الجهة الخامسة «حول كتابات الراحل رزو أوسي»

ابراهيم محمود
الحلقة الرابعة عشرة، شهود عيان ” اجتماع الأحذية ” : أحزابُ أحذية، وأحذيةُ أحزاب؟ أعنف نقد من حزبي سابق إلى أحزابه الكردية :
المسافة الزمنية التي تستغرقها كتابة قصص مجموعته القصصية ” اجتماع الأحذية “، تتعدى ربع قرن على الأقل ” ما بين 1980-2005 “. هناك إحدى عشرة قصة. الأخيرتان لا يعرَف ما إذا كانت نشرتا أم لا، أو متى كتِبتا ” بنات العجوز “، والأخيرة، وهي أساساً مترجمة عن الروسية ” الشباب والشيخوخة ” للكاتب المعروف إيفان بونين ” 1870-1953 “. قصص تتراوح في التأريخ بين زمن كتابتها وزمن نشرها وأخرى غفل عن التأريخ في الحالتين، وتبقى الأخيرة غريبة عن المجموعة، ربما لأن صلتها برجل كردي غريب الأطوار  هي السبب !
إنما تبقى مغايرة، فلماذا حشِرت ضمن هذه المجموعة القصصية، ولم يُتسنَّ لها النشر في مجلد آخر، ضمن ترجمات أخرى له، أم هو الذي رتَّبها هكذا؟ تلك أسئلة لا أجوبة لها. بالرغم من أنها حين تقرأ بمفردها تكون لها مأثرة معنوية ورمزية، حيث ترجمها محمود عبدالواحد، ضمن ” قصص مختارة ” لإيفان بونين، صدرت عن وزارة الثقافة السورية، دمشق، سنة 2012، وهي ترجمة أمينة، كما ترجمها الكاتب الكردي جودت هوشيار سنة 2016، وتبدو ترجمة أوسي دقيقة وواضحة بالمقارنة، سوى وجود نقص معين، في عدم إضافة ” اليونانيين ” والموجودة لدى الآخريْن، وقول الشيخ الكردي بصيغة الجمع ” نحن كرد “، ولدى أوسي ” أنا كردي.ص 257 “…
ولعل الفترة الزمنية الممتدة هذه طويلة، حيث ظهرت أحداث على غاية من التنوع والفجائعية، بالنسبة إلى الكورد قبل كل شيء: في مختلف أجزاء إقليم كردستان، إنما اللافت في الأحداث هذه: مجزرة حلبجة ” 1988 “، وانتفاضة قامشلو ” 2004 “.
قصص يمكن أن تقرَأ من زوايا مختلفة، في سياق زمني، وربط كل منها بواقعة محلية أو أكثر، وموقع الكاتب في كل منها، والبنية الفكرية ومن ثم النفسية لها بالمقابل .
أدبياً، لا يخفي أوسي انشغاله بما هو كردي في قصص المجموعة، وربما كان التوقف عند قصة ” اجتماع الأحذية ” وهي أطولها ” 27 صفحة ” جديراً بالمناقشة والمساءلة حول بنيتها، وقد وردت دون تأريخ كتابة أو نشر، وربما لو أنها نشرت بمفردها، وبهذا الحجم لكان لها تأثير أكبر، أما ضمناً، فيكون التعبير الأدبي مختلفاً، خاصة وأن العنوان أطلِق على مجموعة بالكامل، وكأن المناخ السديمي والكابوسي وحتى التهكمي فيها يقبل التعميم على سواها.
ليس هذا فقط، إنما تبرز القصة الطويلة نسبياً هذه، ملخّصة طبيعة التكوين النفسي، السياسي، والاجتماعي وحتى الثقافي للأحزاب الكردية، ولا بد أن درجة المرارة وحالة اليأس، ومن ثم الشعور بالإحباط والحنق التي بلغها الكاتب لحظة كتابتها لافتة بمفارقاتها. إذ لا يخفى على أي أبسط قارىء قوة وشائج القربى بين جملة الأحذية المستنطَقة وما يُنسَب إليها من أقوال، وما يجري في وسطها، وتلك التوترات التي تعرّف بها، ومن ثم تدخلات الكاتب بوصفه سارداً، أو حتى شاهداً ناطقاً على طبيعة هذه الأحذية، وتحديداً في النهاية، حين يتشكل مسار آخر، من لدن الكاتب، وبنوع من التقريرية والسفور في المعنى، وإفقاد جمالية القص بدعة المتخيَّل .
ثمة أكثر من سؤال يطرَح هنا: ماالذي حفَّز الراحل أوسي لأن يكتب قصة كهذه؟ ومتى داهمت فكرتها خياله ؟ وأي مؤثرات محيطية تشابكت لاستيلاد قصة بهذا العنوان والصّلات ؟ ثم ذلك السؤال الذي لا ينبغي تجاهله: كيف يتحدد موقع الكاتب قيمياً مما أثاره في نطاق قصته ؟
بداية، لا بد من الإشارة أن حضور” الحذاء ” في الأب والفن: الرسم والسينما ملحوظ، لا بل يمكن دراسة العلاقة النفسية لشخص ما من خلال حذائه: لوناً، ومادة، وشكلاً، وأن الحذاء الذي ينتعله أحدهم، يترجم جوانب مختلفة من شخصيته ” يكفي تلقيم مفردة الحذاء، مستطيل غوغل، حتى تتسلسل عناوين شتى تشير إلى هذا الجانب المهم، وخاصة راهناً “.
في الجانب الآخر، من السهل جداً، تعقّب مدى استخدام الحذاء في اللغة اليومية، وتحديداً في حالة الذم والإهانة طبعاً، كقول أحدهم للآخر بأنه ” قندرة “، أو ” شحاطة “، أو ” صرماية “، أو بالكردية :
Hey qundere- hey şehate- Ezê qundera xwe bixme devê te- ez ê bi şekala daweriqînim te…
سوى أن الذي توخاه الراحل من خلال قصته، ربما يستوقفنا كثيراً، فثمة صِدام مع الواقع ، ونقد حاد إلى الذين يلعبون أدواراً أحذياتية ” إن جاز التعبير، لمن يتحكمون بمصائرهم، أو كونهم أنفسهم يرتضون بذلك انطلاقاً من جبلّتهم النفسية، ومستواهم الثقافي، ونظرة كل منهم إلى الآخر طبعاً، والأهم، ذلك الحضور السلبي على وجه العموم لهم في المجتمع، ومع بعضهم بعضاً، أي إنه سعى إلى إخراج الحذاء بمفهومه المادي وتبعاً لموضعه واستخدامه من حالته المعتادة، إلى مستوى الرمز، والمثير للنظر هو المناخ الحواري الذي ربط بين مجموعة أحذية، هي لسان واقع مشترك لتلك المعتبَرة ” قوى حزبية سياسية “، ومدى التخاصم والتنابذ فيما بينها.
ثمة ستة أنواع من الأحذية، تعرَف في أسمائها المتداولة كردياً، وفي وسط الكاتب:
الحذاء الطويل الساق والمطاطي” بوتين ” : Potîn – الحذاء العادي، والأكثر تداولاً : Sol- الحذاء الطويل الساق نسبياً ” بوط “: Bot- الشحاطة، الشبشب : Șimik- الحذاء الخفيف المصنَّع يدوياً: Kalik- الحذاء الجلدي غالباً، و” الجاروخ “: Çarox.
كلٌّ منها معتد باسمه ودوره في الحياة، وبالنسبة إلى الرّجْل وجانب السلطة فيها، ويثير حفيظة البقية طبعاً، لأن هناك، كما يظهر : غمزاً ولمزاً، سوى أن جميعها تتشارك في كونها خدمية، جميعها تكون معدومة القيمة، لا بل مستهجنة، حيث يتم لبْسها: انتعالها، وهناك طرافة في الحوار، وفيما يُنسَب إلى كل منها من دور، وحساسية سواه حذائياً.
من ذلك، الكلام الموجَّه من الحذاء العادي إلى الحذاء الخفيف وقد حنق عليه، وبلغة يصعب ترجمتها إلى العربية، لأن لها استخدامات محلية، وأحاول تقريبها:
بئساً، أيها الحذاء المصنوع من الجلد والغزْل..بئساً أيها القذر النتن والوضيع، ما دخلك في الموضوع، يا منتكس الرأس ” من الذي خوَّلك بالكلام..بئساً يا المنفاخ..ص223.
وتبلغ المفارقة درجة كبيرة من السخرية، لحظة الدخول في دبكة مشتركة والتغني باسم الرّجل، وذلك من قبل الأحذية، والتباهي بها، كما في قول البوط:
رِجلنا ظريفة ورشيقة
تليق بها البذلة والمعطف
وقول الحذاء :
رِجْل، رجل، يا رجل
أيتها الناعمة الأثيرة كما قلت…ص 226 
طبعاً، يمكن للقارىء أن يسأل عن الحذاء الناطق هنا وهو الوارد باسم Pêlav ، حيث إنه يشمل مختلف الأحذية، ويرد ذكره في السياق كما لو أنه اسم حذاء محدد، أو الحذاء عموماً.
ومن المؤكد أن أحذية تعني مقامات أشخاص، أو أطراف، بما أنها ارتضت أن تكون أحذية، لا بد أنها لن تتناغم مع بعضها بعضاً، من خلال أسمائها ومسمّياتها، ومحكومة بأرجل محددة.
وكما أسلفت، فإن الذي يأتي في النهاية يمثّل تدخلاً من لدن الكاتب، وكأني به يؤّرخ للحدث:
” كما بدأ الاجتماع، هكذا انفضَّ/ انتهى أيضاً، دون أن يتمكن أحد من خداع نظيره/ صاحبه، والإيقاع به، دون أن يعلم أي ” منهم ” ماذا عملوا وماذا يمكنهم أن يعملوا. سوى أن الجميع كان يعلم أن هذا هو المطلوب منهم، ليمنحوا أنفسهم اعتباراً وهمياً ما، لأنهم يعلمون أن الرّجل لا تمنحهم هذا الاعتبار، و” لا  يأخذون الأمور بأقوالهم “. فكل منهم خرج وهو يتأمل ما بينه وبين نفسه. سوى أن آمال الجميع تدور حول هَم واحد، كيف يمكنهم التودد إلى الرّجل، وجعْلها راضية مرضية منهم بأي صورة كانت. الجميع كانوا يعيشون الاعتقاد نفسه، وهو أن الحذاء يبقى حذاء، ولا يمكنه أبداً أن يصبح قفازاً، لا يصبح قبعة وعمامة، لا يصبح أي أداة لمحبوب أو مقدام وعالم. لقد وجِد ليكون اسمه حذاء، وأن واجبه هو حماية الرّجل، وتكون لقمته مغمسة بالدم والعرَق، وأن كرامته بالمقابل، محدودة وشبه معدومة إجمالاً، ومهما أطلق عليه من أسماء، فهو يبقى حذاء، ويطلَب منه القيام بكل ما يخص خدمات الحذاء. هكذا تعلَّم، هكذا عرف نفسه، هكذا يعرف نفسه ويراها.ص 246 “.
من وجهة نظري، تمثّل القصة هذه تأريخاً لما هو سياسي، حزبي كردي، ويمكن أن تتجاوز القصة بدلالاتها النطاق المعطى لها، فتنطبق بمفهومها على كل الذين يسخّرون أنفسهم في خدمة الآخرين، أي يكونون طوع أمرهم، ويرتضون العبودية لأنفسهم والابتهاج بها كذلك.
كما قلت، هو أعنف نقد موجَّه إلى المتواطئين مع المستبدين بأهلهم وشعبهم، وإن كان الاقتصار من لون واحد، ومستوى واحد: الجنس الذكري، بصورة رئيسة، من خلال الأحذية المسماة، أي دون وجود حذاء يرمز إلى المرأة، لجعل الحدث القصصي أكثر عمقاً وحيوية.
كما نوَّهت سالفاً، فإن الراحل لم يؤرّخ لقصته، وهذا يفتح الباب أمام إطلاق تخمينات، سوى أن سيرورة القصص الموضوعة وتواريخها، تشير إلى أنها تلي عام 2005، ربما جرّاء إحباط مما يجري، على خلفية من المآسي التي يعيشها الكرد، والدور السلبي للأحزاب الكردية في ذلك.
لكن سؤالاً يستحق الطرح على خلفية من كتابة قصة كهذه، والنبرة التقييمية التي خفَّضت من منسوب القص بالمعنى الأدبي” الفني ” في النهاية، وصلتها بالمعتمل النفسي لدى الكاتب، وهذا السؤال يتعلق بموقع الراحل فيما كان عليه، وما إذا كان يمكنه أن يلوّح ببراءة ذمته في تاريخ سياسي، حزبي كردي مارس فيه أكثر من دور سلوكاً وقولاً، شفاهة وكتابة، ولا أظنه كان بمفارق ” الجماعة الحزبية ” حتى اللحظة الأخيرة من حياته. أي ما كان له من دور لا يمكنه التبرؤ منه، وهو في تشدّده على تصريف ” الأحذية ” قيمياً، وذلك في استمراريتها كأحذية لعقود من الزمن. أعني بذلك: ألا يتحمل مسئولية ما في هذا النطاق، خاصة حين يتكتم على تاريخه الشخصي وليس الشخصي، ذاك الذي يصله باللعبة السياسية الحزبية و” حذائيتها “؟!
أعني بذلك: ما أوسي معنياً بمناخ ” الأحذية “، وهو في تعاليه على الجاري، لا يعني البتة أنه حامل لواء البراءة من أحداثه ووقائعه، وتحديداً، لأنه التزم الكثير من الصمت السلبي لاحقاً، وحتى نفوراً مطعَّماً بلغة التهكم مما يحدث في وسطه، بينما كان يحاول تأكيد مسحة الكردية في المسلك خارجاً، دون إيلاء وسطه تلك القيمة الرئيسة والتي تضمن له نسَباً له اعتباره في الكردية التي أفصحت عنها كتاباته المختلفة. وهو عزاء لمن لا عزاء له في المحصّلة !
الحلقة الخامسة عشرة : ما أكثر القصائد، ما أقل الشعر :
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…