ابراهيم محمود
بديلاً عن المقدّمة، وردت مفردة ” مهاميز/ دبابيس : Tûjik ” في مستهل المجلد الأول هذا، لتكون تعبيراً عن موقف نقدي مركَّز في مجمل المسطور من جهته. فهي مقدمة إذاً، بمقدار ما تخضع للتفسير والتأويل، حيث تصبح لافتة للنظر بطريقتها هذه، إلى درجة استنطاق المغيّب في واعية الكاتب. ثم تبرز المفردة هذه عنوان كتيّب في شذرات تالياً بالعنوان نفسه، وهو قرابة أربعين صفحة ” 153-191 “. إنها لعبة الحياة مع الكاتب ولعبته مع نفسه والقارىء معاً !
أقول ذلك تأكيداً على أن الكتابة لعبة، وهي متعددة الثنيّات والمرامي، والحياة هي اللعبة الكبرى إذ تتوقف الأدوار فيها على مدى براعة الكائن فيها، والإنسان هو المقصود هنا، ومهارته، ومن ثم ما يضعه نصبَ عينيه من أهداف ونوعيتها الاجتماعية والسياسية والفكرية ومغازيها، ولا أظن أن الكاتب، وأوسي ضمناً ليس استثناء من ذلك، فيما أشيرَ له، وسنتعرض له في هذا المقام بعارض مشاهدات أو كاتب يوميات، أو مسجّل انطباعات، أو ناقل سيرة حياة، أو حكواتياً بالتأكيد، إنما ينطلق من واقع حال يعنيه في مقام فكرته وتصوره وتقييمه لما حوله، حيث إن كلامه يتكلم، بتعبير أحد الفلاسفة، وهو من وراء كلامه يحدد موقعه الثقافي ومخاطبه كذلك.
ثمة دزينة عناوين ” اثنا عشر عنواناً ” بطابعها اليومي والحكائي وحتى التهكمي أحياناً، ويظهر من التواريخ المسجَّلة أنها كتِبت خلال ثلاثة أشهر ونصف تقريباً ” ما بين 23-10/2003 “، و5-2/ 2004 “، وكل عنوان يتشكل من عدة فقرات تصل في إحداها إلى الخمس فقرات، حيث تنقل واقع فكرة أريد لها أن تتجسد في صيغة حدث قصصي، حكائي، وحتى وعظي أحياناً…
من ” البوابة ، ص 154 “، إلى ” المسافر،ص188 “، يمكن التعرُّف كثيراً وبيسر جليّ على تلك الانتقادات الموجهة إلى مجمل الأمور الاجتماعية فالسياسية والنفسية والتربوية…الخ.
إنما يجب التنويه إلى نقطة رئيسة، وهي أن جميع هذه العناوين تُسنَد إليه، فهو الراوية، أو المتكلم الأساسي فيها، سواء ما ورد منها بقالب قصصي، أو حكائي، أو سِيري ومشاهداتي، وهذا يحيله إلى موضوع مسائلة تصل بالموقع الذي تسنَّمه أو رسمه لنفسه كاعتبار وتقدير.
إن أول ما يتشكل لدى قارئه من تصور، كما أرى، هو اعتباره رائياً لأوجه الخلل في وسطه، ومتعقّب آثار خرائب وأصدائها، والوجوه التي احتضنتها وفارقتها، وتغيَّبت فيها، وربما كان أقرب إلى القدوة في شفافية التعبير، ووضوح المقصد، بدءاً من العائلة من خلال علاقته بأولاده، وما يمثّله لهم بالمفهوم الوطني الكردي ” لنذكّر بمحتوى ” البوابة “، وانتهاء بما هو قومي ” لنذكر بمحتوى ” المسافر ” بالمقابل “، أي ما يتقدم به لاعباً دور البطولة بدون مجاراة .
في قراءة ” البوابة ” ثمة إماطة اللثام عن سلبيات هي مآس ٍ كردية، ومن خلال تعرُّض الكرد لظلم الآخرين والمستبدين بهم، بدءاً من إحالته لقارئه إلى نص سرياني في أصله يتمحور حول كردي ” Pop Silyo hildikşe azman: بوب سِليو يصعد إلى السماء “. ثمة توليفة جميلة في بنية الحكاية، وتصلح لأن تكون في حقيقة نسجها المتخيَّلة استهلالاً لنص روائي فالح في رؤياه الفنية، رغم احتفاظ الفقرة باكتمال فكرتها، ومن ذلك مواجهة ” بوب ” لآدم حيث يكون بواب البوابة الأولى للسماء، ولا يفتح له إياها كونه لا يملك المفتاح، فيثير سخط بوب، وهو يصب جام غضبه، بوصفه أساس البلى، ومن ذلك ” ألست أنت من كنت سبباً لتهجيرنا من الجنة بسبب نهمك/ شراهتك..ص154 “، وما في ذلك من شكوى ونقد لما هو إنساني، وانتهاء بفقرة ” الشيطان وفرعون “، حيث الأخير يفتح للأول بوابة قصره بعد حوار بينهما، ليكون كل منهما مكملاً للآخر، وكيف يؤمن بهما الناس، كما في كلام فرعون للآخر الذي ذمه ” الصحيح، أننا كلانا سيء، إنما الأسوأ منا هم أولئك الذين يؤمنون بنا بعمق..ص 157 “.
تلك عبارة ما قبل الأخيرة تخص موقف الكاتب من جملة مشاهدات، وكنقد للكرد الذين يؤمنون كما يظهر بالذين يسوسونهم، أو يغلقون البوابات في وجوههم هنا وهناك ولا يتحركون ضدهم.
يتكثف المعنى وعنصر الدلالة جرّاء إحالة كل شيء إليه، باعتباره متبصر الحقيقة، على طريقة ” هو الذي رأى “، وما يترتب على هذا الدفع اللافت للأمور إلى نصاب المعنى المرغوب، من التحفيز على سؤال كهذا: أوكان الكاتب في مستوى المؤهل النفسي لكل الذي ” يتصدى ” له؟
في الفقرة الأولى، من عنوان ” العصفور “، ثمة تناول لندوة سياسية حزبية كردية، وكيف سادها الصخب، على مستوى التجاذبات الكلامية، وكيف أن مستمع طرح سؤالاً، لعله نال به من ” وقار ” أولي أمر الحزب المعني في الندوة، وهو أكثر من سؤال، يدعو فيه إلى لزوم المجابهة مع الأعداء، ومن ذلك ” لقد قدمنا ضحايا كبرى في هذا الطريق، فماذا استفدنا من ذلك ؟”، ليعقّب وبنقد لافت ” نعم، هكذا كانت الأمسية ساخنة كغيرها من الأمسيات السياسية ، سوى أن جواب هذا السؤال بقي طي الكتمان .ص 169 “.
ربما، يكون السؤال عائداً، أو هو المستمع نفسه، وأن سؤاله يميّزه عن الآخرين، وهذا من شأنه طرح سؤال مواز: هل مارس الكاتب نقداً معيناً لتاريخه السياسي الحزبي الكردي ؟ أليس هذا التكتم مقلّلاً من أهمية ما يكتب عموماً، وما يوجهه من نقد له بعد سياسي لافت خصوصاً ؟
ذلك يفتح أمامنا بوابة كبرى، وأرى أن الراحل نفسه لم يطرقها، أو يورد لها اسماً، أعني بذلك بوابة الواقع الكبرى في وسطه، وعلى مستوى إرادة قول الحقيقة فيما ينبغي تحديده في الزمان والمكان طبعاً.
ذلك يسمح للباحث في عمق تاريخ الشخصية تعقّب نوعية الأنشطة التي قام بها وما تعرضت لها من تغييرات وحتى انعطافات، والأسئلة المصاحبة من ذلك، مثلاً: لماذا هذا التكتم، كما أشرتُ، على تاريخه الحزبي حين كان طالباً وحتى فيما بعد، وكان عضواً نشطاً في حزبه، ولاحقاً، يظهر في كتاباته، كما في ” اجتماع الأحذية ” الجديرة بالدراسة النقدية من نواحي شتى، منها ما هو سياسي وما هو نفسي: سيكولوجي، وشخصي له علاقة مباشرة بما انتهى إليه عملياً؟!
في موقع الراحل رزو أوسي يكتب صديقه الدكتور سعدالدين ملا في إطار رثائه، وبتاريخ ” 18-4/ 2010 “، ما ينوّه إلى انخراطه في العمل الحزبي وموقعه المتنفذ فيه :
Ta roja vegera welêt Rezo endamê komîteya rêxistina (Partiya Hevgirtina Gelî Kurd li Sûriyê), li Ewropayê bû û berpirsyarê rêxistina wê ya Sovyêtê bû.
أي ” حتى يوم عودته إلى الوطن، كان رزو عضواً في للجنة التنظيمية لحزب اتحاد الشعب الكردي في سوريا، في أوربا، ومسئولاً تنظيمه في الاتحاد السوفيتي “.
وهذه مسئولية تاريخية تحفّز على الربط بين ما كتبه في مجالات مختلفة، وفي الواجهة ما يدخل في إطار ” المهاميز “، أو الجانب الأدبي وارتباطه بنقد الواقع الكردي المسيس وموقعه فيه.
وبما أن موضوع البحث المعني هو المقصد بالمهاميز/ الدبابيس، أي تسمية الخطأ بالخطأ، كما هي تسمية الصواب بالصواب، لهذا، فإنني بمقدار ما أشدّد على إخلاص أصدقائه المعتبرين له، وشهادتهم فيه، دون أن آتي على ذكر اسم أي منهم، إلا أن مهاميزه توجّه نظرنا النقدي، إلى ذلك الإخلاص للنقد: أن نكون حازمين إزاء بعضنا بعضاً. إن كل واقعة محصورة ضمن فقرة يمكن أن تضيء حالة اجتماعية، سياسية، تربوية وثقافية، لتتشكل ظاهرة مجتمعية كردية كاملة في متناولنا، ويمكن لقارئه أن ينطلق من أي فقرة فرعية لمسائلته عن حقيقة ما كان عليه واقعاً، وتحديداً في الفترة الزمنية التي تخص كتابة ” مهاميز:ه “. هل من مجافاة لحقيقة القول؟
يمكنني الاختصار في القول وهو أنه رغم وجاهة كل ما تردَّد في العناوين ” الدزينة ” إلى جانب تفرعاتها، وما ينطوي عليه البعد المشاهداتي، والحكائي- القصصي من توجيه الأنظار إلى المغفل عنه، إلا أن هناك التفافاً على الحقيقة، كما قلتُ، هناك تجنب لقول المطلوب قوله: من يكون، ومع من يكون، وإزاء أي حالة يكون، بعيداً عن الاستبطانات المضافاتية صراحة.
أحسب أن الراحل كان بعيداً بأكثر من معنى عن تشخيص حالته الذاتية في سياق ما تردد كتابياً، عن إعراب موقعه الثقافي بصدد مستجدات الواقع والذين كان يتعامل معهم عن قرب ثقافياً.
ثمة ما هو قومي كردي النشأة، وتوجيه الأنظار إلى خارج جغرافيته المحلية: في إقليم كردستان العراق ، مثلاً ، وفي كردستان الشمالية، وهناك توجيه الأنظار إلى ندوات ولقاءات تعني تأكيد الفعاليات القومية الطابع التي قام بها واقعاً…لكن، هل حقاً كان معنياً بالمهاميز بتمام دلالتها؟
لا أريد التطرق إلى ماض ساخن، أظن أن المقربين منه، باعتبارهم أصدقاءه ” المخلصين ” وفي وسطه، لا زالوا يعيشون توتراتها، ولم يكن الراحل بخارج عن لعبتها: كيفية التعتيم على ما جرى، واتباع أكثر الأساليب تحريفاً لتلك الواقعة التاريخية والسياسية كردياً، أي ” أحداث 12 آذار 2004 “، فالراحل لم ينبس ببنت شفة، بالعكس، كان من بين أكثر المتعاملين مع كل المؤثرات الفاعلة فيها سياسياً وثقافياً ونفسياً، إن لم يكن في الواجهة سلبيةً، وحسبي أنني تطرقت إلى ذلك وفي حينها، وقد نشرت الكثير مما يخص هذه الفترة في كتابي ” وعي الذات الكردية- منشورات دار الينابيع، دمشق،2004 “، وذلك على مستوى علاقة الكاتب الكردي بما يكتب وارتباطه بالواقع الحي، وليس الاكتفاء بكتابة النصوص والإغلاق عليها بأكثر من معنى.
تلك كانت البوابة الكبرى: بوابة البوابات التي تجاهل الراحل تسميتها أوفتحها، وذلك هو المهماز أو الدبوس الذي لم يحرّك به ساكناً، ولعل ذلك أفقد مجمل ما تطرق إليه مصداقيته ومهمازيته.
ربما كان ذلك تنويهاً إلى نقطة أخرى، شديدة الإيحاء والدلالة، وهي أن الرهان على اللغة، كونها الهوية الأولى للمرء، وممثّلة براءة ذمته ونسبه القومي، ليس مطلقاً، وتحديداً، عندما تأبى اللغة المواجهة الرسمية للواقع، ولكم أثبتت مجريات أحداث الفترة تلك صحة هذا التوجه، بعكس ما كان يقال في الذين كتبوا بلغة أخرى، أعني بهم كتاباً لهم حضورهم وتأرشف لهم وقتذاك.
أقول ذلك، وأنا أذكّر بما قاله الكاتب الكبير جوزيف كونراد ” إن امتلاك المرء لموهبة لغوية ليس مسألة عظيمة. ولا يصبح رجل مزود بسلاح بعيد المدى صياداً أو محارباً لمجرد امتلاك سلاح، ثمة مواصفات أخرى كثيرة للشخصية والمزاج ضرورية لجعله كاتباً أو صياداً...”.
هل كان الراحل يريد التفافاً ذاتياً، واعتباره نفسه مرجعاً في التعامل مع ما جرى، وما في ذلك من مركزة تحزبية لم تتنح جانباً، أو لم يتطهر من ” لوثتها “، ووجاهية لم يُغفَل عنها؟
لا أريد الإجابة على سؤال كهذا، إنما أشدّد على خلل في العلاقة القائمة، كان مثار الكثير من التساؤلات عما جرى، ومن كاتب متعدد المواهب، ومقدَّراً، وصادماً بمواقفه مما أفصحت عنه مجريات الأحداث، كان ذلك مثار أكثر من خلاف، أكثر من مهماز يستحق تنوير ساحته.
نعم، من الممكن أن يستمتع القارىء، ودون استدعاء المكان والزمان، بقراءة “مهاميزه..”، وما فيها من وضوح الفكرة، ونباهة المرام، إنما استدعاء المكان والزمان يطيح بذلك غالباً.
الحلقة الثالثة عشرة: المعلّم يحتاج إلى تعليم