أضواء على موقع الجزيرة السورية وبرية ماردين

كونى ره ش
  ان الجزيرة السورية وبرية ماردين من ضمنها، تعد جزءاً من حضارة بلاد ما بين النهرين تاريخياً، ومركزاً لإحدى اهم الحضارات الإنسانية على وجه الأرض، كحضارة وادي النيل في مصر وحضارة نهر السند في الهند، حيث بدأ فيها الاستيطان البشري ومنها انطلقت الأديان وفيها ظهرت الزراعة وتربية الحيوانات وفيها قامت اول الحضارات الإنسانية. 
  يتفق المؤرخون ان منطقة برية ماردين التي تعد جزءاً من الجزيرة السورية، الواقعة بين نهر الخابور والجقجق، جغرافياً واثنياً وتاريخياً، تشكل بلداً واحداً. وتقسم هذه المنطقة الى القسم الشمالي وتعلوه جبل ماردين وجبل أومريان والقسم الجنوبي وهو برية ماردين.. 
وبرية ماردين المحاطة بنهري الخابور والجقجق، بين القامشلي والحسكة ورأس العين، يمتد طولاً حوالي 120كم محاذياً للحدود السورية التركية، تحده شمالاً جبل اومريان ومدينة ماردين وجنوباً جبل عبد العزيز. وترويها الأنهار الموسمية.. وتدل التلول الأثرية المنتشرة فيها على مدى انتشار القرى والبلدات السوبارتية والآشورية والحورية والبابلية والميتانية.. وبرية ماردين هذا، كان يجلب الناس بكثرة، كونه اخصب سهل في العالم قديماً وحديثاً.
   لو ان المرء نظر من قلعة ماردين نحو الجنوب الى سهول الجزيرة، لبدت له الأرض على مستوى واحد مزروعة بالمئات من التلال الأثرية هنا وهناك.. باستثناء جبل (كوكبى ملان)، الذي يرتفع مثل باخرة في وسط بحر هادئ.. ولبدت له جبل شنكال في الجنوب الشرقي من بعيد، يتطاول نحو السماء وممتداً من الشرق نحو الغرب.. وجبل عبد العزيز في الجنوب.. ولو نظر من فوق جبل (كوكبى ملان) الواقع في وسط الجزيرة حواليه، لبدت له الأرض على مستوى واحد باستثناء جبل (عبد العزيز/ كزوانا) في الجنوب الغربي وجبل (شنكال) في الجنوب الشرقي، مثل جزيرتين في وسط سهل منبسط لا متناهي.. ولبدت له سلسلة جبل (طوروس) في الشمال كجدار تأخذ بالارتفاع في اليمين وفي اليسار، امتداداً متواصلاً لا نهائياً.. وبأسماء عديدة مثل: طورعابدين او (باكوك) واومريان وماردين وجبل قرج داغ.. وجبل طور عابدين جزء من جبل طوروس الجنوبي (انتي طوروس)، يسمى بأسماء مختلفة مثل جبل طور، طور عابدين، جبل ايزلا، وجبل باكوك وسماه اليونان باسم (ماسيوس)، وهو موطن انتشار المسيحية منذ القرن الرابع الى السادس الميلادي.. والاقسام الجنوبية منه كانت تسمى (جيايي جيلكا وقلاجي داسكا وقلاجي كاسكا)، موطن الإيزيدية قديماً. يمتد هذا الجبل من وادي بونصرا (نوالا سيسبانى) ومدينة نصيبين من الغرب الى نهر دجلة وجزيرة بوتان في الشرق.. وهو مشهور بأديرته وصوامعه وكنائسه الوثنية والمجوسية والمسيحية والإيزيدية الكثيرة ومن أشهر كنائسه: كنيسة مار يعقوب النصيبيني ودير قرتمين ودير ماريني ودير الصليب ومار حنانيا وباسبرينا غيرهما.
  في بداية القرن الخامس عشر بلغت الجزيرة السورية مرحلة متقدمة من التقهقر نتيجة غزوة تيمورلنك من عام 1394م ولغاية عام 1401م، فمنذ بداية القرن المذكور لم يبق في الجزيرة غير اطلال القرى، بحيث زالت عنها معالم الحياة الزراعية الا في جوار القرى المحيطة بطريق الحرير؛ من ماردين عبر دارا وسرجخان ونصيبين ودوكر وجل آغا الى اسكي موصل فالموصل.. وتحولت برية الجزيرة السورية الى ساحة مهجورة، غطتها بعض الشجيرات البرية والاعشاب الضارة والنافعة وتحولت الى قفر لا يسكنها الا الحيوانات البرية مثل الغزلان والارانب والثعالب والطيور المختلفة..
  وكثيراً ما اتسأل لماذا اندثر الحياة عن الجزيرة السورية؟ رغم وجود المئات من التلول الأثرية الحضارية الذي سلمه لنا آبائنا واجدانا..؟! يبدو انها كانت عامرة بالقرى والبلدات لغاية القرن الثالث عشر والخامس عشر، ولكن اقفرت واخليت بسبب الجفاء والامراض والحروب والاضطرابات والاضطهادات التي سببها التتر والمغول وعلى رأسهم تيمورلنك في عام 1401م، كما ذكرنا.. هذا السفاح الذي لم يكل سيفه عن القتل وجز الرقاب، فكم من مدينة وقرية في عهده خربت واقفرت؛ اينما حل، حل معه الموت والدمار، وحيثما مر، خرب ودمر واتلف.. هذه الاسباب مجتمعة جعلت الحياة تنقطع في الجزيرة وتندثر، فهرب ذويها الى المغاور والكهوف في جبال ماردين واومريان وطور عابدين واختبأوا.. وهكذا استمرت الحياة لغاية انتهاء الحكم العثماني وعودتها ثانية الى الجزيرة السورية..
  في بداية القرن التاسع عشر كانت الإمبراطورية العثمانية مقسمة الى إيالات والإيالة الى سناجق.. وفي الجزيرة السورية كان خلف آغا يحكم السنجق، المعروف باسمه، ومرجع التيارات والزعامات في سنجقه.. فقد كان يجمع الخيالة من العشائر والزعامات التابعة له في سنجقه، ويوجههم حسب أوامر باشا إيالته في ديار بكر او امير جزيرة بوتان في بلدة الجزيرة.. وسنجقه كانت مقسمة إدارياً الى (خاص وزعامة وتيمار).. ولغاية اليوم يوجد في الجزيرة قرى عديدة باسم (خاص) وعائلات باسم (تيمار)، كعائلة رجل الاعمال (عكاش). 
  وكان مدينة نصيبين الباب الطبيعي للجزيرة وشمال سوريا ومركز من مراكز طريق الحرير، إذ كان مسار طريق الحرير يمر عبرها من الشمال والغرب، بطريقين رئيسين، أحدهما يؤدي من استانبول وحلب الى أورفا ومن ثم الى ماردين ويمر عبر دارا الاثرية الى نصيبين ومنها يخترق السهل الى الموصل، عبر نهر دجلة قرية (كربالات).. والطريق الشمالي كان يؤدي من استانبول ودياربكر الى ماردين وعبر دارا الى نصيبين ومنها الى الموصل عبر نفس الطريق ومن ثم الى بغداد والبصرة.. 
عن كتابي (تاريخ القامشلي: دراسة في نشوئها وتطورها الاجتماعي والعمراني)، الطبعة الجديدة موسعة ومزيدة، والكتاب قيد الطبع.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إعداد وسرد أدبي: خوشناف سليمان
(عن شهادة الراوي فاضل عباس في مقابلة سابقة )

في زنزانةٍ ضيقةٍ تتنفسُ الموت أكثر مما تتنفسُ الهواء. كانت الجدران تحفظ أنين المعتقلين كما تحفظ المقابر أسماء موتاها.
ليلٌ لا ينتهي. ورائحةُ الخوف تمتزجُ بالعَرق وبدمٍ ناشفٍ على أرضٍ لم تعرف سوى وقع السلاسل.
هناك. في ركنٍ من أركان سجنٍ عراقيٍّ من زمن صدام…

صدر مؤخرًا عن دار نشر شلير – Weşanên Şilêr في روجافاي كردستان، الترجمة الكردية لرواية الكاتبة بيان سلمان «تلك الغيمة الساكنة»، بعنوان «Ew Ewrê Rawestiyayî»، بترجمة كلٍّ من الشاعر محمود بادلي والآنسة بيريفان عيسى.

الرواية التي تستند إلى تجربة شخصية عميقة، توثّق واحدة من أكثر المآسي الإنسانية إيلامًا في تاريخ كردستان العراق، وهي الهجرة المليونية القسرية…

حاوره: ابراهيم اليوسف

تعرّفتُ على يوسف جلبي أولًا من خلال صدى بعيد لأغنيته التي كانت تتردد. من خلال ظلال المأساة التي ظلّ كثيرون يتحاشون ذكرها، إذ طالما اكتنفها تضليلٌ كثيف نسجه رجالات وأعوان المكتب الثاني الذي كان يقوده المجرم حكمت ميني تحت إشراف معلمه المجرم المعلم عبدالحميد السراج حتى بدا الحديث عنها ضرباً من المجازفة. ومع…

مروى بريم

تعودُ علاقتي بها إلى سنوات طويلة، جَمَعتنا ببعض الثَّانوية العامة في صفّها الأول، ثمَّ وطَّدَت شعبة الأدبي صحبتنا، وامتَدَّت دون انقطاع حتى تاريخه.

أمس، انتابني حنينٌ شبيهٌ بالذي تقرّحت به حنجرة فيروز دون أن تدري لمن يكون، فوقه اختياري على صديقتي وقررتُ زيارتها.

مررتُ عن عمَدٍ بالصّرح الحجري العملاق الذي احتضن شرارات الصِّبا وشغبنا…