ابراهيم محمود
إن أبسط قراءة لما كتبه أوسي حول اوزون ومن خلال روايته ” أنت ” وهي باكورة أعماله الروائية المنشورة سنة ” 1984 “، وما ترتَّب على هذه القراءة من إحكام الطوق عليه مسلكاً ومن ثم تفكيراً وكتابة عموماً في النطاق الكردي والكردية، تبدو للقارىء، وكأنه أمام ” كرْت نفير “، وما في ذلك من تأليب كردي عليه، وهذا من شأنه تحريف مسار مفهوم ” النقد ” ومهمازه الملوَّح به. لكَم تفسِد الإيديولوجيا الخفية الأدبَ ما لا يستطيع دهر بكامله إصلاحه !
لقد حاولت أن أجد – ولو- كلمة عابرة، جملة مفيدة، إشارة موجزة إلى اوزون وقضية الكتابة، وما في موضوعاته الروائية ومقالاته وكتاباته الأخرى من حضور لا يخفى للتراث الكردي، وما يستدعيه هذا الاهتمام من تنويه إلى مكانته، على الأقل بغية تمرير فكرة مهما بدت قاسية، أعني فكرته ذات الصلة بالأدب باعتباره قضية إيجاد عالم من نوع يقابل نظيره الفعلي، فكرة تضع القارىء بالذات، باعتباره شريك انتاج المعنى وأكثر، في خانة تفاعلية وليس تنابذية، وحيث إن هذه الستين صفحة باستعداء القارىء المقدَّر، تعني اعترافاً بالكاتب من جهة، وهي كتابة تراسلية، أي تخاطب ذلك القارىء الذي ” يقف ” في خانة اوزون. يا لحلباتية الموقف !
يمكن للمرء المعني بموضوع كهذا أن ينيره من الداخل في ضوء المستجدات السياسية وتداعياتها، ومؤثرات الإيديولوجيا بالمقابل، أو تلك القائمة الكبرى من التصارعات السياسية التحزبية بالاسم أو من دونه في الممارسة السلوكية: الحياتية، وكيف أن الكاتب الكردي في قرارة نفسه كثيراً ما يرضي ” حيوانه المؤدلج ” أعني به تلك الرغبة التي تقلّص مجال الرؤية وصورة المنقود، وما في ذلك من ” تمزيق ” و” تخزيق ” لحقيقة الكتابة ومن يكون الكاتب.
تُرى، ألا يستحق الراحل من الراحل ولو درجة واحدة من أصل عشر درجات على جهده هذا، على الأقل من باب ” تشجيعه “، أو لتأكيد جانب أدبي فيه، يقبل التطوير والتصويب والارتقاء؟
ألا يستحق استهلال له وهو قول لجلادت بدرخان، وهو يخاطب كردياً يحاول الانخراط في خدمة قضية شعبه، وما يجب أن تكون عليه إرادته وتحمله للصعاب، وتحقيقه للمنشود؟
أليس الذي توقف عنده اوزون في ملحق روايته ” الطبعة الخامسة، منشورات اتهاكي، ستانبول، 2005 “، يستأهل الاعتبار؟ وهو يخص اللغة التي كتب بها روايته ” كانت ألفباء ” هاوار ” وقواعدها هي الأساس. لقد حاولت الكتابة بها…لم أبتدع من عندي كلمات وأقوالاً وقصصاً. لقد بقيتُ بعيداً عن هذه، إنما أخذتها من محيطي وفي الجوار…من التاريخ المسطور وبعده، من جهة اللغة الكردية، كانت اللغة الشفاهية هي البوتانية…لقد حاولت الكتابة بلغة مبسطة، ويمكنها الحركة…وما يخص اللغة الشفاهية، في اعتقادي، يجب اعتماد ما هو متداول شفاهياً…”، والمفيد الآخر في نهاية الملحق ” رواية ” أنت ” الآن ليست لي، إنما هي للقرّاء الأعزاء. ولو أنني اليوم حملت القلم، لجاز لي أن أكتبها بطريقة أخرى. إذ عندما كتبتها، كنت مقتنعاً بها جداً، سوى أنني عندما أنظر إليها اليوم، ألاحظ أن أخطاءها ونواقصها كثيرة، وأنا سعيد بمعرفة تلك الأخطاء والنواقص أيضاً. وإلا فإنني سأكون الشخص الذي يكون قبل أربع سنوات. وأنا آمل أن تكون ” أنت ” في خدمة الحماس لكتابة روايات أفضل..ص 234 “.
وربما أكون على يقين أن الذي عناه اوزون بـ” النواقص ” لا تعني تأكيداً لما ذهب إليه أوسي، إنما هي حالة الكتابة الأولى أحياناً، والمستفاد جرّاءها من ملاحظات القرّاء وأقوال النقاد طبعاً، ولعل مقولة ” الرغيف الأول يأتي محروقاً ” قابلة للأخذ بها هنا، بنسبة ما، ففي بعض الحالات يأتي طبيعياً، وهذا ما يمكن تتبعه في كتابات آخرين، ومن جنسيات مختلفة..!
أعتقد أن الراحل أوسي انحرف زاوية كاملة في تناوله لشخصية اوزون وكتاباته من خلال أول عمل روائي له، حيث إن تلك الدقة الآثارية الهائلة والعجيبة في المتابعة، بمقدار ما تعبّر عن جلَد الناقد وحرِفيته في البحث والمكاشفة ومن ثم المقاربة النقدية، ومن خلال عشرات الصفحات طبعاً، بمقدار ما تعزّز دخولها في ” الثقب الأسود ” لما هو معمول لديه: تجريده من كل قيمة.
في كتاب عظيم الأمة الروسية ل. تولستوي، والذي استشهد به ” لفيف من أصدقاء ” أوسي، مفصحين عن فرادته، كتاب ” ما هو الفن ؟ ” والذي ترجمه صديق الراحل محمد عبدو النجاري ” دار الحصاد، دمشق، 1991 “، ثمة ما يفيد في هذا المقام، وليت هذا ” اللفيف ” يأخذ هذا القول من لدن تولستوي بعين الاعتبار في هذا المقام الحرج والمحرج ” إذا كنت أنا الإنسان المربّي في النصف الأول من القرن لا أفهم الفن الجديد، فلا أملك الحق في شجبه، بل لا أستطيع ذلك إلا أنه بوسعي أن أقول فقط بأن هذا الفن غير مفهوم بالنسبة إلي .ص 123 “.
ألا يمكن اقتباس هذا القول في هذا المضمار، ومن جهة الراحل تجاه اوزون وأسلوب كتابته، ومحتوى كتابته؟ أم أنها أكثر من كونها قضية كتابة، أعني بها قضية من يبقى ومن يندحر؟
كما أشرت سابقاً، إلى أنني لن أناقش الراحل في طريقة تناوله لما تقدَّم، لأن ثمة حالة نفي كلية للذات الكاتبة وحتى للذات الشخصية وما تعنيه الكردية من تنوع تعبير وليس اختزال القيمة، لأن ذلك، من وجهة نظري لا يفيد، إنما سأورد مجموعة أقوال لآخرين لهم حضورهم الأدبي، تناولوا اوزون من زوايا مختلفة، وما كتبوه يعطينا فكرة أكثر ثراء عن الكاتب اوزون، وذلك في نصوص بالكردية طبعاً، وأنا أترجم مقاطع منها ضمناً، وهي مستلة انترنتياً عموماً:
يتناوله الكاتب والروائي الكردي المعروف ابراهيم سَيْدو دوغان في مقال طويل، ومن خلال تعرضه للرواية الكردية، مركّزاً على روايات ثلاث له، وما يقوله ” مما شك فيه…أن محمد اوزون من خلال كتابته، قد أوجد لوناً جديداً وأسلوباً ذاتياً في الأدب الكردي والرواية الكردية الشعبية…ويمكننا القول عن أنه بمؤلفاته قد منح مجدداً، روحاً للرواية والأدب الكرديين، سوى أن هذه النقاشات حوله كانت قد سدت الطريق تماماً أمام النقاشات الأدبية أيضاً، ولم تسمح في أن ننظر بعين أدبية ناقدة إلى رواياته….لغة محمد اوزون سهلة للغاية، بحيث يمكن لأي كان أن يفهمهما، حيث لا يستخدم الجمل المعقدة والطويلة كثيراً…ولغة محمد اوزون قريبة جداً من اللغة الشفاهية، بحيث يتهيأ للمرء أنمه قاعد في مجلس ” مضافة “، ويقرأ كتابه للحاضرين، دون أن يكتبه…”.
ويكتب الروائي والقاص والكاتب فرات جوري قبل سنة عن أن ” محمد اوزون كتب باللغة المحكية ” لغة العائلة “، سوى أنه كان يعلم أنه عن طريق الترجمة وحدها يمكنه أن يصبح شريكاً في الأدب العالمي، وهكذا يكون الأدب الكردي مسهماً في الأدب العالمي. فما كان عليه إلا أن باشر ترجمة مؤلفاته إلى اللغات العالمية، ولاحقاً تُرجِمت مؤلفاته إلى اللغة التركية أيضاً، وبدأ يعرَف في التركية تدريجياً، حيث بات معروفاً من قبل الآلاف لا بل عشرات الألوف من الشباب والشابات الكرد والأتراك. لقد أحبَّوه، ومع الزمن، دخلت كتبه لائحة الكتب الأكثر مبيعاً، وهكذا كان ينفتح باب العالمية أمامه، وليصبح عالمياً، وتلك هي المرة الأولى التي يمكن لكاتب كردي أن يعيش على دخل كتاباته، أي يعيش وراء قلمه وعاش كذلك..” .
وفي مقال منشور قبل سنة أيضاً، لجيهان أردوغان، ما يفيد ” لم يفلح في روايته الأولى ” أنت/ Sen”، والذين تركوه وحيداً واستخفوا به لم يساعدوه، وبالرغم من كونه كان محاصراً بالصعوبات، إلا أنه لم يتقهقر إلى الوراء. لقد كان صاحب إرادة قوية. كان يغترف المدد من ملا جزيري، فقي طيران، وأحمد خاني، وفتح نافذة صوب الأدبيات الكلاسيكية. كان عمله صعباً، كم يحفر بئراً بإبرة، من أجل اللغة كمن أهيل عليه تراب الموتى ، هكذا كان يناضل، وكان لديه موقف كهذا، ولم يكن هناك شبيه لعمله حتى ذلك الحين.
لقد باشر محمد أو ” دِلو ” محمد اوزون الكتابة حول موضوعات تعني أمثاله أو ممن أحبِطوا، أو فشلوا، وما هاجروا. كان هناك تاريخ مختلف، والشقاء واحد، هكذا كان مع الذين سخروا منه بداية واستصغروا صفقوا له تالياً. “.
ومما ورد في كتاب صادر بالتركية عنه، ومن قبل زاراتوستر جبار جيان ” موقع محمد اوزون في الأدب الكردي مهم، حيث لعب دوراً رئيساً في الإبداع الأدبي الحديث، وتقرَأ رواياته بلغات كثيرة. إنه إنسان معروف. حيث إنه وهب شطراً كبيراً من حياته في المنفى في خدمة تطور الأدب الكردي، وأبدع روايات لها شأنها، وقدَّمها للأدب الكردي والعالمي. “.
وما ورد في مقال- رد للكاتب والباحث دحام عبدالفتاح على الكاتب محمد عفيف الحسيني، في مجلة ” نزوى ” العمانية ” ابريل 1999 “، يفصح فيه عن المكانة الكبيرة لاوزون.
وفي سياق المتابعة لكتابات اوزون ونقدها، ثمة مقال كتبه رمضان آلان بالتركية، يتعرض له كاتب كردي آخر، وهو معروف، وأعني به لقمان بولات، في مقال طويل نسبياً، حيث الأول يجرّد رواية اوزون ” صرخة دجلة ” من كل قيمة أدبية، فيقول بولات ” مقال رمضان آلان أحادي الاتجاه، وهو نقد ذاتي. حيث إنه ركَّز حصراً على أخطاء ونواقص كتاب محمد اوزون ” صرخة دجلة “. ولم يقل رمضان آلان ولو كلمة إيجابية في حق محمد اوزون. لقد كان من شأن ذلك أن يداس الكتاب مع مؤلفه بالأقدام، أن يدفَن تحت التراب.
تُرى، أليس من إيجابية ولو واحدة في رواية محمد اوزون ” صرخة دجلة ” ليتفوه بها رمضان آلان ؟ حيث إن رمضان آلان قد رتَّب أخطاء الكتاب ونواقصه بالتركية وبالتسلسل. تُرى، لماذا لم يتحدث عن الجانب الإيجابي والرئيس للكتاب؟ لو أن رمضان آلان تحدَّث من خلال انتقاداته عن إيجابيات ومزايا كتاب محمد اوزون، أكان يفقد مقداره؟ لو أنه انتقد الكتاب من الناحيتين، أما كان يظهر أفضل وأكثر موضوعية؟ في اعتقادي، لو أنه تناول هذين الوجهين للكتاب، لكان نقده موضوعياً…على الناقد أن يكون مراعياً وجهي النقد بخصوص المؤلفات الأدبية عند النظررفيها. عليه أن يأتي على ذكر السلبيات والإيجابيات وما هو بارز فيها. على الناقد اعتماد المنهج العلمي في نقده.”.
ذلك ما نتلمسه في تناول الكاتب الكردي فنر روجبيان لكتاب الكاتب ولروائي حليم يوسف ” الرواية الكردية ” ومن منظور نقدي، وكيف أن يوسف ركَّز على اوزون أكثر من غيره، إلى درجة تسفيهه، وما في ذلك من رؤية أحادية الجانب وهي سياسية وقاتلة.
ومن المعروف أن يوسف نشر كتابه ذاك، وهو شبيه بالكتيّب عملياً، سنة 2011 ” منشورات روناهي، آمد “، وفي صفحات تترى ” صص17-31 “، بدءاً من العنوان اللافت والتهكمي إنما أيضاً ، المرفق بالإدانة وحتى أكثر من ذلك ” محمد اوزون: روائي كردي أم خيّال الحصان الأشهب للدولة التركية؟ ص 17 “.
….الخ.
في كتابي الثاني عن محمد اوزون والمعنون بـ” قتل الجياد الكردية- منشورات سردم، السليمانية،2014 “، تعقبتُ نقاطاً مختلفة في حياة اوزون، إنما الأهم في الكتاب، هو تناولي لتلك القائمة من برقيات التعزية الخاصة برحيل محمد اوزون، وموقف الكتاب الكرد المختلفة من موته ومدى ” تأثرهم ” به، ثمة حضور لاسم الراحل اوسي من خلال برقية لافتة بصيغتها، توقفت عندها وقارنت كلمته هذه بموقفه منه من خلال ” نقده ” له حول ” أنت “، ومفارقة العلاقة، وهي أكثر من حالة وجدانية طبعاً، حيث “ تتكرر مفردة ” الخالد ” ثلاث مرات وفي سطور عدة، لأن الباقي هو اسمه ومؤلفاته، بتعبيره: النبع الصافي في الثقافة والأدب الكرديين، لكل كردي، يكون مصدراً لتحليق الذات ..ص42″، وقبل ذلك بصفحة أشار إلى مثل متداول في أوساطنا الكردية ” يموت الثور، فيبقى جلده، ويموت المرء، فيبقى اسمه.”. تُرى، كيف يمكن الوصل بين الحالتين؟ لأن الاعتراف الأخير ليس مجرد ” مسايرة/ مجاملة “، أو شبوبية عاطفة، إنما شهادة دامغة على موقف. هل أراد اوسي الثاني أن يدفن اوسي الأول، شعوراً مباشراً منه أنه أخطأ الخطأ القاتل فيما انطلق منه، وفيما اعتمل في نفسه من مشاعر ” لا أدبية ” ؟
ثمة نقطتان أريد تأكيدهما، أولاهما، أن اوزون، يشكل الروائي الكردي الأكثر انتشاراً وعالمية من كل الذين حاولوا تضييق الخناق عليه من بني جلدته، ولم يفلحوا، وثمة من يحاول الآن سلوك طريقه. ثانيتهما، وهي تخصني، وأعني بذلك أننا في مطلع هذا القرن حاولت القراءة والكتابة بالكردية ” اللهجة الكرمانجية “، وكان لدي أخطاء تترى، كتابة وترجمة، ولم أخل منها حتى الآن، سوى أن الشيء الوحيد الذي عانيته، هو نوع العنف الذي لقيته من لدن الحريصين على هذه اللغة، بدافع الأبوية، وإلا للقيت تشجيعاً وتآزراً مع ما كتبت وأكتب، ولأسباب تصل بما هو تحزبي وإيديولوجي، وإلى يومنا هذا، ولم يكن الراحل بخارج هذه الخانة الضيقة، وفي السياق نفسه، أستطيع التأكيد، على أنه ليس بتشهير الكردية قراءة وكتابة تصح كردية الكردي أو يمكنه أن ينال شهادة التبريز بها، وبراءة ذمتها، والوقائع الحية تؤكد على ذلك طبعاً !
الحلقة العاشرة : حليم يوسف، هل من منظور مختلف :