إبراهيم اليوسف
الشيخان في غرفة العناية المشددة
هل يمكن لتاريخ كامل أن يركن هناك، على سرير المرض، في حالة لا أريد توصيفها، بين الوعي واللاوعي، الألم وما بعد الألم، بعد أن كان نابضاً بالحياة في أعلى درجات توترها: حضوراً، وحباً، وعطاءاً، من دون أن يتمكن من هو في موقع المتلظي بالألم تقديم ما يمكن تقديمه في مشهد ترك أمر من يحب تحت رحمة وحش كاسر؟
بما يشبه هذا الكلام أخاطب نفسي، منذ أيام، وبعد دخول اثنين مقربين مني:
عمي الشيخ عبدالقادر. الأخ الشقيق لأبي، ومن يعرف بالشيخ الكردي، أو شاعرالقصائد القليلة، أو القتيلة، بل الشاعر مؤجل القصيدة
وصديقي الشيخ عبدالقادر الخزنوي، المربي، الكاتب، الناشط في مجال حقوق الإنسان، وأحد أوائل آل الخزنوي ممن عملوا في الحركة السياسية الكردية، والذي خبرته في مواقف كثيرة: شجاعاً، شهماً، نبيلاً. مقداماً.
آلاف طلاب العلم تخرجوا على يدي عمي، في تل معروف، وكرصوار، وخزنة، والسفيرة، والشونية، على مدى نصف قرن، وهو الاسم المعروف بين علماء الدين، على نطاق واسع: الحجة، القبلة، المرجع، وغير ذلك من الصفات التي كانت تطلق عليه، وهو الذي لم يرفع يده أمام ظالم، ولا كلمته أمام مظلمة.
كلاهما وقف معي في المحن والشدائد
عمي الشيخ عبدالقادر، الأخ الشقيق لأبي، تعلمت على يديه، الكثير مما يتعلق باللغة والأدب، قرأ لي أغلب قصائد الجزري والملا أحمدي خاني شارحاً، على أن يكون ذلك جزءاً من مشروع لم يكن. لجأت إلى بيته أثناء انتفاضة2004، أكثر من ليلة شديدة، بعد وعيد هنا، وإنذار، هناك، بل تحت وطأة خطر خاص وعام. قبيل كل فجر منهِك، كان يقول لي بلغة من يحرس الآخر ويده على مسدسه:
لن يأخذك أحد، وأنا وأولادي أحياء
نم، أنا أمامي النهار كله. عملكم أعظم طاعة
الشيخ عبدالقادر الخزنوي الذي طالما كان بعض جلسائه لا يريدون سماعه، مرتعدين- بعضهم أبطال اليوم- وهو يقوّم بلغته النارية النظام الاستبدادي ويسمي الأسد الأب كما الابن كلاً باسمه ديكتاتوراً عاتياً، وكان يتجرأ على قول ما يريد في- المدرسة وأمام طلابه المخترقين بمبتدئي كتبة التقارير، إلى أن أبعد عن عالم التعليم، مرة أخرى، بعد منفى تعليمي رقي
كان حاضراً في كل محطات مواجهة النظام، ومن عداد أوائل المشاركين في المظاهرات، ومن أوائل معتقلي الثورة السورية
اكتب مذكراتك عمي، رجل المواقف الهائلة في كل ميدان قيمي، منذ طفولتك وإلى لحظة الوعي الراهنة، من دون أن تستسلم وترفع يدك، بما يشهده لك كل من عايشوك، وهم موزعون على أمكنتهم جميعها، كما روحك وبنيك، وبناتك، وأحفادك..!
اكتب مذكراتك، صديقي، الشيخ، أبا مصلح!!!!
أجل سأكتب….
أجل سأكتب….
ولا كتابة في مدونة الزمن الذي يحتله كثيرون من الكتبة الكذبة وباتت أصواتهم هي العليا..!
أحدهما في باتمان، والآخر في مدياد
كلاهما متجاوران في ذلك المنفى بعد أن كان مهادهما مسرح حراكهما: كل في مجاله
كلاهما بهاتفيهما مجمدي الصوتين الحانيين
كلاهما باسميهما” القادرين” أمام قدر واحد في عنوانين متقاربين
كلاهما على مقربة من قامشلي على مبعدة منها….
كلاهما في نوروزه الجريح على سرير المشفى التركي الأبكم
بئس هذه الحرب اللعينة التي جعلها طاغية دمشق، ومن آزروه محطة تالية، للثورة السلمية التي بدأها الحراك الثائر، على امتداد خريطة البلاد. محطة لا مخرج منها حتى الآن، لنكون ضحايا مناف مستعصية، بعيدين حتى عن حدود أمداء أحلام ترمدت، وأمكنة ترملت. كل طرقنا إلى الأهل مستعصية، والطغاة في كل مكان حراس على قرارة الهجرات والمنافي، ونحن نتذاوى قلباً قلباً، نتهاوى حلماً حلماً، كما أشجار لم تنج جذورها من القصف والكيمياء..!
ابنة الشاعر
بين التقاط النبأ الأليم من الفيسبوك، وكتابة التعزية، كانت صورة دلدار آشتي، صديقي، الوفي، الذي طالما تحدثنا في الشعر، والحب، والحياة، والسياسة، بحضورها الكامل. أتصوره، لقاءاً لقاءاً، أغنية أغنية أغنية، أمسية أمسية، قصيدة قصيدة، ثم تحضرني الصورة الأخرى، وهو يتلتقى النبأ الأليم:
ليلاف رحلت
وليلاف إحدى أجمل قصائد الشاعر التي كتبها على امتداد ربع قرن، أو عبر ثلاثين سنة، من معرفتي به، إلى جانب توائمها: أخوة، وأخوات، هي عنوان ديوانه المؤجل، هي عنوان بيته. عنوان أمسيته. عنوان رؤاه. عنوان مدينته. شارعه. بيته. وطنه. فضائه.
لكن الخبر حقيق
هي ترتمي من سموات النوروز بعد رقصة بلغت أعلى آفاق الكون. رقصة تجمع بين ألم وأمل، بين أمس وراهن ورهان غد. هكذا يستسلم الشاعر لسطوة الألم البليغ. كل القصائد بكماء. لا مقدرة على تغيير مسار اللحظة:
لو أن الزمن تقدم لثوان أو تأخر……..!
لو أن المكان كان حضن أم أو أب……!
لو أن موازين” شارع منيرحبيب” استطاعت تسوية أثقال أطرافها!
لو أن يدي الشاعر الرقيق الشديد كانتا هناك…!
لو أن لهفة الأم الرقيقة كانت….!
لو الأهلون…..
لو الشعراء في سرب روحه الكبيرة….
لو كلهم كانوا….!
لو كلنا كنا…!
لامناص- أيها الشاعر- من هذا الخيار. إنه خيارها، في ليلة محددة. ليلة مسماة، ليلة آذارية، ليلة نوروز التي زرتني في أخرى مثلها، وأنا أمام حالة خطر، داهم قبل عشر سنوات، لكنني- أنا الآخر- لا شيء لدي أفعله. لا طريق إليك. لا طريق إلى مقبرة الهلالية. لا طريق إلى خيمة العزاء، أو غرفتك الرحبة.
الطارئون يحيطوننا في كل مكان منذ عقود طوبلة، ومازالوا يتناسلون، وها نحن نسينا تلك الأحلام، وبتنا نتقرى كواليس الرؤى المجيدة، لعلنا من جديد، نجدنا، نستعيدنا، وسنظل على لهب الانتظار، إلى أجل، لم نعد نعرف أسماءه المتبدلة، في وسط هذا الغبش الشديد….؟؟؟؟؟!!
24-3-2018