ابراهيم محمود
يمكن تحديد شخصية الراحل رزو أوسي الشعرية على أنها متراوحة بين التقليدي، وهو ما نتلمسه، في قصائده التي كتبها في سبعينيات القرن الماضي، رغم عدم وجود تأريخ لها، ومحاولة الحداثي بعد تسعينيات القرن الماضي أيضاً، سوى أن شخصيته عموماً بقيت مقلّدة: في الحالة الأولى: التنفس برئة الشعراء الكرد السابقين عليه ” جكرخوين، مثلاً “، وفي الثانية، عدم تكوين شخصية شعرية حداثية مستقلة، لا برؤاها الفنية، ولا في الموضوعات الجديدة كذلك !
هنا، ومن منطلق نقدي، لا يهمني ما يكون عليه الراحل في شعوره النسَبي: الكردي، إنما ما يمثّل ميزة المغايرة في الكتابة الشعرية، وحتى بالمفهوم القومي، ما كان متمثّلاً له واقعاً حقاً !
ولعل القارىء معي، أو مع حقيقة القول وهي أنه من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً ممارسة تغطية مواقعية ” طبوغرافية” لموضوع من هذا القبيل، جُلَّ ما في الأمر: إيجاد محفّز لقراءة أشمل، وفي الوقت الذي أشدّد على جانب آخر، لا أظنه يحتمل التأويل، وهو خلو القصائد ” القديمة ” من التأريخ، ومن ناحية أخرى، ما تُحدِثه النصوص الشعرية التي تشكّل مكونات مجموعته الشعرية ” النعاس:ذكريات حرَّة وطليقة: Xilmaşî : Bîranînin bê kêş û bend، أي غير مقيَّدة بالوزن والقافية، وما في ذلك من إطلاق سراح القول دون التفكير في أي منهما، من بلبلة في وعي القارىء من خلال التأريخ لها، وعملية الترتيب بالمقابل.
فمقدم المجموعة الشعرية الكاتب واللغوي زاغروس حاجو، يؤرخ لمقدمته هكذا” 3-9/ 1998 “، وقراءة المجموعة الشعرية هذه، والتي تستغرق قرابة ” 150 صفحة “، نجد انقساماً فيها، إذ بدءاً من صفحة 430 إلى النهاية” 482 “، ثمة تواريخ لاحقة” بدءاً من عام 2003 “.
ضمناً ليس من ترتتيب في التأريخ، جهة التقديم والتأخير، ويسهل تتبع ذلك استناداً إلى الوارد في نهاية النصوص الشعرية، عدا وجود نصوص شعرية دون تأريخ أيضاً، أي عدة قصائد أحياناً في يوم واحد، وفي أكثر من حالة، وتقديم وتأخير في التأريخ في أكثر من حالة كذلك. فمن وراء عملية الترتيب هذه، ولماذا أبقيَت هكذا ؟ أكان ذلك من قبَل الراحل ؟
لنتوقف هنا عند نماذج شعرية، بغية استشراف المعْلَم الفني والدلالي فيها:
في الحالة الأولى، وهي لا تستدعي تفكيراً مركَّزاً جهة الدلالة والتعبير، جل ما في القول، أن الراحل سعى إلى أن يكون مقلّداً، وحسبه أن يعرَف هكذا، من خلال بنية المكوّن الشعري لديه.
كما في ” نوروز قريتنا “:
محيط قريتنا
مرتفعات ومنحدرات جميعاً
محيط نهرنا ذي القصب
سهول خضراء، ووديان
اليوم، عائلاتنا كافة
دون بيوت وأهل..ص 274
أو ما يقوله في مخاطبته للمعتبَرة حبيبته، في قصيدة ” أنا والحبيبة ” :
من أجلك أكون هدباً وعيناً وبائساً
أنا عصب وعِرْق وغطاء
مني أصبح قلبي لك عشاً ومسكناً
أنا الطارد والطريد والأسير..ص278
إن الملموس فيها لا يسمّي الشاعر شاعراً، طالماً أنه من العبارة الأولى يحيله إلى آخرين، إلى ما هو مكرَّر ومتداول، وما في ذلك من وصف واستدعاء كلمات دون منحها العمق المطلوب.
في الحالة الثانية، وهي أكثر طمأنة على صعيد المبذول النفسي، والسعي إلى تقديم نصوص شعرية كما هو اسمها: أن تكون دون ضابط وزني أو قافية، ودلالة الضبط فيها، وتلك قضية أخرى تستدعي جملة اعتبارات تخص جوهر المعطى الفني، أي ما ليس شكلاً، إنما محتوى !
ثمة الكثير من الكلام، والقليل من المعنى الشعري:
في قصيدته ” يا أخوة… كفى “، نقرأ:
يا أخوة
صحيح أننا أولادم
آدم
و
حواء
سوى…أننا اليوم
متباعدون
ومختلفون
لا نأكل من الوعاء نفسه
لا نلبس مثل بعضنا بعضاً
لا يطيق بعضنا البعض الآخر
أسماؤنا لا تتحابب. ص 333
في مقطع من قصيدة ” حكايات العجوز “:
عندما قفزت نعجتنا
فوق الجدول
انكشفت عورتها
ضحكت عليها العنزة
سوى أنها
نسيت
أن ذنبها منتصب دائماً إلى الأعلى
وعورتها مكشوفة دائماً. ص 339
في مقطع آخر من قصيدة ” الإصابة بالعين “
دققنا النعال
على أعلى الأبواب
علَّقنا حوافر الغنم
وصبغناها براحة اليد المضمخة بالدم…ص 350
وفي مقطع من قصيدة ” الصيد “:
هربت كلاب صيدنا من الأرانب
كبت أحصنتنا
على أرض مستوية
عصيت رصاصاتنا
في فوهات البنادق
وانفجرت..ص395
وفي قصيدة ” العروس “، نقرأ:
فتياتنا
حكَّت نفسها بالعروس
وأودعت آمالها
الواحد تلو الآخر
أقبل الخيالة
أخذوا العروس
من بينهن
نامت الآمال
والعيون
سفكت الدموع .ص 430
وفي المقطع الأخير من قصيدته الأخيرة ” الوعول “:
نحن على يقين
من رعاة الوعول
على أنهم سيخرجون
قيثارتهم المحنّاة
من جرابها
أنهم بصوتها
سيقودون الوعول
للرعي الليلي
حينها
ستصبح سهولنا مليئة بالحياة
وأن فصولها
سوف تزدهر في ميعادها.ص 479
في أغلبية هذه النصوص، وما هو وارد منها في متن المجموعة، يمكن للقارىء أن يتحسس ذلك الحراك الشعري في تعابير الكاتب: الشاعر، أن يتحرى مسعاه في إضفاء قيمة جمالية تعنيه على ما ينشغل به في متخيله، وفي ذاته ككاتب وكشاعر ضمناً، أن يكاشف يقيناً جلي الأبعاد في بنية القول لديه، وهو ممتلىء ثقة واقتداراً بأن الذي يتقدم به يحمل دمغته الشعرية.
قد يكون ذلك إيحاء، أو انطباعاً، أو حالة موقفية من كتابات الراحل عموماً، وهذه النصوص، على وجه الخصوص، سوى أن المتشكّل في قوام النص الشعري لديه، يظل منوّهاً إلى ما هو قائم في الجوار، وفي نصوص آخرين، عدا عن عملية الوصف والشرح وشرح الشرح، أي ما يفتقر إليه الشاعر من دعامة التكثيف، وقوة الصدمة الجمالية في العبارة، بحيث يبقى رحالة في أرض ممسوحة بمكوناتها، لتبدو طريقة الكتابة هادئة، لا تبعث على يقظة الروح والعقل .
أأكون مبالغاً إن قلت إن تلك الآصرة الوجدانية والذوقية الخاصة التي تتطلبها مغامرة الكتابة الإبداعية بالذات، تكاد تكون ضعيفة بأكثر من معنى لدى الراحل رزو أوسي؟ أتراه لم يعش هاجس الإبداع من موقع المعاناة وقد بلغت نصاب التأهيل ليقدّم جديداً؟
في السياق نفسه، وكما أثرت في النقطة المتعلقة بـ” مهاميزه ” حيث السؤال يتكرر هنا، أي تاريخ حدثي، تاريخ حياة مضطرمة ومضطربة وتحولات صاخبة، جرى التعامل معه من لدنه؟ هل أخذت المستجدات التي أعقبت انتفاضة قامشلو ” 12 آذار 2004 “، موقعها، كخميرة فاعلة في عجينة الرؤية الفكرية والإبداعية لديه؟ ما أكثر الكم وأقل الكيف !
أكان يعيش حالة استغراق في الكتابة الإبداعية، كما في الشعر، وفي وسطه، لتأتي البصمة الشعرية دالة عليه؟ ألم تكن الكتابة في الوضعية هذه مقاربة لنوع من الترف واستعراض القدرة على احتواء كل ” المواهب ” وما في ذلك من تأكيد حضور للاسم بصورة ما أو بأخرى ؟
هل كان مخلصاً لتاريخه المحلّي، لمن ينتمي إليهم في وسطه، كما تقول وقائع قائمة ؟
ألم يكن تسييد العلاقات خارج ” حدوده ” المحلية متغلّباً على سيادة الروح الإبداعية وتجذرها في بنية الواقع، هو السمة الأبرز في مجمل كتاباته، ومنها الشعرية؟ أعني بذلك، جانب التعالي على الكتابة ذاتها، بوصفها التحليق بالمكان بكل جوارحه وليس اختزاله غالباً !
هل كان المأهول بمصداقية الأثر الإبداعي ومتطلبات الأثر هذا؟
لا أظن ذلك، من هنا، فإن الراحل رزو أوسي، يمكن أن يقرأ ويستحق القراءة مقارنة بكثيرين، سوى أن هذه القراءة بمفهومها الزمني المختل التوازن، لا تمتلك ميزة الاستقطاب والترشح إلى مستوى تلك الألقاب التي منِحت له من قبل لفيف من أصدقائه، من خلال قولة ” أستاذنا “.
أن نعيش حيوية التاريخ، هو أن نختبر فينا إرادة الانتماء الفعلية إليه !
انتهت الدراسة