إبراهيم اليوسف
كلما اتصلت -هاتفيًا- بالشاعر خليل ساسوني 1944-2017، بُعيد تعرضه لمرض سرطان الرئة، لأطمئن على صحته؛ كنت أشعر أنني أمام أنموذج جد استثنائي من المرضى؛ إذ كان يشدُّ من عزمي، ويقرأ عليّ ما كتبه من قصائد جديدة، لا سيما قصيدته عن (السرطان) التي راح يتحداه فيها، ويتوعده، بأن يهزمه، يقرؤها وكأنه في ساحة معركة، وقد انتصر، ويرى عدوه مندحرًا. لم أرَ اليأس قد تسرب إلى روحه، لحظةً ما، فلطالما كان يبدو لي -ونحن نتهاتف- حتى الأسابيع الأخيرة، قبيل اشتداد المرض عليه، وهو في بلاد الغربة -كردستان تركيا- كمن يخطط لحياته بعد مئة سنة أخرى: سآتي إلى ألمانيا، وسنلتقي. وأضيف من جهتي: ونعود معًا إلى قامشلي، ونواصل أنشطتنا هناك، فلا أهمية لكل ما ننتجه، في بلاد الآخرين، حيث يبدو إنتاجنا -كما كل شؤون الحياة العابرة- بلا نكهة.
كنت سأعود، لولا أنني أعالج هنا! كان يقولها لي.
لم ألتق الشاعر خليل ساسوني، منذ ما يقارب عشر سنوات، أو ربما أقل قليلًا، كما يخيّل إلي. أذكر أنني عندما اقترحت اسمه للجنة جائزة (جكرخوين) للإبداع، عشية دورتها للعام 2009، وتمت تزكيته، تقديرًا لدور خطابه الإبداعي، وخدمته للأدب الكردي. كنت آنذاك في الإمارات، أحببت أن أعلمه بالقرار. اتصلت به، هاتفيًا، مسَّ الخبر وجدانه، اغتبط به. أكملت وقلت له: أما مراسيم منحك درع الجائزة فتتطلب عودتي، والظرف المناسب، فقد كان ممن يعلمون حقيقة دواعي سفري، وتعمقت بيننا علاقة عميقة، مع الزمن؛ إذ كان من الأكثر مواظبة على حضور فعاليات الملتقى الثقافي، والذي سميناه لاحقًا “المنتدى الأدبي”، يقدم خلاله بعض مساهماته، بين حين وآخر. قال لي، في إحدى الدورات اللاحقة: تهمني الجائزة. يهمني تقديركم لي. لست مستعجلًا عليها.
كنت أتصرف كما الواثق بأن النظام السوري سيتغير، وأن ظروف البلاد ستتحسن، وأن آلاف المشاريع الحلمية التي طالما فكرت بها، لا بدَّ أن تتحقق، لم أتوقع -يومًا ما- أن ظروف مهادنا سوف تسوء أكثر، ولكنني، بعد أن عرفت بمرض الشاعر ساسوني، اتصلت ببعض الناشطين في كردستان تركيا، ومنهم دجوار كلش، لكي يمنحوه الجائزة باسمنا، بَيد أن موانع ما تمت، ثم خططنا لكي نكلف الباحث إبراهيم عباس بهذه المهمة، لكننا لم نوفق، وقد نقل إلي صديقي خورشيد شوزي -خال أبنائه وبناته- وصديقه المقرَّب، بأنه عاتبني على أنني لم أرسل إليه -شهادة الجائزة- وكان التواصل بيننا مستمرًا، ولم يواجهني بتقصيري.
آنذاك، صرت أتوجَّس في قرارتي، بالرغم من أنه طوال الاتصالات الهاتفية التي تتم بيننا، يتحدث بروح من لا معاناة له ولا خوف لديه من سطوة ألم! لكنّه بات يستشعر خطورة المرض الذي كان قد تسلل إلى داخله، وظل يقاومه، لذلك اتصلت بالصديق عبد الباقي حسيني، وحثثته على إرسال شهادتي التكريم إليه، وقررنا تسليم الجائزتين لنجله برويز وكريمته ميديا اللذين يعيشان في المدينة التي أقيم فيها لاجئًا: إيسن الألمانية، وكان ذلك بناء على توصيته، كما نقلها إلينا الزميل حسيني. كنت اقترحت على الصديق خورشيد شوزي أن يجري حوارًا مطولًا معه، وأن نعد أكثر من ملف عنه في جريدة (القلم الجديد)، بالنسختين الكردية والعربية، وهو ما باشرنا به، غير أن يد المنية اختطفته*، خلال وقت قصير؛ حيث أدخل المشفى في المدينة التركية التي يقيم فيها!
خليل محمد علي، أو خليل ساسوني، هو أحد الشعراء المقربين من شاعر الكرد الأكبر: جكرخوين، وقد روى لي الروائي جميل إبراهيم أن مخطوطته الشعرية الأولى تمت طباعة نسخ قليلة منها على الآلة الكاتبة التي كان يمتلكها جكرخوين، ولربما نضدها له الراحل جكرخوين بيده، غير أن ما يسجل على الشاعر الذي واصل الكتابة الشعرية، على امتداد حوالي نصف قرن، أنه لم يقدم على طباعة أي مجموعة شعرية له في حياته، على الرغم من أن بعض كبار الفنانين غنوا بعض قصائده، ذات الدلالات العميقة، والموسيقا العالية، في الوقت الذي كان كل من حوله، ومن الأجيال التالية -حتى بعض من تبنى مواهبهم- يواصلون طباعة نتاجاتهم الأدبية، مع أنه حدثني ذات مرة، أن أحد كتبه قد تمت طباعته -سهوًا- باسم الشاعر الكبير جكرخوين؛ إذ حصل أحد الناشرين على نسخة منها، لدى سيدة كردية، لتتم طباعتها، وبعد أن تم كشف ذلك، ووعد الناشر بأن يتم استدراك الأمر، دون جدوى، وكان هذا ما يؤلم الشاعر ساسوني، على الرغم من أن المعنيين في أسرة الشاعر جكرخوين بينوا حقيقة ما حدث، منصفين الشاعر ساسوني الذي لم يدفعه ما حدث وغيره، إلى التفكير الجدي بطباعة كتبه.
استغليت ذات “تفاؤل” من لدنه بالشفاء، وهزيمة السرطان، فرصة لأقترح عليه أن يقوم بتدوين بعض ملامح سيرة حياته، ولا سيما أنه شاهدٌ على مرحلة سياسية حساسة جدًا في تاريخ شعبه، وبلده، ووطنه، ناهيك عن أنه كان محاميًا بارعًا، إضافة إلى إنه كان قياديًا سياسيًا، ولا أدري أفعل ذلك أم لا. عندما أعلمني باقتراب مجيئه إلى ألمانيا؛ تفاءلت أكثر بأن يتمكن من القيام بمثل هذه الكتابة، إضافة إلى التفرغ ليس لجمع وطباعة مخطوطاته فحسب، وإنما لمواصلة مشروعه الإبداعي.
كانت للشاعر ساسوني أذن موسيقية مرهفة، كما كان له معجمه اللغوي الثري، ينهل منه، ويكتب قصيدته في مواضيع شتى: قومية ووطنية وإنسانية ووجدانية، وكان جريًا على طريقة الشعراء الكرد في تلك المرحلة، يكتب القصائد ذات النفس اليساري، إذ ورد ذكر بعض الرموز التقدميين في العالم، في أكثر من قصيدة له، إلا أن محور قصائده، برمتها، كان حول حلم وطنه: كردستان، ولكم يؤلمني أن النقد الكردي لم يتوقف طويلًا أمام تجارب عدد من رواد القصيدة الكردية، التي كان ممنوعًا على الشاعر أن يكتبها، ولو كانت غزلية، بل كان ممنوعًا على متلقيها قراءتها، واقتناعها في أي وعاء ورقي أو حتى إلكتروني.
باختصار، سيرة الشاعر خليل ساسوني، سليل الأسرة الكردية العريقة مليئة بالمحطات التي يجدر التوقف عندها، فهو الذي فتح عينيه في مدينة “قامشلي”، وتابع دراسته، وتشرب بالروح الوطنية في كنف أسرته ذات التاريخ المعروف، وكان والده وأسرته قدموا إلى منطقة الجزيرة، بعد أن قادت أسرته انتفاضة “ساسون” 1935-1936 ضد سياسات أتاتورك الممنهجة بحق الكرد، وهنا أراني أذكر ما أتذكره عن ورود نتف عن حياة الأسرة في بيتنا -وداخل السياق هنا- إذ إن أبي أعلمني** أن والده أي جدي*** قال لمن حوله، بعد أن وصل بعض أفراد عائلة علي يونس -أو المحسوبين عليهم لا أدري- إلى منطقة “الشيتية”: هؤلاء أعزاء…. فاهتموا بهم. وكانت عمتي الأكبر منه سنًا، تردد قصصًا تفصيلية عن تلك المرحلة، وتذكر بعض أسماء هؤلاء. ويؤكد ذلك زوجها الأكبر سنًا منهما. عمومًا، لقد كان الشاعر ساسوني ممن انسلخت عنهم الجنسية السورية، ولم يحصل عليها إلا في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وكان جكرخوين مرجعه الشعري الأول، في بدايات تجربته، وظل وفيًا لذكراه حتى آخر لحظة من حياته.
رحيل الشاعر خليل ساسوني خسارة كبيرة للقصيدة الكردية، فهو أحد فرسانها الحقيقيين، إذ إن ما قدمه من إبداع -بالرغم من أنني أعدّه مقلًا نظرًا إلى مشاغله السياسية والاجتماعية، إضافة إلى مشاغله المهنية كمحام، وقياسًا إلى تجربته الطويلة مع الشعر- يمثّل إضافة إلى القصيدة الكردية، باعتباره صوتًا له خصوصيته، إذ كان يعكس صدى تفاعله باللحظة، وقد كانت مشاركاته الشعرية في الأمسيات الشعرية -على قلتها أيضًا- تنم عن تفاعله مع الحدث الكردستاني العام، يقدم رؤاه، وموقفه، كممثل عن ضمير ذويه، وأهله، بل شعبه. من هنا، فإن مهمة الاهتمام بتراثه الشعري، وإعداده، وجمعه، وطباعته، ملقاة على كواهلنا جميعًا، ناهيك عن أن علينا -المعنيين بتجربته الإبداعية- أن نعمل معًا من أجل تخليد ذكراه، على الأصعدة كلها التي تليق بصوت شعري مؤثر، لأنه برحيله الأليم فقدنا أحد أواخر شعرائنا الكلاسيكيين المعاصرين، ممن كان يمكن إدراجهم في إطار المدرسة الجكرخوينية، بامتياز.
……………………………………………………..
* المؤلم أن الشاعر دُفن في كردستان تركيا، بعيدًا عن ملاعب طفولته وشبابه ومهاد ذكرياته وحبه وقصيدته وبيئته.
**بعض أفراد العائلة الساسونية مروا بقرى خزنة وكرصوار وخريجكة وما حولها، كما علمت. قبل أن تستقر خريطة الأسرة في قرى عديدة، ومن ثم في مدينتي قامشلي، وديرك…. أذكر هذا، لضرورة معرفة مواقف كرد سورية من أهلهم، ولا سيما موقف رجل دين معروف في مكانه: أي جدي.
ملاحظة: هذه الإشارة تحتاج إلى تدقيق، لأن من رووا لي عن ذلك رحلوا، رحمهم الله جميعًا. ما أذكره حديث أبي وغيره من أسرتنا، فحسب…
*** عبارة جدي كانت: “جنتكم صارت أمام بابكم”. أي قفوا معهم!