رحلة الضياع

الأمازيغي: يوسف بويحيى
أتذكر عندما رافقت “نتشه” في تلك الليلة الممطرة قصدا في قراءة أقصوصة تاريخ المرأة، تجادلنا مرارا بخصوص هذا الكائن الجميل، شمس تضيء الفراغ تتسلل إليه كالهواء، إذ لم تكن ردود “نتشه” إلا ردات فعل على ما حدث في ساحة “روما” بين جفون أعين الروسية الشقراء، حب صمت إمتد ليطرق جميع أبواب مصدر إلهام موسيقى الحرب، كان لكل من “سالومي” ذكرى في معانقة الحصان راقصا سمفونية الذكرى على صورة التاريخ التي شقت حاضر “نتشه” رغم الجنون، كانت “كوزيما” أرقى تلك الثمرات من جعلته يحي الهدوء ممزوجا بالإبداع و الحب الصامت إلى الموت.
لقد إختلفنا أنا و “نتشه” بخصوص ما قيل على لسان المرأة العجور ل”زرادشت” ، صوت السوط لا يليق بمن يجعل من الرجل سعيدا او فيلسوفا على حد تجربة “سقراط” ، مازال “نتشه” يتمسك بأنها “عصفورة” و مرة “هرة” و في أحسن الأوقات “بقرة”، أسرار تلقي برموزها في دروب الفلسفة الإغريقية، كان له كل الفضل في فك شفراتها المعقدة، إنتهت الحياة و أكمل القدر مهامه و مازال الحب يكمل المسير بروح التاريخ ، لم يستطع أحد إيقاف شعور الإيمان بالإلهام على حد الدلالة التي بقيت راسخة بشكل جدلي بالقول “كم أكره النفوس التي تشبهك يا اختي الحبيبة”.
سألت “نتشه” نية في نفسي قائلا: ما رأيك في “ريلكه”؟؟، أجاب إنه أناني، حدق إلي كأنه علم بقصدي من السؤال، قطع المشهد الساخن صوت الرعد القوي ، قطف الوردة القاتلة التي أنهت حياة شاعر كبير في مقتبل العمر، كلماته رائحة مازالت تستنشق من ورود حدائق فرنسا ، كل هذا الموت من أجل وردة حمراء مسمومة لتعطى هدية ، ليلة عيد الحب سقط الحب أرضا و إكتفى الشعر بالرثاء إلى الآن، كانت الغيرة تفسد كل شيء عند “نتشه” رغم طباعه الرائعة، كان لكل أصدقائه دور في إبداعه و جدلياته اللامتناهية ، إنه اعظم من نظر للبشرية مستقبلها العقيم الذي بدا بالظهور.
سألت “نتشه” هل يصدق أن يحب الرجل المرأة حتى لا يتبقى في قلبه نقطة ثم يكرهها؟! ، إبتسم بسخرية معللا…المرأة لا تصلح للصداقة و لا الحب فقط الزواج، كيف لي ألا أستوعب قصده و انا الذي قرأته مطولا حتى وجدت أنه الوحيد من يعلم ماذا يريد الرجل و المرأة من بعضهما ،كما أنصح ألا تقحم نفسك في هاته الوضعية المشكل أيها القارئ العزيز كي لا تفقد إيماناتك، إنما الرجل أقرب خلقا للطفل مع ذلك تفهمه المرأة أكثر من الرجل، الرجل الحقيقي يبقى ذاك الذي يستطيع أن يلاعب ذاك الطفل داخل المرأة، على حده الرجل للمرأة وسيلة غايتها الطفل، يواصل به الأمر تذوق المرارة في أشد النساء حلاوة، إنها معركة التاريخ ذات النفس الطويل التي كثيرا ما لمح بها للبشرية.
إنصرف “نتشه” دون وداعي، لم ألتقيه منذ ذلك اليوم، ألتمس أحرفه المحملة بقطرات ندى جبال الألب المطلة على “سويسرا” ، أرى ملامح وجهه الشاحب في مشفى جناح طب النفس بإشراف “بريوير” ، أسترق النظر من أعلى جناح طب العيون ، ألمح من علو الطابق حركات المريضة الجميلة “بيرتا” تستعجل بإشفاء الطبيب “بريوير” بحبها من سلطوية “ماتيلدا” ، لقد كسرت الخيانة و الخيبة كل أمال الحياة المأمولة، كان لابد من طرد القوة الوهمية لأجل المسك بالحقيقية، المنعطف الذي غير كل شيء في الحياة بل غير الحياة برمتها، لن نلتقي أبدا مهما تبادلنا الكلمات ، ولن نفترق مهما إنكسر كل شيء أمام حقيقة احسها لكني أجهلها لضرورة، أنا من قرأتك يا “نتشه” و إستدرجتك للحديث لتبوح بكل شيء، تظاهرت بالغباء لأكتشف كل أسرارك التي لا يعيشها سواي و أنت، حقا كانت ليلة الحقيقة بٱمتياز.
لقد إبتدعت هذه الرحلة أرنو بها إلى وصلك أيتها المرأة التي أقصدها بكلماتي، أيها القارئ العزيز التواق للمعرفة أعلم أن الأمر ليس سهل الفهم، بل يحتاج إلى علم مسبق بتفاصيل مسرح الفلسفة و الحياة و الجريمة، إعلموا جميعا أن “نتشه” لم يشف و لا أنا شفيت، كذلك لتعلم الروح التي تزورني في أشد أوقاتي ألما أنني ممتن لها و شكرا لها من أعماق قلبي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاوره: إدريس سالم

تنهض جميع نصوصي الروائية دون استثناء على أرضية واقعية، أعيشها حقيقة كسيرة حياة، إلا إن أسلوب الواقعية السحرية والكوابيس والهلوسات وأحلام اليقظة، هو ما ينقلها من واقعيتها ووثائقيتها المباشرة، إلى نصوص عبثية هلامية، تبدو كأنها منفصلة عن أصولها. لم أكتب في أيّ مرّة أبداً نصّاً متخيّلاً؛ فما يمدّني به الواقع هو أكبر من…

ابراهيم البليهي

منذ أكثر من قرنين؛ جرى ويجري تجهيلٌ للأجيال في العالم الإسلامي؛ فيتكرر القول بأننا نحن العرب والمسلمين؛ قد تخلَّفنا وتراجعنا عن عَظَمَةِ أسلافنا وهذا القول خادع، ومضلل، وغير حقيقي، ولا موضوعي، ويتنافى مع حقائق التاريخ، ويتجاهل التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية فقد تغيرت مكَوِّنات، ومقومات، وعناصر الحضارة؛ فالحضارة في العصر الحديث؛ قد غيَّرت…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

الخَيَالُ التاريخيُّ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ تَجْري أحداثُه في بيئةٍ مَا تَقَعُ في المَاضِي ضِمْن ظُروفِها الاجتماعية ، وخَصائصِها الحقيقية ، مَعَ الحِرْصِ عَلى بِناء عَالَمٍ تاريخيٍّ يُمْكِن تَصديقُه ، والاهتمامِ بالسِّيَاقاتِ الثقافية ، وكَيفيةِ تَفَاعُلِ الشَّخصياتِ مَعَ عَناصرِ الزَّمَانِ والمكان ، ومُرَاعَاةِ العاداتِ والتقاليدِ والبُنى الاجتماعية والمَلابس وطبيعة…

فواز عبدي

يقال إن الأمثال خلاصة الحكمة الشعبية، لكن هناك أمثال في تراثنا وتراث المنطقة باتت اليوم تحتاج إلى إعادة تدوير عاجلة… أو رميها في أقرب سلة مهملات، مع بقايا تصريحات بعض المسؤولين. مثال على ذلك: المثل “الذهبي” الذي يخرجه البعض من جيبهم بمجرد أن يسمعوا نقداً أو ملاحظة: “القافلة تسير والكلاب تنبح” كأداة جاهزة لإسكات…