ابراهيم محمود
لا يكون معلّمٌ إلا حين يكون من يقابله، من ينقل عنه صنعته، ويصبح معلّماً، إنما من نوع مختلف، أولاً: بالنسبة لمعلّمه، لكي يتمكن من شرح الطريقة: الميزة التي صيَّرته معلّماً، وثانياً، بالنسبة لمن تعلَّم منه، وامتلك القدرة على شرح طريقته، وإنارتها، بأسلوب مختلف، وإلا فإنه يكون مكرّراً ومقلّداً، ولا يخرج من قالبه، ويحسن التوقف على حقيقة كونه معلّماً: معلّم قراءة وكتابة هنا، والذين أرادوا تقديم الراحل رزو أوسي بوصفه معلّماً، لم يكونوا معلّمين ولا طلاباً .
لقد أشرت سابقاً إلى ما كتبه دولوز عن سارتر، من موقع ” المعلمية “، وأعمّق هذه العلاقة، في مثال آخر هنا، من باب تأكيد المفهوم البعيد عن المجاملة، والإثراء العاطفي، وهو ذلك الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو” 1926-1984 ” في الكوليج دوفرانس قبل قرابة نصف قرن، وما يتوجب عليه أن يكون جديداً لينال كرسي الاستاذية بجدارة، مخلفاً أستاذه في فلسفة التاريخ جان هيبوليت ” 1907-1968 “، مستخدماً كلمات غاية في التأثير، سوى أنها لم تخرج عن سياق الدرس، ولم تسفِك دموعاً، إنما أعلت من شأن العقل المشترك والمختلف، وهو يتحدث عن خجله أمام أستاذه ” تأكيدَ تفاعله معه “، لكنه يمضي إلى إبراز مفهومه/ منهجه الجديد في فهم الحقيقة ” فهم كل شيء كطريقة ” مركّزاً على خطورة الخطاب ومراقبَته من قبل المجتمع وما يجب أن تكون عليه الحقيقة، من منظور إرادة المعرفة وهي ناقدة ” كما ورد ذلك في كتابه: نظام الخطاب، ترجمة : د. محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، 2007، ص8، مثلاً “.
وهو مثال، لا يراد منه أبداً، وضْع أي منهما مقابل أي من الذين يندرجون في خانة ” لفيف الأصدقاء”، ولو أن ذلك جائز، فيما لو احترم الذين يقدّرون في الكتابة مكانتَها، والحقيقة في المجتمع أهميتها، وفي الشخص ” المعلم ” هويته المعرفية، إلا أنه أريدَ منه إبراز المفارقة، والتي تتمثل في نفي وجود علاقة معرفية، ومن ثم بحث عن الحقيقة المختلفة والمنتجة، على الأقل لحظة سؤال الواقع ” الكردي ” وأي بصمة يمكن تبيُّنها للراحل و” أصدقائه ” .
في العودة إلى ” الكلمة الموجزة ” عن الراحل، ثمة ما يضيء هذا الجانب، وما يعمّق خاصية المفارقة تلك، منذ المقطع الأول، عبر الاستشهاد بالروسي الكبير ليف تولستوي ” 1828-1910 “، ورؤيته للشخص العظيم ” يكتب الكاتب الروسي ل.تولستوي في مؤلَّف له، بما معناه: من يعمل في صمت، يحمل العالم على كتفه..ومن ثم يستدرك هو نفسه قائلاً: كلا، هذا العالم لا يكون على كتفه فحسب، وإنما يدور أيضاً .).
ولا بد أن قارىء هذه الكلمة يكون على بيّنة من أن المقصود بها هو الراحل، طالما أن المجلد يضم أعمالاً له، وما كان ” أصدقاؤه يزكّون تولستوي وقوله، إلا ليستدعوا اسم الراحل” معلمهم/ أستاذهم ” في عبارتهم التالية مباشرة، وهم يخاطبون المعنيين به ” كان معلمنا/ أستاذنا رزو أحد هؤلاء المثقفين، حيث كان يمارس نشاطه في صمت، وبدهيٌّ أن صمته كان يمنحه حضوراً لافتاً، وهذا الحضور ” الصامت ” كان يبرز في نشاطه ذي الصلة بالقضية القومية، وكذلك في مؤلفاته التي تكون بين أيدي ” القرّاء ” ماثلة للعيان .ص8 “.
تتكرر وصفة” معلمنا/ أستاذنا في الصفحة ذاتهاً تأكيداً عليها ” بعبارة أخرى، يمكننا القول، نعم، لقد غادرنا معلمنا/ أستاذنا ومضى، سوى أن مؤلفاته بقيت بيننا، وسوف تبقى مع سواها مستقبلاً.”.
لا أتحدث هنا عن ” المعلم/ الأستاذ “، إنما ما يجعل الكلام فيه من قبل من يقرّرونه هكذا، دون أن يستوعبوا درس ” المعلمية/ الأستاذية ” وفقه المعنى. بعيداً عن التهكم: كان سقراط أستاذ/ معلم أفلاطون، وهذا كان أستاذ/ معلم أرسطو، سوى أن أفلاطون كان يحوّل سقراط إلى محور لمجمل أعماله دون أن تختفي شخصية التلميذ المتدرب، لهذا صار أفلاطون معلّماً، لأنه لم يتحدث عن معلّمه إلا من موقع كونه معلّماً وكتاباته أبقته هكذا، وبدوره كان أرسطو الذي كان تلميذ معلمه، ثم معلماً ناقداً لمعلمه دون أن يقلل من أهميته. فالمعلمية تقوم على الاختلاف.
ومؤكَّدٌ أن الراحل لم يكن شيخ طريقة، والمتحدثون فيه ليسوا مريدين، ليكرروا أقواله، بمقدار ما يمارسوا فيه تفخيماً، سوى أن كلامهم ” الجمعي ” أبرز هذه المريدية وهم خارج نطاقها.
أي موقع يُعطى لمن استهلوا ” الكلمة الموجزة ” تلك بما تقدَّم ؟ هل كانوا في موقع المعلّم ليجاز لهم ما قالوا في الاستشهاد بالعظيم تولستوي صاحب” الحرب والسلام- آنا كارنينا…الخ “، لكي يبلغوا معلّمهم/ أستاذهم؟ علام يقوم درس المعلمية/ الأستاذية؟ في الاتصال به والانفصال عنه.
لقد أساؤوا إلى الاسم والمعنى، كما قلت، طالما أن الكلام لم يخرج عن التفخيم دون التعليم، في الوقت الذي يكون المقرَّر في المجلد مطروحاً للمرة الأولى، ولا أدري، ما إذا كان هؤلاء” التلامذة” قد قرأوا مؤلفات المجلد هذا حقاً ؟ ثم كيف يقيَّم المستشهَد به نقدياً في علاقته بالراحل؟
هل هم مطّلعون – حقاً- مجدداً على حقيقة تولستوي، ونوع ” صمته ” ومسيرته الحياتية ؟
هل كان ” باحثاً، كاتباً، مثقفاً حراً “، لينال مثل هذا اللقب، حيث التذكير بتولستوي؟ وما الذي يٍقرَأ من كلمة ” الصمت “في الزمان والمكان؟أي منشّط نفسي وراء هذا التوصيف للآخر؟
هل أضاؤوا علامة فارقة في مسيرته الحياته ” حزبيته ” ليخلصوا لتاريخ لا ينبغي التعتيم عليه؟ كما لو أن التعريف به من خلالهم، هو حقيقته، وهو المحمول بهذا الجانب ” الحزبي ” الطرَفي!
تولستوي الذي عاش تحولات وتناقضات حتى بلوغه ما وصل إليه من عظمة، على مستوى السلوك اليومي، وفي الكتابات ذات الطابع الملحمي الذي لم يزل أثرها ساري المفعول، كما في ” الحرب والسلام “، قبل كل شيء، وكما تقول سيرته الذاتية كذلك، ليكون من ” بناة العالم ” حقاً ، بتعبير ستيفان تسفائج، وهو عنوان كتابه، وفي الجزء الثاني منه” ترجمة: محمد جديد، دار المدى، دمشق، ط2، 2003 “، كما في قوله عنه ” لقد عاش تولستوي ثلاثين عاماً، من العشرين إلى الخمسين وهو يبدع، طليقاً لا هم له،/ ثم يعيش ثلاثين عاماً، من الخمسين إلى النهاية، لا لشيء سوى معنى الحياة ومعرفتها. ص 47 “.
تلك هي المشكلة، الرهان، التحدي والمحك. ولهذا، يغدو الاستشهاد بالطريقة هذه، وفي معرض توضيح مكانة مستقرأة، وإبرازها هتكاً لمعنى الكتابة وإطاحة بمفهوم القيمة الأدبية لها.
يمكن الحديث عن الراحل من منظور كونه كاتباً، ولماذا لم ينشر أعماله، وكيف يمكن إقرار واقع قيمة لشخصية أدبية وبحثية من خلال منثورات كتابية، وليس أعمالاً محفوظة في كتب؟
تالياً نقرأ ” يجب أن يقال عن أن الأستاذ رزو كان متنوع المعارف، ويبرز ذلك في في تلوّن كتاباته. تُرى، مم يتأتى هذا التنوع الأدبي ؟ لن نتحدث في تفاصيل محتويات المؤلف هذا جواباً على هذا السؤال، وهو بين أيدي القراء، إنما سنشير إليها فقط…ص 8 “.
إن الناظر في ” الإضاءة ” الموجزة، لا يتلمس ذلك الحضور الأدبي أو البحثي، إنما هي إشارات إلى جانب كونها تقريظات تصل بالراحل، ووجه المفارقة يكمن في نتاج الراحل نفسه وهو يكاد يعدَم، أو كما لو أنه لم يظهر للعيان. أعني بذلك، أنه من غير الصواب تقديم كاتب أو باحث للقراء، من خلال ثلة هم بمثابة أصدقائه، وما في ذلك من حيازة للاسم، ومصادرة على المطلوب، أي طرح الاسم للقراء تبعاً لتقدير معين، وما في ذلك من فرْض، أو وصاية تحول دون التشجيع على قراءته، أو التعرف عليه، ومن ثم تكون الخطوة التالية: من يكون قيمةً !
بالطريقة هذه، يجري خلطٌ كبير بين أن يكون أحدهم صديقاً لسواه، والاثنان من الكتاب، وأن يكون كلام أحدهما عن الآخر من زاوية الصداقة، وما فيها من افتتان أو إعجاب بالآخر، أو من تجميل، وخاصية التماهي. ففي صداقة الكتّاب، تتطلب العلاقة الكتابية الحد الأقصى من ضبط النفس، وتحرير النفس ” النقدية ” وما تكون عليه من معرفة تنويرية وتحليلية وهي نفس الصديق، من النفس ” الوجدانية ” وما تعرَف به من امتلاء بالآخر، وغياب مسافة الرؤية الدقيقة له. بالعكس، إن صديق الكتابة هو العارف بأوجه اختلاف العلاقة أكثر جرّاء التدقيق في من صادقه، فهل لدى هذا ” اللفيف ” من وعي نقدي، بعيداً عن التزكية العاطفية مثلاً ؟
أعني بالموضوع أن إقامة علاقة مع الآخر، وباعتباره الآخر، تستوجب مزيداً من التروّي، إلى جانب الفصل بين ما هو انطباعي، وهو ما يمكن تبيُّنه/ تلمسه في المسطور آنفاً، وما هو استقصائي وتعريفي ثلاثي الأبعاد استناداً إلى ما هو متداول في كتب مقروءة هنا وهناك.
ومن المؤسف جداً، أن ليس هناك جملة مفيدة واحدة في كلمة التقديم تحفّز على القراءة، طالما أنها تقوم على ما ليس قائماً، أو ما ليس موجوداً، وأن الموسوم في عناوين تخص المحتويات، وفي السياق نفسه توجَد الإشارة إلى ما هو طي الكتمان أو تحتاج إلى من يبحث فيها لنشرها. وهذا يشجّع على طرح سؤال يترتب عليه: أما كان من المفترض التنويه إلى نوعية المغفل من الاسم هنا، أو في انتظار الطباعة، أي تكون المواد ” المخطوطة ” معلومة ؟ ” ما هو منشور ضمناً ” في المجلد الأول طبعاً ” يمثل بعضاً من نتاجات الأستاذ رزو ومؤلفاته، وثمة عدد كبير في خانة المخطوطات له لم تطبَع بعد. بغية التوسع في مؤلفات الأستاذ رزو وتسهيل الإعلام بها وقراءتها، ومن ثم حمايتها، نحن، أصحابه، وعائلته وأولاده، رأينا إمكان طبع جميع أعماله معاً تلك التي في متناول اليد ..ص9 “.
أي ما هو منشور في هذا المجلد! ولكنها إشارة تفتقر إلى تلك الإحاطة المعرفية بكتابات الراحل، وهي نقطة الضعف الكبرى والمحورية التي تقلل من علمية المطبوع في المجلد ذاك .
في نهاية هذه الكلمة، نقرأ المقطع الأخير منها، وهي ” في أيامه الأخيرة من حياته كتب الأستاذ رزو أوسي بضع كلمات أخيرة له بيده ” مكتوب في الفقرة بيديه bi destên xwe، والعبارة غير دقيقة، طالما أن الخط الموجود في نهاية الكتاب بخط اليد، وليس كومبيوترياً، وليس من الوارد أنه كان يكتب باليدين من خلال القلم “، تحت اسم ” مهاميز: tûjik، بدلاً عن المقدمة “، على عدة أوراق ويضعها تحت المخدة التي يتوسدها، حيث أصبحت الصور الأصلية للكتابات تلك وطباعتها مقدمة لهذا الكتاب: المجلد .ص 10 “.
ولقد أشرنا أولاً، سالفاً إلى عدم النزاهة في النقل، وأن الذي أوقع بـ” الأصدقاء ” في المحظور، هو البعد الإنشائي إجمالاً ثانياً، أي قول ما لا يصلح للأخذ به في علاقة فكرية أو أدبية يمكن لها أن تترك أثراً معرفياً، بما أنهم لم يراعوا الواجب المعرفي في ذلك، ولا احترام القارىء، ولا حتى ما هو موجود في حوزة أهله أو عائلته أو أولاده من أوراق تسمّيه كاتباً وباحثاً، وقد تمت إضاءتها، لا شيء من كل ذلك ليستحقوا بدورهم ثناء من جهة صداقة المعرفة قبل العاطفة !
الحلقة السادسة : كتابة رثاء أم انتقام ؟