إبراهيم اليوسف
كيف لاسم ما أن يرتقي إلى مقام شعريته وأيقونيته؟
هكذا سألت نفسي، وأنا في حضرة روح سفيرة عفرين: بارين كوباني، التي استطاعت أن تهطل في أربع جهات الأرض. أن تكون ضيفة كل قارة في العالم. كل بلد. كل مدينة. كل قرية. كل شارع. كل بيت، أصدقاءً، وجمهراتٍ من النظَّارة، وأعداءً أيضاً. تقدم هويتها، خريطتها، صورتها، أبجدية لغتها التي تؤسسها ذرا جبال، وأنهار، وينابيع، وسهول، وسموات، وآفاق، وأسماء شهداء، ورموز، ليتردد صدى أحرف اسمها على ألسنة هاتيك الجهات كلها، لغةً لغةً، ضميراً ضميراً، وجداناً وجداناً، تسرُّ سورة إنسان عالي القامة، ووطن شامخ يئنُّ تحت جراحاته منذ أول تغريبة تاريخية، بعيداً عن رايته القوس قزحية، بعيداً عن نشيده.
ومؤكد، أن الإجابة عن سؤال كهذا، حفر لذاته رمزيته على صخور ذراري جبالنا الكردية، لتسلس، لأن ما قدمته لنا بارين كوباني من”أوراق اعتماد” في أفئدتنا، وخوافقنا، وأرواحنا، لكافية للتعريف بها، لتكون بذلك أطلس جغرافيا، وتواريخ، وقضية، وحلم، وبوصلة طريق إلى اليقين الذي طالما قرأتْه، وصنواتُها، وأمثالُها، من أبطالنا، وبطلاتنا، على امتداد حدود خريطتنا الذَّبيحة، السَّليبة، والمصلوبة، التي انخرطت فيها هذه الَّلبوة مع سواها، من أجل استعادة الروح والحياة إليها، من دون أن تأبه بالضريبة التي ستدفعها، سيَّان إن رخصت، أم بهظت، شأن موكب السابقين عليها، والمواكبين لها، واللاحقين بها، في دورة لن تنتهي، قبل أن يتحقق حلم هؤلاء جميعاً، في استعادة عافية ضالَّتهم، التي يقتفون أثرها جهة تلو أخرى، إلى أن يتحقق كل ذلك.
بينما كان العالم أجمع يتابع تفاصيل العدوان الطوراني، المدعوم بجمهرات وفلول المرتزقة، سريعي الاستجابة لنقل البارودة من كتف إلى آخر، وهم يترجمون- إرث الضغينة- بحق الكردي، عبر أشكال ما بعد الإرهاب جميعاً، من خلال توجيه حمم نيران قذائف الطائرات والدبابات على مكاننا وإنساننا، في محاولة لحرق أخضرنا ويابسنا، في آن، ناهيك عن ذلك الخطاب الإرهابي الإبادي، لكل هذا العدوان، ظهرت لنا بارين- وهي هنا الرمز المعمَّم، عبر ثنائيتي: الصورة والصوت. صورتها، وهي مسجَّاة، أرضاً، مخضَّبة بدمائها، بعد أن تم التمثيل بجسدها، عبر عنف ذكوريٍّ، افتراسيٍّ، ذئبيٍّ، مقابل حوارية صوتية، عدوانية، متشفية، متوعدة، مستمرئة لانتهاكاتها حتى بحق دساتير الحروب، وأخلاقياتها، لتترجم لسكان العمارة الكونية مدى وحشية أعداء بارين. أعداء إنسانها، ومكانها، ليس كمنفذين مأجورين- فحسب- وإنما كمخططين لهذا الحقد، ممن ينتمون إلى أكثر من لغة، وثقافة، لا هاجس لهم إلا محو وجود الكردي، بغرض استكمال السطو على فردوسه الأرضي، وتحويله إلى جحيم يشبه عالم ضغائنهم وأحقادهم وثقافتهم الكريهة.
إن بارين التي حددت خيارها، وهي تنبري لمواجهة- ما بعد الإرهاب الداعشي- مع رفاقها، ورفيقاتها، بل مع الغيارى من أبناء شعبها، إنما انطلقت من ثنائية فكرتها ذات البعدين الإنساني والقومي، المتوازيين، بل المتلازمين، المتوائمين. إذ إن هؤلاء القتلة، المارقين، عابري القارات، ليسوا في صميمهم إلا أعداء للوجود الآدمي كله، ناهيك عن أن إنسانها. إنسان بارين- لهو الآخر- بلا مراء، على رأس هذه القائمة. على رأس قائمة مخططهم، ومطلوبيهم، لذلك فقد دافعت عن كوباني، إلى أن تحرَّرت، من دنس هؤلاء المجرمين، بعد مقاومة باسلة، لفتت أنظار العالم بأسره، وتعرف العالم بأسره على هذه الملحمة العظمى، ومن بينها بعض الأسماء العالية التي قدمت أمثولاتٍ، ودروساً في هذا الميدان، حطمت أرقام- سجل غينيس- المقاومة، بما ساهم، ومن جديد، بالتعريف بالكردي -أيَّاً كان تصنيفه العسكري، أو مسماه، في الخط الأول لمواجهة أشكال الإرهاب كلها، سواء أكان ذلك في: شنكال أو في كوباني، وغيرهما، ليكون صانع معجزة البسالة، والتضحية، والنصر، في الألفية الثالثة، بلا منازع…!
بارين كوباني-ابنة عفرين- والتي يعني اسمها الأول”بارين””العويل” بينما يحيل اسمها الثاني إلى مدينة كوباني الكردية التي سجلت بطلاتها و أبطالها الذين ذادوا عنها ملاحم عظمى أدخلت اسم هذه المدينة الصَّغيرة، الكبيرة، إلى قلب خريطة العالم الذي راح يتابع أسطورة مقاومتها، بإعجاب كبير، لتكون بارين سفيرة عن هؤلاء الَّلبوات والّليوث، وهوما جعل قتلتها يقدمون بأنفسهم أعظم شهادة لها، من خلال إمعانهم في التمثيل بجسدها، لأنها لقنتهم أبلغ درس مرير، من خلال مقارعتهم، على خطِّ النار الأول، قبل أن تكتب مصيرها النهائي، ليُقدِم هؤلاءِ القتلةُ، الإرهابيون، على جريمة تنكيلهم بجسدها، وليقدِّموا بذلك، صورةً عن مدى تأصل ثقافة الكراهية والانتقام والتجرد من أبسط القيم الأخلاقية المتعارف عليها، عبر التاريخ، في نفوسهم المريضة.
حدث النيل من جسد بارين كوباني كان له أثره لدى المبدع الكردي: موسيقاراً، ورساماً، وكاتباً، وشاعراً، إذ تمَّ تناوله من قبل كثيرين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كسابقة، صاعقة، أليمة، استثنائية، وكان للشعر- باعتباره الأسرع تفاعلاً مع الأحداث- حصته الواسعة في هذا التناول، من قبل كثيرات وكثيرين، وإن كانت نصوصهم ستتباين، تكنيكاً، وعمقاً، إذ ثمَّة من كان تفاعله جدَّ مباشر، مقابل من قارب نصه من هذا الحدث العظيم، ليكون للشعر صوته المدوِّي في مواجهة آلة الحرب التي نالت من عفرين الإباء والشهامة- من جهة- وكوثيقة إدانة إبداعية لهذه الجريمة النكراء التي تشكل عاراً لكل من خطط لها، أو نفذها، أو ألب عليها، أو سكت، أو صفق لها، على حد سواء، ليتداخل الرمزان: عفرين الجبل الكردي وبارين القامة المقاومة.
ثمة ما أريد أن أشير إليه، وهو أن الشعر إذا كان سريع الاستجابة للتفاعل مع أي حدث، فإن هذا التفاعل لا يبلغ ذروته مالم يتم التزاوج ما بين هذا الحدث وفنيته العالية، وذلك لأننا تجاوزنا تلك المرحلة التي يكون فيها الشعر مجرد تأريخ- فحسب- بل إن تلك القصيدة التي لا تجازف بأدواتها الفنية، كاملة- أياً كان عالمها- هي التي ترتقي إلى مستوى الحدث الكبير. قادرة أن تكون وفية لهذا الحدث، وإن كان لحضور الحدث شعراً شروطه الخاصة، كما أن لا قصيدة يمكنها أن تغدو كبيرة بمجرد اتكائها على الحدث الكبير، وإن كان حسبنا، أمام مجموعة من نصوص تناولت هذا الحدث العظيم هو أننا نستقرىء الصعقة التي مست أرواحنا جميعاً، فأشعلتها، وأججتها، وقد كان لكل من تناول الحدث فضيلته، بما يدلُّ على إنسانيته، ووفائه، وصدقه، ومأثرته في حساسيته الإنسانية..!
لا أريد أن أتحدث عن النصوص التي تضمنتها دفتا هذا الكتاب، باعتباري لا أبغي مصادرة حق حرية المتلقي في التفاعل معها، وتقويمها، على طريقته الخاصة، لأن مثل هذه المقدمة لن تكون إلا مجرد مفتاح أول، إلى عالم هذه المجموعة من النصوص التي كتبت بأقلام كثيرات وكثيرين من النَّاصات والناصين، ممن هزتهم الجريمة الشنعاء، وجاءت نصوصهم شاهدة على فظاعة الانحطاط الأخلاقي لهؤلاء الإرهابيين، ومن وراءهم، ولتكون شهادات في عظمة هذه البطلة الكردية التي تحولت إلى أيقونة كرديَّة عظيمة تتواءم مع علو وإباء جبال عفرين، وكائناتها، ومكنوناتها، وأشجار زيتونها، وسمائها، وترابها، وحجارتها، ووديانها، وأنهارها، وينابيعها، وأطيارها، باعتبار كل هؤلاء و سواهم ممن ينتمون إلى هذه الخريطة. إلى الكردية، وكردستان، ليسوا إلا درايا لأحقاد وضغائن من فطموا على ثقافة الكراهية. ثقافة إلغاء الآخر-لاسيما الكردي- من مسرح الحياة، كشأن متوارث، كما فضحته بارين التي تصلنا رسالتها، عالية الدراما، تترى، كأعظم قصيدة، وأعظم رواية، وأعظم فيلم سينمائي، أو أعظم مسرحية، وأعظم أسطورة على الإطلاق…!؟
22-2-2018
*مجموعة ديوان” بارين أيقونة الزيتون” والتي كتبت بأقلام حوالي ستين مشاركة ومشاركاً