القامشلي – إبراهيم خليل
قد ُيسجَّل لـلكاتب هوشنك أوسي أنه بين أوائل من كتبوا رواية تتناول الخلفية التاريخية للثورة السورية وحاضرها بدقة ومكاشفة، بعد عقود طويلة من الترمز والتورية والاستعارة والتقية، وفي وقت تشهد الثورة السورية ضد نظام البعث قيامتها السابعة، من دون أي آفاق واضحة بسبب التطورات الدرامية التي رافقتها، والمآلات غير المتوقعة التي بلغتها. وللقارئ أن يثق سلفاً في صدق الرواية وموضوعية مؤلفها لسبب رئيس هو وقوعه خارج سلطة النظام والمعارضة في آن واحد، ما ينفي عنه وعنها، شبهة الممالأة إلا للوقائع التي ارتقت إلى مرتبة الحقائق.
وبما أن الإحاطة برواية «وطأة اليقين» الضخمة (384 صفحة – دار سؤال للنشر – بيروت) بمقال صغير، أمنية صعبة المنال، فسأقتصر على عرض بعض الملاحظات والانطباعات التي تكوّنت لدي عنها، معرّجاً في أثناء ذلك على بعضٍ من حوادثها وتفاصيلها.
تبدأ «وطأة اليقين» برسالة إلكترونية يرسلها المعتقل السياسي السابق حيدر لقمان السنجاري السوري العلوي المقيم في سورية إلى صديقه القديم هاغوب زرادشتيان السوري الأرمني المقيم في السويد، يشرح فيها أحواله وأحوال البلاد.
الأسماء مختارة بعناية لتحمل هويات أصحابها وتبوح بخلفياتهم في وطن يضم عشرات الهويات الحقيقية غير المعترف بها لمصلحة هوية رئيسية افتراضية تعود إلى القرن السابع الميلادي، والمؤدلج على قمع جميع اللغات الوطنية الأخرى، لمصلحة لغة لن تجد على امتداد الجغرافيا السورية وغير السورية من يتحدّث بها اليوم. إن اسم حيدر لقمان السنجاري وابنته نوروز ذي الصبغة العلوية الكردية المختلطة، يجد تأكيداً ثانياً عليه في نهاية الرواية عند التلميح بوجود صلة قربى بين الشيخ «السنجاري» العلوي والسلطان صلاح الدين الأيوبي الكردي. بينما يحيلك اسم هاغوب الأرمني وزرادشتيان الميدي إلى قرابة مفترضة، والمثالان معاً ربما يريدان القول بوحدة الدم السوري.
يمكن تقسيم الرواية إلى ثلاثة أقسام، يستغرق الأول منها الخاص بالثورة السورية منذ 2011 والجدل السياسي الدائر حولها، نصف حجم الرواية تقريباً. ويتعلّق الثاني بنسج حبكة بوليسية للبحث في ما وراء بعض المظاهر الغريبة التي تقود إلى اكتشاف شبكة للاتجار بالأعضاء البشرية. بينما يمتح القسم الثالث، وهو الأصغر، من لغة نيتشه وجبران خليل جبران والنفري والحلاج، في مراجعة للكتاب الفلسفي الروحاني الموروث عن الشيخ السنجاري.
يتجاوز القسم الأول الربيع العربي ذاته، وليس فقط الثورة السورية؛ فمن تونس إلى مصر إلى لبنان إلى اليمن وليبيا وصولاً إلى المغرب وفلسطين والكونغو وإيطاليا وبلجيكا، يقدم لنا المؤلف شخصيات متخيلة من سلالة شخصيات حقيقية ذات تاريخ مدون. يتدخل أفراد الجيل الثاني بشكل أو بآخر، وسلباً أو إيجاباً، في الثورة السورية، وفاءً وانسجاماً مع ذكرى أجدادهم، كلٌ على حدى.
تجهد الرواية ألا تغفل شيئاً. فبالإضافة إلى معالجة الثالوث المحرم (الجنس، الدين، السياسة) بحصص متفاوتة، وفي شكل موسّع ومتعاقب، من خلال الأحداث والحوارات، نجد تنوّعاً بديعاً في الأعراق والديانات والمذاهب والأجناس والجغرافيا والاهتمامات، كما نجده في أساليب القص وأنماط اللغة. أما فائض القيم والمفاهيم والعناصر الكبرى المتبقية فيؤخرها المؤلّف إلى خاتمة الرواية على شكل سؤال وجواب (تقنية تراثية).
لستُ في وارد مدح الرواية أو ذمها، وليست تلك وظيفة النقد على أية حال، ولكني أجد من واجبي التنبيه إلى بعض النقاط البنيوية التي لفتت نظري، وأرغب أن ألفت إليها أنظار المؤلف، والقارئ على حد سواء.
أولاً المبالغة في حجم المعلومات العامة والإفراط في ذكر أسماء اﻷعلام (من أشخاص وأمكنة) ونقل الحوادث التاريخية التفصيلية الصغيرة. أعني التوسّع في السرد التاريخي (المعروف) على حساب السرد الروائي (المنتظر معرفته) يخلق جواً من الملل، حتى يخيّل للقارئ في لحظة ما (خصوصاً في الثلث الأول) أنه قد تورّط في كتاب تاريخ يروي وقائع عليه استذكار مكانها وزمانها لئلا ينقطع خيط السرد بين يديه.
ثانياً يبدو للقارئ، في أكثر من محطة، أن المؤلف يحاور نفسه. يدل على ذلك مستوى الحوار المتشابه الملقى على لسان الشخصيات من رجال ونساء، سوية اللغة عينها، وغزارة المعلومات ذاتها: كاترين وحليمة زوجة كمال، وكمال وشارل اليهودي، وماتيلدا الغجرية… وغيرهم، ما يعيد إلى الذاكرة تلك الحوارات الواردة في قصص وروايات بدايات القرن الفائت لجبران والمنفلوطي والعقاد، حين كانت جميع الشخصيات داخل الرواية تصدر عن سوية ثقافية واحدة، يغلب أن تكون فلسفية وعميقة (انظر على سبيل المثال حوار حليمة زوجة كمال، وكذلك حوار شارل اليهودي مع ماتيلدا الغجرية الإسبانية ص157). ولا تفسير لذلك عندي سوى أنه قصور في عملية (الخلق الروائي) المعقّدة، والتي كان يجب أن تعالج بشكل يضمن التنوع والتميّز والتراتبية والاختلاف.
ثالثاً تماهي الروائي بالراوي: هوشنك أوسي هو «ولات أوسو» (انظر الصفحات 121 وما بعد كعينة) ما يجعل من «وطأة اليقين» سيرة ذاتية مكتوبة بقصد وعناية. وآية ذلك تصريح على لسان ولات أوسو: «سيرة الكاتب ربما تكون محصورة ببطل من أبطال الرواية، أو في شخص هامشي ضمن شخوصها، أو يكون جزء من سيرته الذاتية موزّعاً على كل أبطال العمل» ص244. ما يجعلنا نجزم بإدراك المؤلّف تمام الإدراك، لهذه النقطة، على أن توزيعه لأفكاره ونثر فلسفته الحياتية على ألسنة الشخصيات التي خلقها بهذه الصورة، لم يجعل منها كائنات متفوّقة تجتذب القارئ، بقدر ما جعلها تبدو مخلوقات نمطية لا واقعية. أعني مجرد آلات لنقل كلماته وأفكاره، لا كائنات من لحم ودم.
لا تخلو الرواية كذلك من بعض الأخطاء الطباعية والنحوية النادرة مثال كلمة (la schaloupd’or) الفرنسية في ص156 التي أشك في صحة إملائها. وبعض هنات أخرى لا تستحق الالتفات إليها. ولكن ما بدت لي سقطات بالفعل: في حديثه عن كاترين دو وينتر ثمة مفارقة: (مع بداية الحرب، كان عمرها ثلاث سنوات. وحين انتهت، بلغت الثانية عشرة – ص47) والمعروف أن الحرب الثانية دامت ست سنوات فقط (1939– 1945). المكالمة الهاتفية بين الدكتور إدوار فاندرويه وأحد شركائه في تجارة الأعضاء البشرية في الصفحة 296: يتدخّل الروائي هنا في شكل مباشر، وينقل لنا الجمل الحوارية التي نطقها الطرفان كاملة. على رغم أن الطرف الآخر يتكلّم عبر سماعة هاتف. ومن المفترض أن الدكتور فاندرويه وحده من يسمع كلام محدثه (بالطبع الأمر مختلف في المكالمة الهاتفية بين يان وايليس ص305 لعدم وجود شخص ثالث). في حوار عن إبليس على لسان ماتيلدا الغجرية الإسبانية: «بلى ولشدة حبه لله عصاه ولم يشأ السجود لغيره…» ص163. وهي كما لا يخفى؛ من بعض أفكار متصوفة اﻹسلام المتقدّمين كالحلاج والبسطامي وابن عربي وبالطبع فإن الإلماح في النهاية إلى أن ماتيلدا كانت مجرد وهم لعبة فنية بارعة.
عن صحيفة الحياة
http://www.alhayat.com/Articles/23429526/هوشنك-أوسي-يسترجع-مآسي-الأقليات