في هذه الأيام لا لتفرح فيه وإنما لتفرغ ما تبقى من الدموع في عينيك على ما كان وطناً، وعلى من كانوا أهلاً وأصدقاء.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

نصر محمد / المانيا

-يضم صورا شعرية جديدة مبتكرة ، لغة شعرية خاصة بعناق ، تعانق الأحرف بالابداع من أوسع أبوابه ، انها لا تشبه الشعراء في قصائدهم ولا تقلد الشعراء المعاصرين في شطحاتهم وانفعالاتهم وقوالبهم الشعرية

-مؤامرة الحبر يترك الأثر على الشعر واللغة والقارئ ، يشير إلى شاعر استثنائي ، يعرف كيف يعزف على أوتار اللغة…

 

فراس حج محمد| فلسطين

تتعرّض أفكار الكتّاب أحياناً إلى سوء الفهم، وهذه مشكلة ذات صلة بمقدرة الشخص على إدراك المعاني وتوجيهها. تُعرف وتدرّس وتُلاحظ تحت مفهوم “مهارات فهم المقروء”، وهذه الظاهرة سلبيّة وإيجابيّة؛ لأنّ النصوص الأدبيّة تُبنى على قاعدة من تعدّد الأفهام، لا إغلاق النصّ على فهم أحادي، لكنّ ما هو سلبيّ منها يُدرج…

عمران علي

 

كمن يمشي رفقة ظلّه وإذ به يتفاجئ بنور يبصره الطريق، فيضحك هازئاً من قلة الحيلة وعلى أثرها يتبرم من إيعاقات المبادرة، ويمضي غير مبال إلى ضفاف الكلمات، ليكون الدفق عبر صور مشتهاة ووفق منهج النهر وليس بانتهاء تَدُّرج الجرار إلى مرافق الماء .

 

“لتسكن امرأةً راقيةً ودؤوبةً

تأنَسُ أنتَ بواقعها وتنامُ هي في متخيلك

تأخذُ بعض بداوتكَ…