الحمْل العزيز

د. آلان كيكاني
نعت الحكماء حمْلها بالعزيز، أو النفيس، لأنه الأول لها بعد أن قاربت الخمسين من العمر دون أن تنجب، رغم أنها، ومنذ أن بلغت، لم تترك طبيباً أو ضارب مندل أو عارف بخت أو قارئ كف إلا وعرضت نفسها عليه في سعيها الدؤوب إلى الإنجاب، ولم يقطع أحد من هؤلاء أملها، بل بشروها بمولود جميل في قادم الأيام دون أن يذكروا لها في أي سنة أو أي يوم. وقد أكد لها الأطباء أنها خصبة الرحم ولا يوجد فيها ما يعيبها أو يمنعها من الحمل، وحين السؤال عن سوابقها المرضية والجراحية علم الأطباء أن لها سابقة إسقاط واحد غداة كانت في السادسة والأربعين، حيث سقط منها جنين غير مكتمل النمو عاش أحد عشر شهراً ثم مات دهساً بسنابك خيول الأوغاد. 
لم يرتح لها بال أبداً، ومنذ أن بانت تباشير بلوغها وهي عاقدة العزم على الإتيان بمولود وسيم، لكن الحظ لم يحالفها، وظل القدر يعاكسها على الدوام، رغم أن فحلها مبروم الشارب، مفتول العضلات. 
وها هي قد حملت لتبرهن للمتشائمين أن التاريخ لا يضن على الساعين، مثلما هو لا يرحم المتقاعسين والمغفلين، وأن السائر على الدرب وإن طال به الطريق لا بد وأن يصل. 
خاطت له من الحرير ثوباً. ومن ريش النعام نجدت له فراشاً. وأختارت له من الأسماء أجملها، وجلست تنتظره. عما قريب سيصرخ لأول مرة في بيتها مولود، وسيملأ الدنيا صخباً وصراخاً. وبعد أيام سيبتسم لها، ويا لسعادتها. 
وإنْ هي إلا شهور وسيمشي، وسنين وسيبلغ، وسيفتل شاربيه قائلاً لكل حاقد حسود: ها أنذا وعود في أعينكم. وسيسعى إلى امتلاك أرض آبائه وأجداده ليحرثها ثم يزرعها زيتوناً وورداً.
خروسٌ مسنةٌ، وحملٌ عزيزٌ، عاملان اجتمعاً ليؤكدا أن الولادة الطبيعية لا مكان لها، وأن القيصرية هي استطباب مطلق. ومن شدة توقها لوليدها وتعطشها لرؤيته دفعتها غريزة الإنجاب إلى الموافقة على العملية الجراحية دون تردد قائلة “ليأتي ولا همّ إن شقوني نصفين، ليأتي ولا ضير إن متُّ بعدها، المهم أن يأتي”.
وهي تستعد لاستقبال الوليد الحلم، وتغزل له من جدائلها أقمطة، لا تدري إلام ستؤول الأمور، وماذا سيكون مصيره. إنها تخشى عليه حقاً. كان مغتصبو أرض أجداده يحسبونها عاقراً لا تلد ابداً، ومجرد نفخة صغيرة في بطنها كانت كافية لبث الرعب في قلوبهم، فكيف وهي تتمخض الآن وصرخات آلام مخاضها تملأ الآفاق ضجيجاً؟ لا بد وأنهم سيتكالبون عليها.
وها هم يبحثون عن وسيلة لقتل الجنين في بطنها قبل أن يبزغ. منهم من يحمل بلطة في يده، ومنهم من يحمل بندقية، وآخرون يحملون حجارة يريدون بها تهشيم رأسه ساعة ظهوره، ومن لا يستطع حمل السلاح يرفع يديه إلى السماء ويدعو الله أن يتوفاه أو يرسل له صاعقة تفحمه.
والحق ليس المتربصون بها من يقضّون مضجعها ويبثون الذعر في قلبها، وإنما ذلك الألم الذي باغت خاصرتها وراح ينخر فيها. فهي لا تخشى مكائد المتربصين وشرورهم، بل تخشى خيانة خاصرتها لها، وما قد ينجم عن هذه الخيانة من إسقاط محتمل لجنينها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…