إدريس سالم
استيقظت صباحاً. على تحرّكات أبي وهو يحضّر شايه الصباحي اليومي. أمام تراتيل القرآن التي كنت أسمعها بصوت عبد الباسط عبد الصمد، عبر اليوتيوب، تلاها ترنيمات فيروز، سيدة الصباح الأولى والأخيرة، وأخيراً أغاني شفان برور.
كنت بحاجة ماسّة إلى جلسة هادئة دافئة، لأقرأ الوجع الكوباني، الذي سرّده الروائي المُبتدئ المُحترف «محمد م رمو»، بنفس عميق وصادق، ليستبدّ بي الخيال والوحي، وأنتهي من كتابة نصّ شعري، من الألم الذي عشته في حروف الرواية، سأدرجه في نهاية هذه المقالة الأدبية التحليلية.
رواية “الخيمة 320”.
التي تتجاوز صفحاتها عشرة بعد المئة، تتحدّث اللاجئ والمخيمات بشكل أساسي، وعن الوطن، والحرب، والتشرّد، ومجزرة كوباني، واللجوء نحو أوروبا حيث الغرق والغربة والمرارة، قرأتها بشكل مشترك مع صديقتي النازحة “دوزكين حمي”، التي ردّت عليّ بقراءتها ونقدها، عند الانتهاء من الرواية:
“تذّكرت كلّ شيء حدث، حقائبنا الثقيلة المليئة بالألبسة والاحتياجات والطعام البائت. أصوات القذائف. الدخان المتصاعد من كلّ شيء. خروجنا من البيت. إحدى عشر يوماً قضيناها على الحدود. الغبار. الألغام. أصوات البوليس التركي من وراء الحدود وهم يشتموننا. وجوه الناس العابثة التائهة الباكية المرسومة بخرائط من جداول الدموع والغبار. لجوءنا في تركيا. اليوم الذي قضيناه في الحديقة. نومنا تحت المطر هناك. الليلة الثانية في فندق سلوبي الواقع على الحدود بين شمالي وجنوبي كوردستان. وجوه المهرّبين وتهديداتهم.حدود إقليم كوردستان. الماء. البرد. الخوف. الوجوه التي استقبلتنا هناك. البيشمركة. موظفو المنظمات. الفترة التي قضيناها في المخيم إلى أن انتقلنا إلى مدينة دهوك”.
تتابع بحزن عميق:
“لا أعلم!! الرواية مؤثرة ومتأثرة، بالذي عشناه، بالذي مررنا فيه، بكلّ التفاصيل الصغيرة والكبيرة”.
تنتقد الرواية لتقول:
“لقد اندمجت بالرواية بكلّ حوّاسي، عدا عن آخر ثلاثة أحداث، وهي غرق بيمان، وأكل الذئاب لشفان، ولقاء وليد بمُنى صدفة، شعرت أنني في فيلم هندي، وهذا ما لم يعجبني في الرواية، ولا أعلم مدى مصداقية اللقاء بين وليد ومُنى، ناهيك على أنه كان بارعاً في سرد الأحداث والقصص”.
الرواية واقعية وأدبية، بحوادث مختلفة التأثير، مثلها عدة شخصيات على مسرح الحياة الكوبانية الواسعة. يسردها الكاتب بخيال واسع وصدق في التعبير عن واقعيتها، بطريقة سردية جميلة وممتعة ومؤثرة، حيث يستطيع أيّ قارئ أن ينتهي منها خلال يوم واحد، ليعيش أياماً من الألم والبكاء، زوّدها بقصتي الفقدان والصدفة، التي كانتا قاسيتين جداً بنهايتهما ومأساتهما.
يسرد الكاتب قصة الخيمة 320 بأسلوب أدبي شيّق خيالي، مليء بالصور البيانية الحية, والكنايات والاستعارات الواقعية المرة، التي يعيشها الكوبانيون والكورد والسوريين على أنقاض هذه الحرب التي تقوقعت في أنفسنا وجغرافيتنا.
شخصياتها كانت بسيطة مليئة بالتفكير العميق بالأشياء التفصيلية، قريبة جداً إلى واقع الريفيين واللاجئين، حزينة لدرجة أن الحزن يلامسها كالطقس بشروق شمسه وغروبه، أفكارها أطهر من قلوب السياسيين وبائعي الوطن، فوليد وشفان وبيمان ومُنى بوصفهم شخصيات لها أسماء، وأيضاً جدّ وليد وعمّه، وذاك الشيخ الخمسيني العمر، والذي كان يرافقه شفان، ذاك الشاب الذي أكلته الذئاب، وهي شخصيات عاشت بزمانها ومكانها في كوباني وسروج ويونان ومقدونيا.
شخصية وليد كانت شخصية غزّالة صادقة متشائمة قوية نوعاً ما، مع محيطه ومع نفسه، هذا العاشق المتعب الكثير التفصيل والشرح والفكر بنفسه والماضي والحاضر والمستقبل، حيث تقول الفتاة لوليد، بعد أن جمعهما القدر والصدف:
_ سأهديك شيئاً، ولكن عدني أن تحافظ عليه، ولو تكالبت عليك أمم الأرض.
_ هذا ما يربطني بك، إنه بمثابة خاتم خطبتي لك، إن أردت أن تستمرّ، فاحفظه في قلبك؟
تقول بيمان، شقيقة وليد «بطل الرواية، ذاك الذي يعيد شريط ذاكرة طفولتنا ومأساة لجوئنا»:
“صديقتي قالت لي:
_ إن الرحلات جميلة، تتطيّب بها روحك، فترى الأماكن الأثرية، وتأكل ما لذّ وطاب، ولا تشعر بالعطش.
قاطعها شفان بسذاجة:
_ متى ننتهي من طلباتك؟! فردّ عليه وليد:
_ دعها يا شفان تقول ما تشتهي”.
إن عبارة “دعها تقول ما تشتهي” ستزرع في نفس القارئ آلاف الآلام والنكبات، فلعلّ الحرب والتشرّد هما مَن منعا وليد ليقول العبارة الصحيحة والحقيقية “دعها تأكل ما تشتهي”.
لم يصف الكاتب وحشية وآلام الحرب، بقدر وصف نتائج وحشيتها التي ألقت بظلالها على النفوس والبيوت والقرى والطرق والخيمات والحدود الطبيعية والبحرية، ومع هذه الوحشية والصور الوحشية عاش بطل الرواية قصة حبّ مغموسة بالألم والأمل، حيث التقى بمُنى (حبيبة وليد وناكصة العهد) أول مرّة في الجامعة وضيّعها، ثم التقى بها أثناء قوافل النزوح وأيضاً ضيّعها، إلى أن وجدها في مخيم آفاد للاجئين، ثم هي بنفسها تركته دون خبر أو عذر.
الرواية من إصدارات دار (نون4) للنشر والطبع والتوزيع، وتتألف من ستة فصول رئيسية، وهي:
“ظلّ رماديّ _ ساعة القيامة _ سروج.. مدينة الخيم _ الخيمة.. قليل من الحبّ من انكسار _ فجرٌ أحمرٌ _ صورة، مسبحة، وقلادة”، كلذ فصل يتحدّث عن أفكار رئيسية وأخرى جزئية، قرائتها بتمعّن وعمق شديدين، وأيّ لاجئ كوبانيّ عندما يقرؤوها سيقرؤها بتمعّن وعمق، فالألم الأعمق والبليغ يكمن في الرواية من خلال الرقم (4365)، وهو رقم سيؤلم القارئ حتى النخاع.
في النهاية، وكنقد للرواية، أرى أنها تستحق القراءة، فالكاتب كان صانعاً ومبدعاً في إخراج روايته للنور، بأحداثها وتفاصيلها وشخصياتها وزمانها ومكانها، ولكي لا يقول أحد بأن الكاتب بالغ في بعض الأحداث الصدفية، عليه أن يدرك أولاً أن سوريا بلد الحروب والغرابات والمصادفات، بواقعيتها أكثر من خياليتها، لا شيء مما يحدث فيه مستحيل، هذا الكلام هو للردّ على كل مَن سيتغرب من المبالغة التي سردها الكاتب في نهاية روايته، فمع السوريين عامة والكورد خاصة توقّع كلّ شيء.
أختم مقالتي بنصيّ الشعري الذي استوحيته من آلام هذه الرواية، التي تشبه النكبة، وعنونتها باسم الرواية:
الخيمةُ 320
تقولُ الخيمةُ ثلاثمَائة وعشرون
أنّ الوطنَ كمِئذَنة لم تخشعْ يوماً للإله!
ولم تُنادِ بجبروته
بل العكس..
كان مُولّعاً مُولّهاً بموت يُضمَدُ بخثراتِ جِراحَاتنا
ذاك اللبيبُ البليدُ، السخيُّ الشحيح
ذاك الذي يُزركشُ عناوينَ النشراتِ الإخباريةِ، والصحفِ اليومية
الذي جعلَنا نُصادقُ القُمامةَ والقِيامةَ معاً
وطنٌ من كُثرة الإنجابِ باتَ يخسرُ كلَّ ما أنجب
* * *
تتساءلُ الخيمةُ ثلاثمَائة وعشرون أسئلةَ الفادِحين:
لِمَا الفرحُ مَحذوفٌ من حياة اللاجئ، والابتسامةُ نَسيتْ طريقها إلى ثغره؟
لِمَا سعرُ الإِدَامِ يرتفعُ حينَما يقلُّ سعرُ الأوادِم؟
ما بالهُ الوطنُ يعيشُ ثباتاً مُميتاً،
وصغارُه يلعنون سقفَ عباءةٍ بيضاء؟
كيف له أن يستريحَ وذاكرةُ طفلٍ لم تدخلْ حيّزَ النسيانِ بعد؟
لماذا لا نخسرُ كلُّ أرواحِنا دفعةً واحدةً، ونبكي بُكاءً واحداً؟
لِمَا تنتهي الحربُ بولادة حربٍ أخرى؟
أ لأنّ الحربَ في طوْرِ ذاتِها؟
ثمّ لماذا الدولُ تندّدُ بعضَها البعض في ذهابٍ وإياب،
تماماً كمسرحيةٍ هزلية، مؤلّفُها أشْمَطٌ وشَمْطاءٌ؟
كم مُؤلمٌ أن يكونَ الناسُ في طوْرِ الفجيعة،
والعدالةُ في عتمتِها الدامِسة؟!
لما يجبُ علَى الأوطان _ كلَّما اغتسَلتْ بالثورات والانتفاضات _ أن تَنْحسِرَ وتضِيق؟
* * *
ربٌّ يَكُحُّ، وينتشي بينَ خُصَلِ تلك الحربِ الزنِخَة!
موتٌ أبرَصٌ غريبٌ سكّيرٌ، باتَ صديقَنا الصادقَ الثابت
رُوزنامةُ القدرِ المُنعرِجِ مَشؤومةٌ من ولادة التكوينِ إلى يوم الحشر
إنّنا أمواتٌ أحياء
إنّنا صحونٌ فارغةٌ لموتٍ سَغبانٍ أكْمَه
إنّنا وجوهٌ من أذِبَّةٍ حَلزونية
والوطنُ فُجْلَةٌ رخيصةٌ،
وضحيةٌ كُبرى من ضحايا الفيتو الروسيّ وجنيف السويسرية،
وصَراصِيرِ مُعارَضةٍ يسرقون الدجاجَ، ليأكلون بها الديكة!
ومَن في قنديلَ أطفئوا قنديلَ الأطفال!
أما أصحابُ ربطاتِ العُنقِ فيأكلون البَنَادقَ في الفَنَادق
* * *
تقولُ الخيمةُ ثلاثمَائة وعشرون
أنّ الحلمَ مَحبوسٌ في زنِزانةٍ بيضاء
وخلفَ أعمدةٍ وقِحةٍ مُنتصبةٍ إلى العُلاء
تقولُ الخيمةُ ثلاثمَائة وعشرون
أنّ الشرقيَّ يملكُ مِئةَ ألفِ وجهٍ لللفّ والدوران!
ولا يستطيعُ التغلُّبَ على الانتحاب
وأنا أؤكّدُ أنّ الغربيَّ يملكُ ألفَ فعلٍ للتفكير والإنتاج!
ويستطيعُ تجاوزَ الامتحان
* * *
فجرٌ أحمرٌ زائِغٌ
مَصلوبٌ دونَ نبوةٍ، أو إشراقة
يسلخُهُ خِياناتُ خَونةِ بني جِلدتنا
يقتحمُهُ جِرْذَانٌ بغيضةٌ، طويلةُ الذنَبِ، كثيرةُ الذنْبِ، مُستديرةُ الأذنين
يخنقون السليلَ والصهيلَ والمِوَاءَ والزئِيرَ والمَأمَأةَ والزقزقة
نحرٌ خاوٍ يريدُ الأعناقَ إيواءً
يريدُ أن تُعلى كلمةُ اللهِ بجعل كلِّ بيتٍ مَنْحَراً
أرواحٌ غرقتْ في قُعر نظريةِ أرخميدس
جثثُنا أرقامٌ
مَقابرُنا أرقامٌ
خِيمُنا أرقامٌ
هويّاتُنا أرقامٌ
مُقايضتُنا أرقامٌ
بلدٌ يلهثُ وراءَ الأرقام
أرقامٌ لا اختلالَ فيها، ولا احتلال
مرسين/تركيا
19 أبريل 2018