كيفهات أسعد
قوام مكتب العقارات في كفر سوسة، محل صغير بكراسٍ سوداء أنيقة، مثل كل شي في ذاك المكان، مثل لون الساحة، مساحة النافورة المتعوبة عليها مثل لون السيارات الفارهة المركونة على جنبات الطريق، وأنواعها مثل أنصاف السياسيين والمخابرات ورجال الدين، مثل جميع النساء والفتيات الأنيقات بـ “جلابيب” ذوات ألوان فرحة، وحجابات منمقة، وهن يتظاهرن باللامبالاة والأخلاق، يمشين بأصوات أحذيتهن التي تناغم صوت “دربكّة” في عرس شاغوري معزول.
أبو وليد، الجالس في مكتبه العقاري، أقل ما يمكن أن نسميه بشخصية “حربوقة”، بلغة أهل الشام، مساعد مخابرات متقاعد، بخيل لدرجة يكاد يغمى عليه إذا قدم لزبون كأس شاي، حتى تلك الذكريات أصبحت مخلوطة كما كل شيء؛ الآن أتذكرها بحزن، مثلما أتذكر صوت أحذية النساء وصوت المطر، مثلما أتذكر “الدولاب” في فرع فلسطين، واحتجازي لساعات في قسم “الجبّة”، مثلما أتذكر لون الحبر المدبوغ على كفيَّ، وأنا أجمع جرائد الثورة ليلاً كي توزع في كل المدن، مثلما أتذكر ديانا جبور، وهي تنشر القصيدة نفسها بإسم “أكاي”، بعدما رفضت أن تنشرها تحت اسم كيفهاتّ.
لن أخبر بنات السويد عن معاناتي وأنا أوزع جرائد الدليل في حارات كفرسوسة والشعلان عن مدمني التقارير الكيدية؛ لن أخبرهن عن طول يومي في سنوات الفقر والعوز، فقط، سأخبرهن في سنوات الحرب، لم أكن هناك، ولن أتوقف عن شم ذكرياتي كلما هطل الثلج، أو انهمر المطر.
أنا مهشّم كزجاج مضروب بحجر،لا أؤذي من لا يقترب مني، حزين كدمعٍ في الشارع، أخاف البكاء، ولا أبكي، وحيد كذئب عجوز، بنيتُ قلبي ها هنا من خيوط العنكبوت. كم مرةً تمنيتُ أن أعود إلى خصوصياتي الأنيقة، تمنيتُ أن يكون لي ذاكرة كما ذاكرة الهواتف، أملؤوها بالأغاني والأشواق، ولقطاتي حين كنتُ صغيراً، وأحذف بعض ذكرياتي، كما نحذف من الهاتف صورنا المغبشة، ورسائل شركة الاتصالات، وأحذف أسماء عشيقاتي وعناوين فروع المخابرات، وعدد الاجازات التي كنا نشتريها من قائد الكتيبة مقابل حرام تركي، أو بوط شتوي كموني اللون صناعة ايطاليا، او نصف تنكة جبنة بلدية، وأحذف قرار الرحيل من هناك، وأحذف قرار البقاء هنا، وقبل أن يكون “جّوالي” خارج الخدمة، أحذف كل المكالمات التي لم ترد عليها.
أسمع إلى صوتي الآتي من داخل أحشائي، دون أن تتحرك ملامح وجهي، أو ترمش عيناي. هنا لا يفرحني أي شيء، لا حب زوجتي الذي يقترب من القداسة، لاراتبي الذي يحلم به كلُ عامل، ولا نوع سيارتي الفارهة، لا، ولاحتى هذه البلاد وطبيعتها ورفاهيتها ومستواها المعيشي الذي يحلم به أغلبية سكان المعمورة، دائماً هنا شيء يعكر مزاجي، مثل قهوة سيئة المذاق، ولا أعرف ماهو، كأن أسمع نكتة جديدة، أو احضر مسرحية كوميدية، أعتقد أني رأيتها قبلاً في مكان ما، أو زمان ما، وقد أضحك كثيراً ملء قلبي، ولكن، لحظة واحدة، تكفي لأعود كما كنتُ، كأعمى متمسك بالحياة، لا أريد البقاء هنا، ولا أرغب العيش هناك، أتمنى الموت، بشرط أن تطعم أشلائي للضواري، وتشرب دمي الخنازير، وتتحول عظامي إلى مكاحل لأعين صديقاتي، كي لا أدفن هاهنا.
السويد 2018-5-20