عبدالواحد محمد
إنه إبراهيم اليوسف وهو كاتب وصحافي وروائي سوري كردي، الذي يحمل معه هموم الوطن في فلسفته الروائية التي جسدت صفحات واقعية جدا في روايته الموسومة ( شارع الحرية ) بوعي عميق فيه كثير من التساؤلات المفتوحة لكونه الأمل الممزوج بعطر سوريا وسط كل نداءات الغربة والبحث الدائم عن طفولته وشبابه بمشاعر عازف كمان لا يستكين وسط الأحزان لكونه الحلم المتجدد بلا صمت ولا سفر طويل ؟!
لتكتب روايته عنواناً بارزاً في صدر كل الإبداعات الروائية من منطلق الشفافية التي تلهمه عالم فيه الحرية وطن !
ولا ريب تكتسب اللغة في الرواية أهمية فريدة، لأنها الحامل السردي الأول والأخير، وهي لبنات الرواية التي لا نكاد نجد أهمية للكثير من أدواتها دونها، فهي تستطيع النهوض بمجمل أدوات الرواية ومكوناتها الأخرى، كما أن عدم امتلاك اللغة في العمل الروائي يفقده الكثير من الجماليات التي تظهر من خلال تفاعلها في المختبر السردي، لتكون بالتالي عملاً إبداعياً متكاملاً، يشكل شخصيته الخاصة، ويقدمها، في قالب مختلف، عما غيره. و رواية “شارع الحرية” للروائي السوري إبراهيم اليوسف، تستحق تناولها من خلال العديد من المحاور، وتعد اللغة في هذا المنجز الروائي ممكنة التوقف عندها، كما فيها محاور لا حصر لها، لأنها منذ عتبتها الأولى توطد علاقتها بالقارىء، الذي يسلك شارع الحرية بيسر وسلاسة، رغم ما فيه من حواجز مصطنعة وطارئة لم تكن موجودة من قبل. عوالم الرواية: اقتنص الكاتب اليوسف فكرة مشوقة لروايته التي كتبها ليتناول دور أبناء جلدته من الأكراد في الثورة السورية، فهم وإن كانوا مهمشين خلال عقود في وطنهم لكنهم لم يكونوا هامشيين في الحياة السياسية، إذ تبدو لهم أحزابهم الخاصة الكردية كما الأحزاب السورية الأخرى، ولاهامشيتهم تبدو خاصة في فترة الثورة السورية، إذ إنهم كانوا مع هذه الثورة، ماعدا حالات قليلة يشير إليها. بطل الرواية هوالراوي نفسه الذي يضطر للهجرة إلى خارج سوريا في فترة ماقبل الثورة بعد الضغوطات التي مورست عليه، ويترك كل شيء وراءه: أهله، وبيته في” شارع الحرية” وذكرياته، وتاريخه، وهو يعبر عن كل ذلك بأرشيفه الشخصي الذي يتضمن ماكتبه خلال فترة وجوده في الوطن، وهكذا بالنسبة إلى مصنفاته وكتبه ومخطوطاته، ومكتبته، ويدفع به الشوق للعودة إلى مسقط رأسه لجلب ماهو هام من أرشيفه الذي صار يخاف عليه بعد فترة الحرب وهجرة كل أفراد أسرته، إلى أن يجد سبيلاً إلى ذلك، حيث يسافر من مهجره الألماني إلى إقليم كردستان ويتسلل من هناك سراً بوساطة بعض الأصدقاء ويبقى هناك أياماً قليلة، يتصفح أرشيفه وسط حالة من الهلع والرعب لأن رأسه مطلوبة وأن عيون جهات مسلحة كثيرة دخلت المدينة، تتصيد أمثاله، وهو نفسه مطلوب بسبب نشاطه من قبل كلهم، ويجد أن كل شيء تغيرفي المدينة: الصور والأعلام إلخ. يطلب من مستقبليه أن يأخذوه إلى شارع بيته، لكن هذا الشارع بات يحتضن ثلاث وزارات وبعض القطعات العسكرية، فيحذره هؤلاء من المرور فيه. يخرج مع الفتاة التي أحبها في بدايات شبابه، يمر وإياها ببعض شوارع مدينته والحي الذي يسكنه، يلح عليها أن يمرا من شارع البيت، فتوافق على مضض، بعد ليلة من اللقاء بها في بيتها تذكره بمقولة الحب في زمن الحرب، هذه السيدة تشرح له أحوال الناس التي تغيرت، إذ إن البعض من الوجوه المهمشة من قبل صار لها شأن ومعظم هؤلاء من تجار وملوك الحرب. المدينة تغيرت. الناس تغيروا، وقلة من الناس يعرفهم الراوي الذي يؤلمه تعرض مطلع شارع بيته لعمل إرهابي من قبل تنظيم داعش ذهب ضحيته العشرات من جيرانه الذين كان يعرف أكثرهم، كما أن ملامح شارع الحرية تغيرت بعد هذه المجزرة التي تعرض لها أول شارع بيته. وكما جاء الراوي إلى مدينته فإنه يعود منه، عبر رحلة محفوفة بالمصاعب والمخاطر، ومعه البعض من أرشيفه الذي أنتجه خلال عقود سنوات حياته وعطائه ضمن الوطن، لكن البعض الآخر من الأرشيف يبدو ضائعاً بسب الحرب، أو بسبب عامل الزمن أو غيره، وهوما يحزنه، وبعد معاناة كبيرة، ومخاطرة ومغامرة، يوصله مستقبلوه إلى بر الأمان، إلى البوابة الحدودية لإقليم كردستان، بعد أن انتشر نبأ وصوله في المدينة إثر مغامرة سيره في شوارع المدينة، ليعود من هناك إلى مهجره، ويشتغل على أرشيفه. الأرشيف هنا يأخذ بعداً رمزياً مضافاً إلى قيمته الضمنية، فهو التاريخ والجغرافيا، وهو أثر موجز فضاء الحرب في الوطن، ولذلك فإن الاشتغال عليه من قبل الروائي في رواية جديدة، تعتمد على السيرة والوثيقة ضمن الرواية اكتسب أهمية فائقة، لاسيما إن هناك تقنيات فنية عديدة لجأ إليها الروائي ليوظف ذكرياته في عمله الفني، وليصنف ضمن حقل الرواية عبر مغامرة ملفتة يكتشفها القارىء.
لغة أم لغات؟:
رغم أن اللغة الأم للروائي ليست العربية وإنما الكردية إلا أن قارىء هذا العمل يجد أن اللغة وحدها عالم خاص، يقوم عليه بنيان الرواية التي تسلس له، فهي برغم تعدد اللغات فيها غير إنها تبدو تنويعات على لغة متحركة، إذ إن اللغة التي يكتبها الشعراء الذين يتوجهون إلى الرواية لغة تعتمد الغموض بحيث يشكو الكثيرون من القراء من هذه اللغة الاستعراضية التي تمنع التفاعل مع أحداث الرواية. لكن لغة “شارع الحرية” أشبه ما تكون ب”سمفونية” إذ تتضافر لغات كثيرة ضمن لغة واحدة، جذابة، يجمع خلالها ما بين الشعرية ومابين الكتابة الصحفية، بحسب مقتضى الضرورة. جاء في فصل بعنوان “الأنشوطة”: إنه الوقت قد غدا أنشوطة تضيق حول عنقي. ساعة بعد ساعة. أنفاسي تضيق. الهواء الجميل الذي طالما حننت إليه بات لا يملأ رئتي وصدري. لعل نسبة الكربون قد زادت. أفتح النوافذ. أستعين بمروحة قشية” ص74″ وجاء في فصل ” قيامات الوجوه والخطا”: لا ليس هذياً، أن نفكر أن لشارع بيتك ذاكرة. بل وأن له قلباً ، وروحاً. إنه يبادلك الأحاسيس كما تفعل، فكما أن صورته الأولى لما تزل مرتسمة في ذاكرتك، بالرغم من الصورة الخاطفة العجلى التي التقطتها له، إلا إن الصورة الجديدة في ألبوم الذاكرة لا يمكن لها أن تمحو الصور القديمة” ” ص83″. اللغة هنا كما يبدو مكتوبة بروح خاصة برغم بساطتها. بينما نجد في أحد الفصول التي كتبها وأشار في هامش خاص أنها عبارة عن تقرير صحفي، وهو فصل” الغبار المتعب” في هذا الفصل تبدو اللغة وكأنها لغة ريبورتاجية كما يسميها، حيث ارتأى الروائي ضرورة الاستعانة بالجانب الآخر من مهاراته الكتابية كصحفي معروف كما هو شاعر ليكتب مايناسب ما هو سياسي، وقد ورد ما يلي في هذا الفصل الذي تستضيفه ومن معه أسرة فلاحية على حدود كردستان: ما إن وصلت بنا المركبة إلى مشارف القرية، تاركة وراءها، ذلك الخط الغباري، الذي طالما رافقنا منذ زمن لكن تظل رواية شارع الحرية بكل ملامحها النفسية والإجتماعية بوابة للدخول إلي وطن ؟!
* روائي وناقد مصري