ابراهيم محمود
من حيث المبدأ، لا أخفي تقديري لما كتبه الراحل المتعدد المواهب أوسي في تقديمه ” مهاميز، بدلاً عن المقدمة “. فالمهماز Tûjik يشمل كل ما هو حاد الرأس وينخز وينبّه، وقد يكون مؤلماً، وحتى قاتلاً إذا تجاوز مسافة معينة من الجسد، ويستخدم في حالات كثيرة. إنه أداة نخز، خياطة، حفّر وسبر، حث الدابة على السير، وإيصال أثر، وهي بشكل أنبوب ” كإبرة تلقيح “…الخ.
بلغة الجمع، وأنا أفرّدها هنا للتسهيل يقول ما هو مثير وملهِم بحق ” المهماز منساس” عصا حادة الطرف لحث الدابة على السير”، نتوء، شوكة، إبرة، مخرز أو مثقف، ومسلَّة.
Tûjik xîp in, kelem in, strî ne, derzî, dirêşk û şûjin in
ثم ” إن واجبات من النوع الاجتماعي، ذات صلة بالقيم والأخلاق فيه وهي تؤكد كما تنبّه عليه. لهذا اقرأوا هذا النص جيداً.ص 6 “.
نلاحظ هنا، في هذا التعريف، ما هو أكثر من التعريف، فثمة ما يتضمن المشمول بالمهماز، وثمة ما يمضي بنا إلى المجتمع، كما لو أن المهماز علامة إيقاظ لأي كان حين يمارس تصرفاً يسيء إلى المجتمع، وأن النص بالتالي موصول بالمجتمع، وفيه طباعه، خصاله، وأخلاقه، إنما من عالم مختلف، على مستوى الكتابة وأسلوبها، والمتخيَّل فيها بالمقابل.
ثمة ما هو طبيعي في تعريف ” المهماز “، وما هو مصنَّع، وما هو بينهما. ثمة ما يصل بالعمل الطبّي، وبالتنبيه، وما يتشكل أرضياً. ما يكون في خدمة الحياة، وما هو مميت، وما هو متعدد الوظائف، كالإبرة، وما يُحتاج إليه في أعمال مختلفة: نجارة، حفر، سبر معين لمادة ما، أي ما يكون معمولاً به، في الحرب والسلم، وفي أمكنة العمل وغيرها، وبتفاوت…الخ.
ذلك من شأنه تعريفنا بالدور المركَّب للمهماز، أو ما هو حاد، وإشغاله لأكثر من مكانة رمزياً.
لقد استوقفني هذا التشبيه، ولا أدري كيف يمكن الربط بين هذا العنوان: المدخل إلى أعماله، وعنوان كتاب للمفكر الفرنسي جاك دريدا ” 1930-2004 “، وهو ” المهماز: أساليب نيتشه “، وبالفرنسية :
Eperons : Les styles de Nietzshe, Flamarion, Paris, 1987.
وهو الذي ترجمه الصديق عزيز توما إلى العربية، وبإسهام منّي في تدقيقه اللغوي والتقديم له، حيث صدر عن دار الحوار، اللاذقية، 2010.
المهماز نفسه أداة مستعارة للكتابة، كما في حال القلم، الريشة، بطريقة ما، ولكن الكتابة هنا تحفر، كما أنها تعمّق بحثاً عن شيء ما، وتترك أثراً ” مسألة الأسلوب، سبر دائم، وثقل أداة مدببة، أحياناً فقط تبدو كريشة. ص 83، في النص المترجم، 28 في النص الفرنسي “.
وفي مكان آخر” والأسلوب المهمز شكل مديد ومستطيل، سلاح استعراضي ثاقب، حاد الرأس، مدبب…ص85، في النص المترجم، ص 32، في النص الفرنسي “…الخ.
من الإبرة فالدبّوس إلى المسلة فالمنخز إلى الحربة، وحتى الرمح.. لدينا أجسام حادة كثيرة إذاً!
أعني بذلك، ما إذا كان الراحل قد اطلع على مصدر يخص هذا الكتاب في مكان آخر، ليس من باب توجيه الاتهام طبعاً، وإنما من باب المتابعة الثقافية. في المحصلة، تبقى إشارته جديرة بالتقدير، وفي اللغة الكردية بشكل مضاعف، أي حين يكون إجراء كهذا محفّزاً لكل معني بالمجتمع، أو بالثقافة، أو بالأدب، لكي يحمل في يده ما يشبه الداخل في نطاق ” المهماز “.
وكما أشرنا سابقاً، فإن الراحل أراد من تعبيره هذا، ما يجب أن يكون عليه الفن الكتابي الكردي، وأي أسلوب يكون الفعال هنا، وكيف ينبغي تفعيل أثر الإبداع في المجتمع والاعتناء به.
كاتب لا يملك إلا تراثه، وتراثه أكثر من كونه لغة، واللغة أكثر من حساب كلمات وتهجئة لحروفها، لأن هذه في المجمل مؤرشفة في الذاكرة الجمعية، وهذه تتطلب مكاشفة، وتنويراً وترتيباً وبحثاً وتهوية من الداخل” وأنا من جهتي أردت الاعتماد على هذا التراث في بناء النصوص النظرية. ولهذا، استعملت التجارب، المشاهدات والطرائف، والألغاز وأشياء كثيرة أخرى على هذا المنوال، بغية بلوغ مشارف المجتمع عن طريقها، في المجال الفلسفي، الاقتصادي، السياسي، العلمي، ومجالات كثيرة أخرى. بالطريقة هذه، توقِظ هذه ” المهاميز ” لغة شعبية وروح المرء، وتنبّه إلى أشياء غاية في الكثرة. ليس هذا فحسب، وإنما ما يخص خصال أخلاق الشعب والمجتمع، وهي تمثل للعيان، وتربط القارىء بها. ص 6 “.
ولعله فيما انطلق منه، أراد بلوغ الهدف، أي ما لأجله كان هذا التقديم/ التنبيه، وهو الذي عناه كما مر معنا سابقاً بـ” نقد على نقد “، حيث أتى على اسم الكاتب والباحث اللغوي دحام عبدالفتاح في عمل نقدي له ” رؤية نقدية في الشعر الكردي “، ومن ثم الروائي والقاص حليم يوسف في بعض ٍمن أعماله، ولو بصورة سريعة ولا تخلو من انطباع، في أقل من خمس صفحات،كما سنرى، مقارنة بالكتابة النقدية عن كتاب عبدالفتاح، ومن ثم اوزون، رغم أنه الثاني في الترتيب، والثالث تذكيراً به من قِبَل الراحل. ويمكن للقارىء أن يسأل: من كتب الفقرة المتعلقة باوزون، طالما أن ليس من إشارة إليه في الملحق المخطوط؟ ولماذا جاءت الفقرة هكذا، بمفردها؟ إن من يقرأ ما كتبه رزو عن اوزون، يتبين له أن الأسلوب يسمّيه، حيث إنه ما كان يتعرض لهذه الراوية، إلا بعد ذيوع صيتها، واعتُبرَت نموذجاً للرواية الكردية، ولهذا كان ذلك التهكم من خلال صيغة” رواية ” أنت ” للكاتب الذائع الصيت محمد اوزون..ص15 “، حيث إن التعبير ينقلب إلى نقيضه، عند قراءة عشرات الصفحات الإقصائية للاسم و” زعْم ” الرواية !
وثمة ملاحظة لغوية، ولها دلالتها السياسية، ومن خلال تساؤل، عن مغزى ورود اسم ” محمد ” لدى أوسي هكذا ” Mehmet “، كما هي عادة السياسة الرسمية المتبعة في التركية، إذ ينقلب حرف ” الدال – تاءً “، كما في” فرهات، آزات، بهزات…الخ “، وليس ” Mehmed ” كما هو الاسم مسجَّل على مؤلفات محمد اوزون! وهي طريقة التهجئة لدى كردنا في كردستان الشمالية في تخفيف الاسم ” مَحَمَد، مهْمَد ” بالتركية “، مثل ” عبدالرَزَاق، عبدالوهَاب، عبدالجبَار…الخ “، أو ” حسَان، مهنَد، حمُود…الخ “. أليس من غمز ولمْز هنا، أي مجاراة للأتراك، وما في ذلك من إلحاق اوزون بالخانة التركية على مستوى التقييم، وإقصائه كردياً؟
ذلك مقدَّر في سياق الكتابة عنه، وأنا كلّي يقين عن أن أوسي كان شديد التدقيق فيما كان يكتب!
في العودة إلى ما تعرَّض له الراحل ثمة نقد على نقد وما يتجاوزه : كتاب نقدي، حول نصوص شعرية كردية، وبالكردية، وإشارات إلى أمثلة من أعمال يوسف الذي بدأ مسيرته الكتابية بالعربية رواية وقصة، ومن ثم ركَّز على الكتابة بالكردية، ومدى التثاقف بين الحالتين، على مستوى التعبير والأسلوب، ورواية مختارة، وبالكردية، كانت كافية للحكم بالنفي الكامل على مؤلفها اوزون عن عالم الكتابة الأدبية بعد تجريمه وتغريمه. أهذا هو المهماز، بطابعه الذي عرِف أو يعرَف به، أو خاصيته التوصيفية؟ ألا يتجاوز المهماز هذه الأمثلة، ليشمل المكتوب كله؟ أي ما يخص البحث الفولكلوري ” ربيع الأطفال الجديد “، وشذراته وكتاباته الأخرى؟
كيف يمكن التوفيق بين هذه التنوعات، حيث لا يعود المهماز واحداً في كل حالة طبعاً ؟
في ” مهمازه ” الذي لا يخفي فاعليته في التوصيف والتوجيه، يشير إلى أن ” كل نص يتشكل من عدة أقسام، وأن انسجامها يسمّي النص، ويوصِل منفعته إلى القارىء.ص 6 “.
ثمة ملاحظة، حول هذه الفقرة، وهي أن عبارة ” كل نص…”، يمكن أن تكون ” كل مهماز “، كما وردت بالتوازي مع ” كل نص ” في الفقرة المخطوطة”ص485 “، ولم يُشَر إليها في النقل، وربما كان مقصد الكاتب في ذلك، أن النص نفسه، وهو يعنيه، مهماز: منبه، موقِظ، سهم نافذ، سوى أن الذي يحفّز على السؤال هو: كيف يتم استعمال المهماز، من كاتب أو نص إلى آخر؟
من المعلوم أن الحاد، كمفهوم، ذو طابع هجومي، أو يتقدَّم حامله، أو المعني به، وثمة هدف لا بد أنه مرسوم بطريقة ما في وعي من يستعمله، لكن صفة الاستخدام، بالمعنى الأخلاقي، تتوقف على موقع الشخص، ودوره، ومن له صلة به، أي إن القيمة متحوّلة، أو مختلفة، وبالمقابل، فإن المهماز هنا ينتقل بمفهومه المادي/ المحسوس، إلى مفهومه المعنوي والرمزي، ولتكون عملية الفهم أو استيعاب درس المهماز بالذات، حاملة لبصمة المهمازي، إن جاز التعبير. بناء عليه، فإن ما يتقدم به الراحل، مشجّع من حيث المبدأ، كما أسلفت، إلا أن قراءة ” المهماز ” بديلاً عن المقدمة، ومن خلال النماذج الثلاثة، لا تطمئن الحريص على النقد بالذات، جهة التفاوت بين الواحد والآخر، وربما كانت قراءة عموم المجلد تُظهِر لا ثباتية المهماز، وأن المقصود به، ليس ما هو قابل للقياس وتطبيقه على مختلف النصوص بالرؤية ذاتها، تأكيداً على البعد الذاتي هنا.
بالتالي، لا يعود المجتمع نفسه واحداً، ولا المشار إليه بالطباع، أو الأخلاق، أو مفهوم الكاتب، ونوعية الكتابة زماناً ومكاناً، وليكون المهماز” الرعّاد” بالطريقة هذه: حمَّال أوجه، أو دلالات !
ثمة ملاحظة لغوية: قاموسية، لعلها جديرة بالتذكير، في مختتَم هذه الفقرة، وهي أن الكاتب الراحل استخدم كلمة ” Deq “، والتي تأتي بمعنى ” النص ” عدة مرات ” ربما أربع “، واحدة منها بصيغة الجمع” في بناء نص فني..”، ” في بناء النصوص النظرية “، ” كل نص يتشكل من عدة أجزاء “، و” بانسجام الأجزاء يستوي النص “. مقصدي من ذلك، هو تأكيد أهمية النص ومدى الانشغال به في الدراسات الحديثة، رغم أن ذلك ليس من دأب الراحل، إنما في سياق ما يجب أن تكون عليه الكتابة ليكون النص حصيلتها وبصورة أكثر نضجاً، ولأن هذه المفردة، تكون أكثر استخداماً واعتماداً عليها في إقليم كردستان العراق، مقابل ” Têks “، لدى أغلب من يكتبون بالحرف اللاتيني ” في شمال كردستان وغيرها “، وهي أجنبية ، وأصلها ” النسْج ” على الصعيد العملي، وكلمة ” Têks ” أقل استعمالاً لدى الراحل هنا ” مرة واحدة “، وفي الوقت الذي استخدم في هذا المجلد كلمة أخرى تتداخل مع ما سبق ذكره، وهي ” Heyber “، وهي تستعمَل مقابل ” Têks ” لدى معتمدي الحرف اللاتيني على وجه التخصيص أكثر.
إن ما أردت الإشارة إليه، هو المتعلق بسياسة الكتابة لدى الراحل، مثلاً: لماذا كان استخدامه للمفردة الأولى أكثر من غيرها؟ ألأجل تأكيد تواصل مع آخرين ممن يعتمدونها في ” إقليم كردستان العراق، خاصة”، أم لتعزيز التنوع، والحضور الثقافي القاموسي؟ وما في ذلك من علاقة نفسية: رغبية ببنية الاستعمال والذائقة الفنية للكلمة: المصطلح، وهذا متروك لمن يعنيه موضوع التزاوج بين عدة مفردات تشتركان في معنى واحد، مع اختلاف الجهة والتقدير !
الحلقة الثامنة: أكثر من المخاض اللغوي :