إبراهيم اليوسف
يضطر الكاتب، خلافًا لبعض تقاليد الكتابة الإعلامية، أحيانًا، إلى أن يكتب تحت وطأة عاطفته، عبر حضورٍ لا بد منه لضمائر الذات، لا سيّما عندما يتناول تجربة إنسانية قريبة منه؛ إذ لا بد هنا -كما يُخيل إلي- من إقحام ما هو شخصي في مثل هذه الكتابة، ويتعاظم مثل هذا الإحساس، عندما تكون المناسبة رثاء مبدع ما، من خلال منظور أحد المقربين منه، وهو -تمامًا- ما يحدث خلال تناولنا هنا لتجربة الفنان الكردي الكبير كانيوار عبد اللطيف خلف عبدالسلام 1959-2017 والذي أغمض كلتا عينيه، آخر مرة، قبل أيام قليلة، في مدينة (أورلهم) الهولندية التي لجأ إليها من بلده سورية، بعد أن ضاقت بأحلامه، وبه، فيمم وجه شطر المهجر الأوروبي، لعله يواصل رسالته الإبداعية، كأحد أهم المغنين الكرد.
أولع الفنان كانيوار منذ طفولته بعالم الغناء، وراح يحاكي منذ ذلك الوقت الأغاني الهندية التي كان يستظهر عددًا كبيرًا منها، إلى جانب متابعته ومحاكاته، عبر حنجرته المائزة، لأغاني عدد من الفنانين الكرد، لا سيّما الفنان الكبير الراحل محمد شيخو، ناهيك عن الفنان الكردي أحمد كايا من تركيا، غير أن نقطة التحول الكبيرة تمت لديه بعد انتشار أشرطة أغاني الفنان الكردي العالمي شفان برور، وقد وجد صوته قريبًا من صوته، فراح يعيد غناء بعض أغانيه، قبل أن يلتقي بالفنان الراحل الطالع جمال سعدون الذي تعرف عليه، إبّان عمله معلّمًا في ريف ديرك المالكية في سورية، ليصدرا معًا عملهما المشترك: (ديلان كريا) dîlan gerya، أي “دارَت الرقصة”، وهو الأول بالنسبة إليه، والثاني بالنسبة إلى الفنان سعدون، واجتمع في ذلك العمل صوتان متكاملان، لكل منهما خصوصيته، وإن كان لتقويمهما عبر المقياس الفني شأن آخر، يتعلق بتفاصيل الخصوصية الفردية لهاتين الموهبتين الإبداعيتين، ليكونا الصوت “الكانيواري” الواثق العذب، والصدى الجمالي الرقيق، في سفر موسيقي غنائي آسر.
ولِكون كانيوار ابن بيئة كردية، ولكون أبيه من المحافظين الملتزمين دينيًا؛ فقد عانى -إلى حين- من والده الذي لم يرتح إلى خياره الفني، وكان يرى في اقتنائه الآلة الموسيقية خطيئة؛ ما دفع به إلى أن يخبئ آلته الموسيقية أحيانًا، ولا سيما أثناء التحاقه بعمله في بيتي، أو بيت الشاعر حفيظ عبد الرحمن، بعد التحاقي أنا الآخر، بعملي، أو ربما استعان بغيرنا، ليتحفنا بصوته الشجي في بعض الحفلات الصغيرة، في قبو بيته الذي كانت على جدرانه صور بعض الأفلام الهندية، وخصوصًا فيلم (مانوج كومار) الذي كان يقلده، ويتباهى بأنه يشبهه.
وقد سمّى نفسه “كانيوار“؛ لأن هذه المفردة جمعت بين دلالتها الكردية “أين الوطن”، واسم فيلم هندي تأثر به، وهو فيلم (كانيوار) بطولة راجندرا كومار شقيق الفنان مانوج كومار الذي كان من أشد معجبيه، كما يؤكد ذلك -أيضًا- صديقنا المشترك في تلك المرحلة د. فهد إبراهيم. وكان الفنان كانيوار يعلق صور وإعلان هذين الفنانين الهنديين، وغيرهما من الفنانين الهنود كإعلان فيلم (أمسية في باريس) لشامي كابور، إلى جانب صور بعض الفنانين الكرد، على جدران غرفته التي طالما غنى لنا فيها، في غياب والده، أو خلال ذهابه إلى المسجد، قبل أن يقبل والده بالأمر الواقع، على مضض، باعتبار الغناء محرمًا، وغير مقبول اجتماعيًا، بحسب قناعاته.
غنى الفنان كانيوار لعدد من الشعراء الكرد، بلغته الكردية الأم، ومن هؤلاء: عصمت سيدا، جكرخوين، تيريج.. كما أنه غنى قصيدةً لي كتبتُها في المرحلة الثانوية، بعنوان (هي هي كانيوار) hey hey kanîwar أي: يا كانيوار، و “أي” أحد أساليب النداء الحميمية باللغة الكردية، وكانت قصيدته (مضيفة الطائرة) mazûvana balefere” للراحل عصمت سيدا إحدى أهم أغانيه، إلى جانب قصيدته (ليت ياحبية) xwezî yarê.
إلى جانب الحسّ الإنساني الرفيع، لدى الفنان كانيوار -ومن بين خصاله ومآثره النبيلة، الصدق والوفاء- يبدو شعوره القومي، الذي ظهر في وقت مبكر من حياته، ما جعله ينضم إلى إحدى الفرق الفنية الفلكلورية الكردية، في تلك المرحلة التي كانت الأغنية الكردية ممنوعة من قبل سلطات نظام البعث الحاكمة، وإنْ كانت أغنية حب، وكان الفنان الكردي محاصرًا بأجهزة النظام السوري التي تضغط عليه، وتتابعه، وتصادر كاسيتات أغانيه، وتعتقل أي مخالف في هذا المجال، وقد حدث ذلك حتى مع أحد أكبر الفنانين الكرد: محمد شيخو، إلا أن كانيوار واصل مشروعه الغنائي، على الرغم من كل تلك الظروف، وكانت أغانيه التي توزعت بين الحب والوطن تُردد على أفواه الناس، وهو يغني لحبيبته، وحلمه، ووطنه، مقارعًا الاستبداد.
طموح كانيوار في فتوته وشبابه، وولعه بالمسرح، دفعه إلى الاشتغال في عالم المسرح، حيث شارك في الدور البطولي في مسرحية (الطبيب الأمي) التي كتبتُها وأخرجتُها، وكانت تومئ، بشكل رمزي، إلى عدم صلاحية “الرئيس” لقيادة بلده، وقد تمّ توقيف عناصر الفرقة، والاعتداء على عدد منهم، ومن بين هؤلاء الراحلان: كانيوار، وجمال جمعة الذي أصبح بدوره أحد أهم الممثلين الجادين البارزين، قبل أن يرحل مبكرًا هو الآخر.
في السنوات الأربع الأخيرة، تعرض الفنان كانيوار لأكثر من مرض: القلب، سرطان البروستات، وقد أجرى عملية قلب مفتوح نجحت في أحد مشافي هولندا، إلا إن مرض السرطان الذي استفحل، على حين غرة، راح يفتك بجسده، دونما رحمة، إلى أن راح ضحيته، بعيدًا عن أهله وتراب وطنه، كي يوارى الثرى في مهجره الهولندي، وليعيد طرح سؤال جارح، حول علاقة المبدع بمن حوله، وكيف أن هؤلاء الذين حلم، وأحب، وناضل، وغنى، وهاجر من أجلهم، لم يكونوا من حوله، في لحظات وداعه؛ بل تم تشييعه بموكب قليل من الأهل وقلة من الأصدقاء. ولربما أن حالته الصحية حالت، في السنوات الأخيرة، دون تقديم ما هو جديد ومنتظر منه.
رحيل الفنان كانيوار خسارة كبرى للأغنية الكردية الملتزمة، لا سيما تلك التي قاومت الاستبداد، غير أنه من هؤلاء الذين أدوا رسالتهم الفنية، والتزموا بمن حولهم، من دون أي مساومة، لتكون حياته -لا سيّما عندما كان في وطنه- مكرسة لحب هؤلاء، من دون أن يكون بعيدًا عنهم، إلا في السنوات الأخيرة التي انتهت بتدهور حالته الصحية.