ساعة دمشق: مآثر الفقد والرحيل

غمكين مراد
 الزمن خيطٌ خفي يُربِطكَ إلي المجهول حين يغدو مُثار حكم، الزمن يدورُ بكَ قهقرةً كذلك، حين تتمرأي أمام ناظريكَ جُثةُ آنِكَ، الزمن يتوقفُ فيكَ حينَ يَمِلُّكَ الانتظار، الزمن أنتَ وهم، الذين حولكَ، والذين لا تعرِفهم، إلا أثراً خطَّ على مجمع الشراكةِ فى مصيرِ أو طريقٍ أو يأسٍ أو غايةٍ أو هدفٍ كنتّ أنتَ ذاتكَ تصبو إليه.
من هنا تأتى »ساعة دمشق« لإبراهيم يوسف مُجزأةً على عقارب أشخاصٍ بِظلال أثرِّهم، وإلى أرقامٍ لفحولة الزمن فى اختبار اليقين المُهترِىء بما كان ينتظرهم من مصائرهم،..
النصوصُ فى ساعة إبراهيم يوسف تُعَدِّدُ التواريخ لحياةٍ كأحداث: « علبتا حليب/إصبعٌ حانية/ ورغيفٌ فى انتظار/أسرة/تحت أنقاض بيت/أشارت إليه طبوغرافيا طائرة الهيلوكوبتر/منذ قليل/حتى استوى بالأرض /فى عناقٍ من دمٍ/ وغبار/ وعويل».
وكخيانات «…هل تلتقى هناك بأبى عادل؟/ وهل تلتقى هناك ببهزاد دورسن؟ / قلّ يا عزيزى هل ثمَّة أسماءٌ أخرى/ نسيتها/ وهى تشرب شاى ليلة العيد معكَ/ فى انتظار إشارةٍ من سجانٍ/ لا يحتاج ألمكَ/ إلى ترجمةٍ/ كى يفهمُهُ؟!».
إبراهيم يوسف فى تواريخ ساعته المضبوطةِ على هواء وطنهِ يوسِمُ كلّ تاريخٍ بوشمٍ مغروزٍ كجرحٍ لا يُمحى آثرُهُ أبداً، التواريخ كجرائم، وكجثث تتراكم فى أنفاسهِ قبل أن يغطيها تراب وطنه فإما أن تلوِّث أو تسقى ذاك التراب،وفى وصفهِ لساعةٍ عافها العالم كلُّهُ متوقفةً على وجعٍ ودمٍ وهجرانٍ وألم،… وكلُّ ما يمتُ إلى الموت بصلة قربى من أشقاء وظلّال فى نصوصه المعنونة بأسماء أبناء بلدهِ الحقيقيين وما خلفوه من آثرٍ أو حادثةٍ أو موقفٍ، وأسماء لأماكنِ جغرافيةِ بلدهِ سوريا المتروكةِ لهواءٍ من دخان، وكلامٍ من صراخ، وصمتٍ من بكاء، وترابٍ ينقلبُ على ظاهرهِ ليدفن الأبناء والأماكن معاً.؟!
اليوسف كأبٍ منخورٍ فى عاطفته تجاه أبنائه : باسل شحادة، غياث مطر، جوان قطنة، … والمترف بوجع الجفاف فى تراب وطنهِ عند رثائه لجسر دير الزور المُعَلَّق، والمُسَلَطِ روحاً على نهفات ولهفات عمره السابق:»هوارو مات…أهل عمودا/ الطيبين/ فقدتم مجنونكم الأخير/ هل تقبلونني/  مجنوناً/ فى مدينتكم هذه؟؟/ -ها أنا أقدِّمُ/ إليكم/ طلب انتسابي/ ها أنا أنتظر/ أن آتيكم/ الآن…».
ولأنهُ أيِّ اليوسف ينحدرُ من  القامشلى مدينةُ التنوعِ والمِللِ العائدةِ بجذورها إلى أعمق أعماق التاريخ البعيد فإنهُ لا يتركُ منابت هذه الجذور إلا وهى تتنسمُ الهواءَ بأوراقها وثمرِها من كلِّ الأعراقِ والأديان المتآلفةِ فى مدينتهِ مدينة الحبِّ من سريان ويهود وعرب وكُرد، وبحُكمِ كُرديتهِ لا يفتأ إلا أن يُفضِل على نفسه الآخرين فى التعبير عن ما كان منهم ولهم وبهم كما فى قصيدته السريان:
« كأنَّما كومةُ أسنانٍ/ تسقُط/ من فكيك معاً/ كلما صفع روحك/ المشهدُ الحزين/ فى كلِّ مرَّةٍ/…./ حين تمرُّ جيئةً وذهاباً/ فى الطريقِ/ بين مكان عملك وبيتك/ كيف إنَّ/ امرأةٍ غريبةٍ/ تُكَنِّسُ/ أثر جيرانكَ/ السريان/ من أمام/ عتبةِ بيتهم.».
وبنَفْس الروح والنَّفَس فى قصيدته « شارع اليهود» رغم هجرة كلِّ اليهود من المدينة:
« … بعد أربعين سنةٍ/ وأنا أتفقدهم/ واحداً تلو آخر/ عسى/ أن تُحِيلُني/ صُوَّرٌ ما/ على جدران بيوتهم/ وهى لمّا تزل/ واقفةً على أرجُل الانتظار.».
اليوسف عندما لا تُسعِفُهُ الكلمات للتعبير عن حالةٍ ما أو حدثٍ ما أو فقدانٍ ما أو ذكرى ما، يلجأُ إلى تثليث الحالة بعناوين مختلفة لكنها بروح الثلاثية نفسها كثلاثية الضريح المجهول ( نفسهُ  المواطن  الشعب) وثلاثية ثلاثتهم والآخرون (الصديق  العنوان  الآخرون) وثلاثية بارود اللُحى الاصطناعية ( فندق هدايا  حلبجة  وصية) ومن أجواء حلبجة نقرأ:
« كلُّ شيءٍ كسماءٍ مُتَكَسرة/ لقصيدةِ شاعرٍ/ تقودُ/ إلى عناصرها الأولى/ فى رماد تلك الظهيرة/ من قامة المدينة».
وهكذا لا يترك إبراهيم يوسف فى زمن ساعتهِ مساحةً إلا وهى مُسلطةً كتاريخٍ محددٍ ووقتٍ وثيقٍ، إما مأثرةً أو ما خلفتها المساحة من كلّ الأشقاء رضاعةٍ من حليب الخوفِ واللجوءِ والموت والخيانة..؟؟!!.


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…