صبري رسول
مدينة «أوستند» البلجيكية الساحلية، إليها أهدى الكاتب الكردي السوري هوشنك أوسي روايته الأولى “وطأة اليقين.. محنة السؤال شهوة الخيال” (دار سؤال – بيروت – 2016) الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية، دورة 2017، عن فئة الروايات المنشورة. وجعل أوسي من بلجيكا مركزاً للحدث، ترتبط به أماكن وأحداث في أفريقيا وأمريكا وأوربا وآسيا. بلدان وشخصيات وأحداث وأنظمة كثيرة تشترك في أحداث الرواية الموزعة على تلك الجغرافية المتباينة حتى في سحنات أهلها.
روايةُ “وطأة اليقين”، (لوحة الغلاف للفنان العراقي ستار نعمة)، ترسمُ مساراتٍ «واقعيةً وافتراضية» ومشاهدَ حقيقية عايشها الكاتب، وأخرى متخيّلة تكمّل الحقيقية لثورات عديدة تمتد من أفريقيا قبل عقود وتنتهي في سوريا، من خلال شخصياتٍ يسردُ الكاتبُ أحداثاً وتواريخَ تضجّ بها صفحات مطولة على ألسنتهم. يستهل الكاتب روايته برسالة الكاتب السّوري حيدر لقمان أزدشير السنجاري إلى صديقه الأرمني. وهذه الرسالة هي واحدة من أربع رسائل ومجموعة من الأوراق الأخرى تكشف معالم هذه الشخصية التي تبقى غامضة إلى أن تفصحُ عنها وعن شجرتها العائلية تاريخياً في نهاية الرواية. فالكاتب السوري المعارض الذي يقضي خمسة عشر سنة في سجنٍ وسط صحراوي موحش يشعرُ بأنّ الحياة داخل السّجن أرحم من خارجه، ويكشف هواجسه وقنوطه من الحياة في رسائله المرسلة إلى صديقه المقيم في السويد.
ترزحُ رواية “وطأة اليقين”، تحت وطأة أحداثٍ تاريخية قديمة وحديثة، يزجّ بها الكاتب مع شخصياتٍ لها دور في وقوعها، مُسهباً في سيرهم الشخصية، ووقائع تنتمي إليها. الرواية مُثقَلة بأزمنة عديدة تتداخل مع أزمنة السّرد الروائي للأحداث إلى درجة التباس الخيال بالواقع.
ازدحم الفضاء الرّوائي في “وطأة اليقين” بأحداثٍ كثيرة، كبيرة وطويلة، كأحداث الثورات التي اجتاحت جغرافية العرب من تونس إلى سوريا، وصغيرة كهموم شخصٍ يبحث عن ذاته في مرايا أوربا. كل تلك الأحداث تبقى جزئيات من حياة الكاتب السوري حيدر السنجاري «بؤرة الأحداث كلّها» الذي يُصيبه إحباط كبير بعد خروجه من سجنٍ قضم خمسة عشر عاماً من حياته، ويسري تفاؤل كبير في نفسه بعد انفجار الثورات في وجه الشتاء العربي الطويل العاتم. فيتواصل مع صديقه الأرمني الذي وحّدهم الانتماء السياسي «هاغوب زرادشتيان» المقيم في السويد، ودفعا ربعَ حياتهما ثمناً لمبادئهما.
“وطأة اليقين” إحدى الروايات السورية الرّاصدة للأحداث الدامية فيها منذ سبع سنوات. يُعرَف أنّ الأدب يأتي تالياً للحدث، ينقل تفاصيل انتقائية منه، يمزجها بأخرى خيالية. ورغم ضخامة الأحداث ومأساويتها إلا أنّ الرواية السورية تخلّفَت عن مواكبتها. في هذه الرواية يجعل الكاتب من أحداث تاريخية مرتكزاً لجنوحه السّردي لحكايات متشابكة متقاطعة في أزمنة متعددة وأمكنة مختلفة. ركّز على عقدة رئيسة للرواية (الشخصيات المتعاطفة مع الثورة السورية) وحكاية كلٍ منها، ويترك الأزمنة والأمكنة والأحداث والشخوص تسبحُ في مساراتٍ لا يمكن الإحاطة بها إلا في فضاءات واسعة. فانتقال أعضاء بشرية من الكاتب السوري، وزرعها في أجساد فتاة ألمانية، ورجل كونغولي وشاب إيطالي، يعيشون في مدينة واحدة أضفى على فضاء الرواية مشاعر صوفية، فوحّدت تلك الأعضاء أمزجة تلك الأشخاص وميولهم، كما وحّدت الثورة السورية تعاطف العالم مع مأساة السوريين، وشكلوا مجموعة تجمعهم اهتمامات مشتركة، وتعاطفاً مع السوريين.
والتفاصيل الدقيقة لإحدى شخصيات الرواية «ولات أوسو» هي جزئيات السيرة الذاتية للكاتب هوشنك أوسي، وتعكس مواقفه ورؤيته للأحداث السياسية السّاخنة في سوريا والشرق الأوسط، بدءاً من لقائه مُصادفةً بـ«كاترين دي وينتر» وإلى نهاية الرّواية.
يبدأ التشويق مع رحلة بحثٍ طويلة عن هوية الشّخص الذي يفترض أنه “المتبرّع” بأعضائه، أوصلت المجموعة لكشف شبكة ضخمة للتجارة بأعضاء بشرية، وأن إحدى حقولَها الخصبة المُنتِجة الساحة السورية المدماة. فالنظام لا يكتفي بقتل معارضيه بل ينتزع أعضائهم ويتاجر بها لتمويل جيشه في حربه القذرة ضد الشعب السوري. هكذا تشترك أطراف دولية في تمزيق الشعب السوري، والمتاجرة بثورته. وأنهى الكاتب روايته بحادث سير مفاجئ ليسدل الستار على أربعة شخصيات رئيسة، ثلاثة منهم يحملون أعضاء الكاتب السوري، والآخر حقيبة أسراره وصديقه في السجن الصحراوي القاسي. وربما هذه الخاتمة تطرح تساؤلات عدة منها: هل انتهى دور حيدر السنجاري وتأثيره بعد مكاشفة أصله وعائلته وتأثيرهم على مسار الأحداث التاريخية؟ وهل انتهى التعاطف مع السوريين ومأساتهم؟
واستخدامُ هذا العنوان الشّاعري (وطأة اليقين.. محنة السؤال وشهوة الخيال) لأحداث سياسية ساخنة، له دلالات كثيرة، يدفع الفضول المعرفي لدى الإنسان لمعرفة الحدث فيها. فمن حيث اللغة: وَطْأَةُ القَدَمِ: أَثَرُ القَدَمِ. الوَطْأَةُ: الضَّغْطَةُ والأَخْذَةُ الشديدة. صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من يقِنَ؛ يقِنَ بـ. وأولى مراتب المعرفة علم اليقين يليها مرتبة عين اليقين ثم حق اليقين (معجم الوسيط). وفي الرواية كانت ثمة تساؤلات كثيرة سياسية ومعرفية، بادر ولات أوسو الذي يعكس شخصية الكاتب في الإجابة عن الكثير عنها؛ وتساؤلاتٌ كبرى عن النار والله والصلاة والتراب والهواء…، ولم يتوقف خيال الكاتب عند حدّ، وانطلق لشرح الأمور بإسهاب.
هذه الرواية، يغيب عنها البطل المحوري الذي تدور حوله الأحداث، وكأنّ الثورات لايصنعها شخص واحد، بل شخصيات كثيرة تدور حولها الأحداث. إلا أنّ فصول الأحداث والشخصيات كلها تبقى مسخّرة لنفض الغموض عن حقيقة صاحب الأعضاء، المنتزع منه أعضاؤه، قبل وفاته.
ما الدلالة التي يمكن استنتاجها من مقتل ثلاثة شخصيات وحّدتهم أعضاء الكاتب السوري، في الميول والمشاعر في حادثٍ واحد؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها. النهاية جاءت مأساوية وعلى عجل. واستعاض عنها فصولاً قريبة من الفلسفة الصوفية في تفسير المفاهيم والمصطلحات ضمن أوراق ورسائل بين يدي ولات أوسو، وتنقسم إلى خمسة أجزاء: منفردة رقم 16 (صـ350) وفيه حديث مطول عن أبنية وقبور. والثاني: رحلة السؤال في اشتهاء الخيال (صـ355) وفيه أسئلة عن أمورٍ ورؤى مازالت الفلسفات البشرية لم تحسم أمرها النهائي في معرفتها، حيث حيدر السنجاري يحكي لصديقه في السجن حديثه مع جده، فيسأل، وجدّه الشيخ أزدشير بن حيدر بن معصوم بن علي السنجاري يجيب، منها: الحياة، الوجود، الزمان، الإيمان، العقل، النّفس، الخطيئة، الحبّ، الجنّ، الملائكة، الجحيم، الجنة، النار، الماء، التراب، الهواء. والشيخ يُسهب ببلاغة قوية في توضيح هذه المفاهيم.
يتنوّع السرد الروائي في “وطأة اليقين” في استخدام الضمائر، يتنقّل بين الضمير الأول والثاني، مستخدماً تقنية المراسلات مرة، والسرد المباشر أخرى، والمنقول على ألسنة الشخصيات مرة ثالثة. ويتأرجح مستوى اللغة الروائية بين المباشرة غالباً والإيحائية أحياناً. بينما ترتقي اللغة في الفصول الأخيرة إلى لغة الفلسفة والبلاغة العربية. ما يعني أن هنالك تنوّع حتّى في مستويات اللغة المستخدمة.
“وطأة اليقين” رواية سياسية بامتياز، والتشكيك بالتاريخ سمة قوية فيها. وهذا أمر مشروعٌ، فما نقرؤه في كتب التّاريخ من أحداثٍ، أبدعَ تفاصيلَها وعّاظ السّلاطين وكتّاب الخلفاء. (ولكن هل حدث كل هذا، كما رويَ، أم أن الأمرَ محضُ التباسٍ، لا أكثر؟!) صـ7. إنها جديرة بالقراءة حقاً.