سليم بركات يُحمِّل الباب ما لا تحتملهُ الغُرفة

ماجد ع 
محمد
 
 
 

يختزل الكاتب
الأرجنتيني إرنستو ساباتو التجربة الشخصية للمبدع الذي تمرغ في يم الوقائع
الحياتية في إحدى كتاباته في جملةٍ يقول فيها إن “الكاتب الحقيقي يكتب عن الواقع
الذي عاناه، والذي تشبع به، يعني أنه يكتب عن الوطن بخيره وشره، على الرغم من أنه
يبدو في بعض الأحيان وكأنه يكتب عن حكايات بعيدة في الزمان والمكان”، وبالنسبة لمن
هاجر أو كان منفياً فتبقى الذاكرة هي الوطن الذي يلازم الكاتب أينما هبط أو
استوطن، وذاكرة الشاعر ههنا صعيدٌ دامغٌ، ومعينٌ لا ينضب، لذا تراه عائداً كل حين
إلى مسكوكات الغابر، فيغرف منها كلما داهمه الحنين وحاصرته مشاعر الاغتراب، حيث
يستعيد سليم بركات أيام طفولته في الريف الشمالي لسوريا من خلالها،

 وذلك بالرغم من البعد الزماني والمكاني عن مسقط الوجود، وبالرغم من إصداره إلى الآن ما يقارب 50 عملاً ما بين الرواية والشعر، وكأن بركات الذي صدر أول ديوان شعري له عام 1973 بعنوان “كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً” يعود مجدداً إلى مخاطبة الداخلين إلى عالمه والخارجين منه في عام 2017، وما يدعونا إلى هذا التكهن هو أن ديوان “الأبواب كلُّها” الذي نقرأ فيه الآن، يوحي بذلك، ليس فقط من خلال علاقة الباب بالداخلين والخارجين، إنما بكونه لا يخلو من درر الذاكرة لدى الأديب الذي تعوّد على أن يحوِّل العاديات الحياتية إلى ماساتٍ جميلة بعد إضفاء روحه على كل مادة يتلقفها من الواقع، أو من أعماق الذاكرة، ومنها قوله “جربوا السماء طحناً في سقوطها عليكم، أوجعوا السماء طحناً، دخنوها مطحونةً في تبغكم، مذوبةً مع البن في الفناجين” صفحة 31، فالمقطع يشير إلى تخيلات الطفولة، واختلاقات الصبا، وعنفوان الشباب، والعودة إلى أجواء القرية، وحيث النوم عادةً ما يكون على الأسطح أو في فناء الدار وخلائه، فيبدأ المشهد لدى الطفل/ الفتى من لحظة التمدد على الفراش، وكل نفر من المهيئين للنوم يبدأ بصناعة أشكال وألوان من الصور، وهو يتحدث إلى النجوم قبل أن تتلاشى وتغيب مع بدء سطوة النعاس واستسلام الأجفان للكرى، ولعل العيون احتفظت بما حاكته وهي تقرأ اللامرئي في كتاب السماء المحذوف للتو من مكاتيب الحقيقة الملموسة؛ كما نقتطف في مكانٍ آخر من الديوان ” ضعوا الجهة اليسرى من الباب الأعظم ؛ بابكم الذي لن تفتحوه أو تغلقوه” فيدل الشاعر ذلك المجهول المخاطب على أفضل طريقة يتعلم فيها من خلال العلامات المكتوبه إلى وضع التعب والقلق والأعباء والبقاء على طرفٍ، طالما أن ما من بابٍ له ليدخل منه أو يغلقه خلفه؛ وسليم يُحمل ههنا في هذا العملِ البابَ ما لا تحتمله الغرفة، ولا حتى الشقّة، ولا ربما القصر برمته قادرٌ على أن يمضي خطوةً واحدة للأمام أو إلى الخلف بعد أن أثقل كاهلهُ بالأوزارِ، فأيُّ جرمٍ ارتكبه الباب، حتى انهال عليه سليم بكل الأثقال التي توفرت لديه، لتكون حجةً مقنعة للنيل من الباب، أو لمعاقبته على ما اقترفه الأوادم عبره، أو من خلاله أو على مرأى من نواظره أو مسامعه؛ فالأبواب عند سليم حافظاتُ أسرارٍ، فإن كُشفت الأسرار من قِبل البابِ كان مذنباً، وإن كتم الممنوعات فهو جائرٌ بحق الكتمان والوضوح.
وثمة في العمل الشعري الذي نحن بصدده ما يقارب استشراف الوقائع الراهنة في منطقة عفرين المشهورة بالزيتون ومعاصرها والتي تتعرض لا تزال لحملة عسكرية تركية سميت جزافاً بـ:”غصن الزيتون” وذلك حين يقول الشاعر في الصفحة 35 السوط الذي يمسكم لاسعاً يمس الرماد في مواقدكم أيضاً، ويمس الزيت في المعاصر”، والملفت في ديوان “الأبواب كلِّها” أنه قابل للنهل من أي مدخلٍ كان بالرغم من أنه عملٌ واحدٌ مؤلّف من قصيدةٍ واحدة، وذلك لاحتواء الديوان بين دفتيه على مستفتحاتٍ جمة، وهي عبارة عن عتباتٍ استئنافية لمن فاته بعض الكلام المكتوب، ويمكن الولوج من تلك العتبات مباشرةً إلى قلب النص، كمن حضر عرساً لتوه وقد انخرط في جو الحفل من دون أن يشعر بأنه تائه، طالما أنه كان قد هيأ نفسه لكرنفال الشاعر قبل طرقه باب البهوِ الذي يؤدي إليه عشرات الأبواب، وكل بابٍ يُعالج عشرات المواضيع الكفيلة بسحب القارئ إلى محيط ما يرمي إليه الشاعر كما تجذب الزوبعة الأشياء إليها، هكذا يبتلع الشاعر هواجسَ الانتظار دفعةً واحدة، ولا يسمح للمتلقي بأن يسرف بخياله ليتوقع الذي سيليه، فالشاعر يُباغته، يُشغله بعرسه من أوَّل ولوج القارئ لسراديب عالمه إلى أن يتنفس الصعداء وكأنه خاض للتوِ صراعاً مع جيشٍ من المفاهيم، وأسرابٍ من الصور التي أنهكت فرّازة تكهناته وهو ينتقل من مشهدٍ ثريٍّ بالدلالات إلى آخرٍ أشدُ ثراءَ.
والمجموعة الشعرية التي نقرأ بعض سطورها كانت قد صدرت عن دار المدى 2017 في بيروت وبغداد، وجاءت تحت عنوان “الأبوابُ كلُّها” كما للديوان عنوان فرعي هو “ترديد الصدى في التلاعب بأخلاق الليل”، والعمل عبارة عن قصيدة واحدة طويلة من 265 صفحة.
وسنورد ههنا بعض المنتشلات من ديوان الشاعر حتى تكون كصناراتٍ تقود الناهل منتشياً صوب يم الشاعر وهو يستشعر انقياده الطوعي صوب أبوابه، لا ليعاين كُنه الأبوابِ فحسب، إنما ليندلق بهواجسه الدافئة على الأبواب كلها، علّه يعبر من مساماتها إلى كل الأبواب التي فارقها أو يفتقدها؛ أو تركت أثرها فيه حتى كانت جزءاً منه حيث يقول “الشقاء ملتئم الشمل محاطاً بأحفاده المسرورين، والجوعى منتدبون كي يتمموا رفاهة الجوع” صفحة 18 وكأن ما يجمع شمل السعداء ليس هو الفرحُ وحده، ولا هو السعدُ بعينه، إنما ما أجمع الجائعون على استعادته في لحظات الإرهاق والتعاسة، ومن ثم قوله “أبوابٌ سوِّيت بالأرض فانفتحت الأرض أبواباً على معاصر الظلام وقواديسه” صفحة 43، فالأبواب التي تحطمت جراء لعنةٍ أرضية أو سماوية، وانهارت بفعل فاعل أو قصفت مصاريعها الطبيعة، لا تورث الغبش في أعين المبصر، ولا تدل مشاهد الأبواب المردومة على الانفتاح كما نتصور، إنما هي قرين العتمة بعد أن تتلاشى الآمال في أعين المشرف على أطلال ما كان معمّراً وقائماً من قبل؛ “أغلقوا الأبواب: أغلقوا ما لا تعرفون على ما تعرفون” صفحة 45، فالتداخل بين المعارف السابقة واللاحقة قد يفضي بالمرء إلى التصدع، التحير، التشتت والتدله، وليس بالضرورة أن تكون المغرفات الجديدة بمثابة إضافة على ما كان يكتنزه العارف من قبل.
ولكي لا نثقل كاهل القارئ بتدويناتنا المتعلقة بمنتخبات الشاعر في هذا العمل الثري، سنكتفي بعرض بعض المقتطفات التي اخترناها بتأنٍ ليس من باب الاختزال، إنما علّها تكون الورود التي تحض القارئ على زيارةٍ عاجلة إلى بستان الكاتب، حتى يختار ما يناسبه وتقربه العينات من النبع الذي لم نجلب له منه إلاَّ قطراتً قليلة ارتأينا رشف معانيها والتعطر بها ونحن نمر ببستانه.
“وللقلوب نبضٌ كأنين الأساكفِ تحت الأقدام إذ يفتح المغلوبون بوابات قلوبهم في استسلامها” صفحة 47
“احفظوا الأبواب على أساكفها الزرق، وأساكفها الحمرِ، غطوا المصاريع بما يتبقى حين تُلتَهَمون أو تلتهِمون، ولكن لا تسلٍّموا الأبوابَ إذ تسقط القلاعُ، والأسوارُ والحصون” 49
“أبوابٌ على حالها قبل الخوفِ وبعد الخوف، قبل المذبحة وبعدها، أبوابٌ تمضي مع الغزاة حين يرحلون” 74
“بابٌ بلا صريرٍ بابٌ أُفرغ من حزنه”81
“الروائح تقرع تحل في المكان قبل قرع الأبواب” 84
“أوقفوا الآلهة إن خارت على أقدام غلمانها” 89
“لا تكونوا إلاَّ ما كانته الأبوابُ وما تكونهُ الأبوابُ أو ستكونهُ، لا تكونوا إلاَّ الأقفالَ في النجاة” 118
“كلُّ مقبضِ بابٍ خاطرةٌ يرتجلها الداخلُ من البابِ، والخارج منه” 140
“الأنبياءُ معتصمون اليومَ حَرِدونَ يخبطون على المقاعد بأيديهم استنكاراً لمزاعمِ الآلهةِ في اختيارهم أنبياء من ملح الصخر” 147
“اصنعوا الأقفال بعيوبٍ كي لا تُحسَدوا عليها”155
“قلِّبوا الصخورَ: أذيالُ الأصلِ عالقةُ تحتها، أذيالُ ثيابكم عالقةٌ تحتها”234
“الحياة قاسيةٌ حين لا جدوى من إصلاح بابٍ أو تحطيمه” 238
“ما ليس باباً بابٌ من خدعة الباب في التمويه، ما ليس تمويهاً بابٌ” 259.
تلك كانت بعض الثريات التي استطعنا حملها معنا من فضاءات الشاعر بعد جولتنا في هذه الرحلة القراءاتية، ونحن نلتقط فيها من عوالم الشاعر الذي اعتاد أن يؤرق القارئ معه، وعوّد بالتالي قارءه على أن يكون في منتهى الجلادة وهو يعبر أقاليمه، ويعاين مناخات مواضيعه التي تقوده إلى دهاليز تصوراته، إما مرهقاً، أو خلسةً، أو خطفاً، وهو يدخل من الباب إلى أبواب أخرى متفاوتة الآلام والأحجام والأبعاد، يورطه في الدخولِ من أبوابٍ أكثر إشراقاً، ومنها ما كان أعمق جرحاً، ومنها أبلغ أنينا، عموماً تلك الثريات السالفة لم تكن معلّقة على السقوف التي حملت الأبواب؛ الأبواب التي نصبها الشاعر على طول حقل هذا السفر الشعري، إنما كانت مطعمةً بروائح الأفكار وخوالج القاطنين كالوشمِ على خدود الأبواب وجبينها، ومطهّمة بالرؤى التي تلاقت بين ذائقة الناهِل والمنهل، وتتلاقى بالتالي مواجعَ الأبوابِ ومباسمها مع هواجس الذي يغرف من الديوان اليومَ، وربما صار التأويلُ لدى القارئ المختفي خلف أثلام العقودِ أنضر من الآن بعد قرنٍ من الزمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في موقع رابطة الكتاب السورين
http://syrianwa.org/2018/03/01/%D9%85%D8%A7%D8%AC%D8%AF-%D8%B9-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A8%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%AA-%D9%8A%D9%8F%D8%AD%D9%85%D9%91%D9%90%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D9%85/
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…