باقة أشجان (من الشعر الكردي الحديث)

المؤلف: كونى ره ش Konê Reş 
ترجمة وتقديم: خالص مسوَّر
مقدمة
   عرف (كونى ره ش) منذ ربع قرن وأكثر كأحد أعمدة المشهد الثقافي الكردي بين الكرد في سوريا، ولما كان الكرد- خلال هذه السنين وقبلها- يعانون العزلة والبعد والرقابة، ناهيك عن عدم الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية، فقد شكل (كونى ره ش) مع مجموعة من محبي اللغة الكردية نافذة ثقافية.. وكان من أبرز ممثليها في المحافل الثقافية الكردية. وإذا كان (كونى ره ش) قد برز وعرف أولاً بكونه شاعراً وكاتباً، فإنه – إلى ذلك – صاحب تجربة صحفية من خلال مجلة (باقة ورد) التي أصدرها في آذار 1989م، مع صديقه عبد الباقي الحسيني وكان له أن يرفد المجلات الكردية في الداخل والخارج بالمقالات والقصائد المتنوعة ومازال يشارك بمعظم المهرجانات الثقافية الكردية، وأن يصبح عضواً في اتحاد الكتاب العالميين ((PEN الفرع الكردي. 
 أصدر (كونى ره ش) حتى الآن عدة مجموعات شعرية ابتداء من (سيبان وجين) بيروت 1993م  و(يا وطن!)، بيروت 1998م و(بوابة الحياة الحب) بيروت 2001م، و(أنا تلميذ بدرخان) بيروت 1996، و(صهيل الأماسي الأسيرة) دهوك 2010. وترجم له من الكوردية إلى العربية مجموعتان شعريتان الأولى بعنوان (جودي جبل المقاصد) طبعة دمشق 2004م، والثانية بعنوان (شجرة الدلب) دمشق 2006م. بالإضافة إلى كتب تراثية وتاريخية ابتداء من (قصص الأمراء) بيروت 1991م، و(الأمير جلادت بدرخان) دمشق 1992م، و(انتفاضة صاصون) دمشق 1995م، و(عثمان صبري) دمشق 1997م، و(جمعية خويبون ووقائع ثورة آرارات) أربيل 2000م، و(كتاب القامشلي: دراسة في جغرافية المدن) 2003م، ولاحقاً قصائد الأطفال: دياربكر 2013، وتاريخ الصحافة الكردية في سوريا ولبنان: دهوك 2013م، ومدينة جزيرة بوتان وبلاغة الأمير بدرخان: استانبول 2013م، والعائلة البدرخانية رحلة النضال والعذاب: قامشلي 2016، والأيزيدية في سوريا: قامشلي 2017، وكتاب من رحلاتي وزياراتي: قامشلي2017.. يبدو واضحاً من العناوين تركيز الشاعر (كونى ره ش) على مفردات كردية مفعمة بالدلالات التاريخية والجغرافية والرمزية، وهي مفردات لم يخل منها شعر (كونى ره ش) من أوله إلى آخره، وحتى لم يخل لقبه منها… 
لقد سعى (كونى ره ش) إلى التعبير عن الشخصية الكردية، حاضراً وماضياً، وكذلك فيما يرجو لها من انعتاق وتطور، وهذا السعي لم يحل دون التعبير عن سيرة ذاتية، أرادها (كونى ره ش) ممتزجة بسيرة عامة هي سيرة المكان الذي أحبه. فكونى ره ش، لا يحتفي بسيرته الذاتية إلا لأنها تعبير عن انتمائه العميق إلى كل ما تمثله وطنه من تاريخ عريق، ومن حاضر تتنازعه الآلام والأحلام، ولايجد أفضل من القبض على روح المكان في صياغة مشروعه الشعري. 
ففي ديوانيه (يا وطن!) و(بوابة الحياة والحب)، على وجه الخصوص، يؤكد (كونى ره ش) على أهمية انطلاق القصيدة من مكان لها، أي من بؤرة اجتماعية تاريخية وعاطفية تمنحها أفقاً خاصاً للقول الشعري. هذه البؤرة وإن أمكن تحديدها جغرافياً، ليس كياناً جغرافياً فقط، وإنما هي كيان ثقافي، بكل ما للثقافة من أبعاد في الزمان والمكان. اللغة الشعرية لكونى ره ش لا تميل إلى الفخامة والتهويل، وتتجنب التعقيد والتلغيز.. إنها لغة رقيقة وشفافة تنساب في إيقاعات بسيطة، عباراتها سهلة وواضحة…
   هكذا يبدو (كونى ره ش) في قصائده الحداثية شاعراً مرهف الإحساس يلتقط موضوعه من الواقع الاجتماعي ببراعة معهودة وبكل دقة ووضوح. وكم هو جميل أن يسمع المرء نغمات الحزن الشفيف وهي تنساب من سطور (كونى ره ش) الشعرية، فتشنف آذان القاريء بعدما رسمت ملامحها على قسمات هذا الشاعر الكردي المعذب المسكون بقلقه الوجودي وبهموم وطنه وآلام شعبه.
   لهذا يختصر الشاعر (كونى ره ش) قصائده بالكثير من الأوجاع، ويحسسنا بالصور التي تعشعش حب الوطن في الصدور، فالوطن حاضر رغم كل آثار الحيرة والقلق الذي يهز عواطفه ووجدانه بكل قسوة وعنف، والتغني بالوطن يندرج تحت حثه الدائم على النهوض والتمرد وإثارة الحماسة ورفض الذل والهوان. وعلينا أن نشير بأن (كونى ره ش) يجيد توظيف التراث الكردي في قصائده المعبرة عن الحالة الاجتماعية بشكل واع ومدروس، فنرى شبابته الشعرية تصدح بمواويل (براري خلف آغا وماردين)، وبأماسي (قامشلو)، وصباحات (ديركا حمكو)، وأغنية (خلفى شوفي)، وصخب مياه دجلة الهادر.. إنها قصائد حافلة بالومضات الشعرية، وبفسيفساء شعري مثير يأخذ ألوانه من ألوان الحياة التي يعيشها ويعايشها (كونى ره ش) بكل أحاسيسه وجوارحه وروحه الوثابة مع بوح شاعري لهيف.. يبوح وفي بوحه حزن دفين، تردده أصداء سطور شعرية مفعمة بالشفافية والوضوح، تتناغم مع عذوبة تلك الومضات الشعرية المتدفقة بسحر العاطفة ووضوح المعنى وجمالية التعبير. فما أجمل هذه الومضة الشعرية مثلاً، وهو يخاطب بها وطنه الأثير بقوله:
 (دماؤنا، كقطيع أيائل ترعى في صباحات هضابك).
 حيث يربط الشاعرهنا بين أربعة عناصر رئيسية هي، الدماء، والأيل الحيوان الذي يرمز إلى طبيعة وطنه الجميل، ثم صباحات الوطن، وهضابه التي تتماوج فيها أشعة الشمس الصفراء مع قطعان الأيل والخضرة الممتدة مما يشكل لوحة طبيعية آسرة في غاية الحسن والجمال. 
   نعم يهتز قارئ ومضات (كونى ره ش) وتستنفر كل أحاسيسه النفسية متأثرة ببراكين انفعالاتها المتأججة!. من قصائد تتوزع بين أغراض شعرية متعددة منها الحنين، والرثاء، والحكمة، والحماسة الوطنية الدافقة، في عملية تلازم مستمر بين ما هو واقع وخيال، فهو أميل إلى الالتزام بالوطنية والحياة الاجتماعية للكرد. أي أن قراءة شعر (كونى ره ش) تسمح لنا بترصد مؤشرات ذاتية تمثل رؤية الشاعر لمحيطه بملامح فنية تشي بواقعية متعددة، مع إتقانه لفن الهجاء اللاذع والسخرية المرة غمزاً وتلميحاً دون تصريح، مستخدماً في ذلك الأمثال الكردية مثل: (فاعل الخير يفعل الخير لنفسه وفاعل الشر يحمل وزره)، و(بردعة الحمار لن يصبح أطلس..).
 وفي  شعره ألحان لأغان شجية تلفها الأسى والحزن وأن أبدع الأغاني ما تسربل بالأسى، حسب رأي الشاعر الفرنسي (لامارتين). ولهذا سمى (كونى ره ش) ديوانه بـ (باقة أشجان) هكذا جاء التطابق تاماً وكاملاً بين العنوان وما يبوح به مضمون سطوره الشعرية، فحتى في مراثيه الشعرية الشديدة الإثارة والألم، يحاول أن يحيلنا فيها إلى الوطن في عملية ربط بين آلامه وآلام وطنه الذي يصر أن يستظل معه تحت خيمة واحدة وقدر مشترك، فلا هو يلين ولا وطنه يلين أمام النوائب والمحن أبداً: 
نصبت خيمة سوداء.. لقدري.. وقدر وطني. 
هكذا رأينا الشاعر الكردي (كونى ره ش) شاعر متعدد الاهتمامات الثقافية فهو يهتم بالشعر، إلى جانب جمع وكتابة وتوثيق التراث، مع شيء من التاريخ الكردي، مع ميل إلى التخصص في تاريخ العائلة البدرخانية بشكل خاص. ولكنه في أشعاره ليس بشاعر مزاجي متقلب الاحوال، بل يحافظ على وحدة موضوعاته الشعرية وعلى شفافية القصيدة والبعد عن الغموض والإبهام، واعتماد التنوع لكن دوماً ضمن مسارات الوحدة العضوية لقصائده الموشاة غالباً بطابع من الحزن الشفيف. وكما قال الشاعر السوري نزار قباني: (الشعر هو الرسم بالكلمات)، فكونى ره ش أيضاً رأيناه يرسم لوحاته الوطنية ومراثيه الحزينة وحتى غزلياته بكلمات مؤثرة واضحة ومعبرة بكثير من التعبيرية والجمالية. ولكن ما قلناه لا يعني أن قصائده – كما هو شأن كل الشعراء في العالم – تخلو من النثرية هنا وهناك، وتفتقد الإيحائية والرمز في كثير من سطورها الشعرية. وما ترجمتي لهذه القصائد المختارة من مجموعات الشاعر (كونى ره ش) الموسومة بـ (باقة أشجان)، إلا إيماناً مني بوجوب إطلاع القاريء العربي على كنوز الآداب التي تكتب بالكردية بين الكرد في سوريا. 
في آخر هذه المجموعة دراسة في فن الرثاء لدى الشاعر كونى ره ش.. وحتى لا يعتقد البعض اني مغالي في مدح قصائده، فليقرأ ما كتبه الشاعر شوقي بزيع المسؤول الثقافي والنقدي في صحيفة (الحياة) اللندنية، حول مجموعته الشعرية الأولى (جودي جبل المقاصد)، بترجمة الأستاذ هجار إبراهيم في العدد: 15733، يوم 2/5/2006م. 
خالص مسوَّر
قامشلي 22/10/2009
الكتاب: باقة أشجان (من الشعر الكردي الحديث)
المؤلف: كونى ره ش/ Konê REŞ
ترجمة وتقديم:  الأستاذ خالص مسوَّر
الطبعة الأولى: تموز 2017/ القامشلي
حقوق الطبع والنشر: محفوظة للمؤلف
تنضيد وإخراج: مكتبة ميراف

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…