الشاعر برتو الهكاري بين دواء قلب الطالب والراغب.. هل يضعف الطالب والراغب في الظاهر والجوهر في الحياة ؟ جزء / 9

عصمت شاهين دوسكي
الأمير الشاعر مصطفى بك بن عبد الله خان الهكاري الذي تولى حكم هكاري والملقب “برتو الهكاري” اسم لامع بين أسماء الكرد الكلاسيكيين الذين لهم الحظ في وصول عدد كبير من قصائده وجمعت ديوان كامل ،ظل سنة ولادته مجهولاً إلى أن أحد الأدباء وهو الأستاذ “وصفي حسن” كشف عن رأي سديد ومهم جداً وانتبه إلى أحد أبياته الشعرية الذي التقطه من ديوان “برتو” الشعري عندما وضع هذا البيت تحت الأنظار “أنت برتو فألك حسن لكي لا تشكو من الخطايا – أحد عشرة وسبعون أعطت السعادة للروح بفرح” نلاحظ الأهمية في هذا البيت رقم ” أحد عشرة وسبعون ” أي الرقم ” 1170 ” الذي يبدو إنها سنة 1170 هجرية الموافقة لسنة ” 1756م الذي يبدو هذا التاريخ مطابقاً وموافقاً خاصة إن الشاعر أنهى ديوانه الشعري عام 1806م أي كان في الخمسين من عمره لدى إنهائه لديوانه وهي سنة مقبولة للشاعر مثل “برتو” 
ومضمون ديوانه قد لا يختلف عن مضامين الدواوين الأخرى من الشعر الكلاسيكي الكردي وخصوصاً الشعراء الذين سبقوه كالجزيري وخاني فيبدو تأثره فيهما واضحاً وخاصة الجزيري إذ يظهر أن أولئك الشعراء جميعاً قد ارتضوا بالجزيري إماماً لهم في محراب الشعر ويصطف خلفه بقية الشعراء وهذا لا يعني الاقتناص من مكانة ” خاني ” الذي يعتبر من أكبر مفكري عصره بين الكرد وأكثرهم علماً وأدباً ومعرفة ، وديوان برتو الهكاري يجري في معظمه على المضامين الصوفية التي تحتل أوسع المساحات من دواوين شعراء ذلك الزمان ،لكن الشاعر برتو يجيد الانتقال بين المواضيع ذاكراً رموز المتصوفة وحالاتهم وعشقهم مستخدماً رؤى العشق والحب مبدعاً في إعطاء أجمل القصائد في شتى مواضيع الحب والعشق والهيام، باختلاس النظر إلى عمق منهجية الشاعر والإبحار في خطوب القلب ننعم بالنظر من خلال رؤاه حينما يبحث عن دواء للقلب التي تحمل قوة على الإبصار الفكري والحسي ” ما هو دواؤك ، قل لي أيها القلب ؟” وعن طريق استخدام ما يتعلق بالقلب من الدماء والآلام والآهات يرى وجعاً ويحس بالحب والعاطفة القوية لتجلو الأشياء بكل وضوح بعد المكابدات والمعاناة ” لكي يحل السكون والهدوء ساحة القلب ” بما يشعر بطبيعة الحال من ” الحسرات والزفرات – والجروح والقروح ” فالشاعر يطلب الدواء للقلب المعنى لكي يرتاح ولكن في العمق الظاهري والجوهري ضعف الطالب والمطلوب ما دامت موجودة ” القامة الفارعة ” للحبيبة التي هي سبب الداء .
(( ما هو دواؤك ،قل لي أيها القلب ؟
   الدماء تسيل من العيون أيها القلب
   أبعد جميع الآلام والآهات أيها القلب 
   لكي يحل السكون والهدوء ساحة القلب
   لا تسألني عن الحسرات والزفرات
   لن وصف حالها طويل أيها القلب
   فجروحي وقروحي التي في الصدر 
   إنما هي سبب القامة الفارعة أيها القلب ))
ونلاحظ تكرار مفردة ” القلب ” كون القلب هو من يفكر ويتألم ويحس وفي مقطع آخر ومن خلال العديد من الصور الشعرية يشعر الشاعر بخداع الحبيبة أو يشعر باللامبالاة وهو مغرم بجمالها ومتيم بروحها كيف لا وهو يتخيلها ” مثل الشمعة في الليل ،كوكباً في برج الشرف ” فهي ليست أي امرأة وليست من وجه شمعي يذوب بالنار وينتهي بل شغفه في رأياها أكثر إحساساً وجمالاً وإبداعاً  ” أحيت حفلة ملكية ،وأراقت الخمر في الكأس ” هو الوحيد الذي يراها في رؤية حية ويدل على وجودها كالملكات الذي أثراً في أعماق الشاعر ويبحث عنها ويحوم حولها ” كالفراشة ” التي تحوم حول أطراف النور ويحترق في الخفاء والجلاء ” أحترق مثل النار في العيان وفي الخفاء ” وفي كل هذا الشقاء والصراع النفسي والخيالي الفعال والاحتراق الحسي بوجود الحبيبة ورؤيتها كالشمعة وكالكوكب وهي تحي حفلة ملكية وأراقت الخمر في الكأس من خمر شفتيها وريقها ، فهل يا ترى أحست الحبيبة بالمتيم ؟ هل التفتت له بنظرة اهتمام بهمسة إيحائية أو حركة إيمائية أم تركته كعارضة أزياء دارت ظهرها واختفت متجنبة حبيبها ؟ .
(( مثل الشمعة في الليل ،كانت كوكباً في برج الشرف
   أحيت حفلة ملكية ،وأراقت الخمر في الكأس الصدفي
   لذا ظللت كالفراشة أحوم وأحوم حول الأطراف الأربعة 
   وأحترق مثل النار في العيان وفي الخفاء
   والحبيبة دائماً تريد أن تتجنب ” برتو ” ))
لماذا تتجنب الحبيبة برتو ؟ هل هو حب من طرف واحد أم غنج ودلال من الحبيبة ؟ وهل هذا الإحساس والتصور في وجود الحبيبة قد أراح قلب الشاعر أم زاده هياماً وألماً وجراحاً ؟ ومهما كانت الأجوبة فهو نوع من الصراع الخفي يحاول الشاعر اللحاق بالجمال عبر وعي إحساسي وفكري وبصري للحبيبة الماثلة أمامه والتي تتحرك بصور شتى وحين يراها في هذه الطبيعة الزاهية لاشك يصيبه بل تتعمق فيه سهام العاطفة ومس من الجنون الجميل الحسي الداخلي المخفي بقدرة الوعي بين الإدراك والخوف من تجنب الحبيبة والرغبة الضمنية وهو لا يكفي بذكر تباريح الآلام بسبب تأثير تجنب الحبيبة ،قلبه يذهب طائراً بالنشوة والسمو والسكر الصوفي وإن كان التحليق والطيران العالي مشبهاً بقلبه الطائر المسرور الذي يخفق بجناحيه عالياً ” إن طائر قلبي المسرور،يروم التحليق عالياً ” وهي ذروة السمو والارتقاء عالياً لا يهيم بمغادرتها بل يبغي صعوداً لإلقاء نظرة على الحبيبة ،فإن لم يكن طالباً وراغباُ فما جدوى الحياة ؟ فمصاحبة الصياد والمصيدة ومصاحبة الحمام مع الحمام والبلابل والبزاة لبعضها البعض هي صور معروفة في عالم التصوف وليس عالم التصوف فقط بل تكون واردة من قبل بعض الشعراء في قصائد تتقاطر حباً وعشقاً وتصوفاً ضمنياً معنياً في تصور الشاعر ” الحمام يطير مع الحمام،والغراب يدندن مع الغراب “يلوح الشاعر وهو مبحر في السمو والارتقاء بيان سبب الطالب والمطلوب وهذه الرؤية توسع المعاني بأسس مرجعية أولية لوجود وديمومة الإنسان من خلال تجارب زمنية مؤثرة في حياة الشاعر وحكمة يشير إليها من ارتباط الأحياء مع بعض كصورة شكلية جوهرية الحمام مع الحمام والغراب مع الغراب والصياد مع الصيد والبلبل مع البلبل والباز مع الباز وبينهما يوحي جدلية الطالب والراغب .
(( إن طائر قلبي المسرور،يروم التحليق عالياً
   فهو من ذوي الأعشاش العالية لذا يروم الطيران عالياً
   الحمام يطير مع الحمام والغراب يدندن مع الغراب
   فإن لم يكن طالباً أو راغباً فكيف يرتو نحو الصيد
   فما لم يكن الصياد جاهداً لن تكون مصيدته ذات عقد
   فالبلبل يصاحب البلبل والباز يرافق الباز ))
كذلك يفسر الشاعر السبب الذي يجعل مثلاً الصياد جاهداً والقلب عالياً مسروراً في الارتقاء وكأن هذا الارتقاء دواء للقلب ومن الصعوبة إغفال هذا التفسير المبدع في رؤية الشاعر وطرحه الجميل الذي يعطي انطباعاً من الدقة والجمال والعبقرية والوضوح والإبداع وهذا التوسع في الظهور والوضوح يتحول من خلاله إلى السمو والارتقاء الإنساني ويقنع القارئ من خلال تصور رؤيته الخاصة بحيث يسمح للقارئ في التحليق معه بخيال الإنسان مع الإنسان الروح مع الروح والإحساس مع الإحساس وهو يشعر مع القارئ بالتفوق الذهني والحسي بين الطالب والراغب وبين الطالب والمطلوب بإيجاد دواء القلب .  
برتو الهكاري
اسم لامع بين أسماء الشعراء الكلاسيكيين الكرد واسمه الحقيقي الأمير مصطفى بك عبد الله خان الهكاري الذي تولى حكم هكاري.
تجمعن الآراء إن سنة ولادته عام 1756م خاصة ما ورد في مقال الاستاذ وصفي حسن جريدة هاوكاري ليوم 16/2/1984م وتحليل الأديب المبدع رشيد فندي من كتاب من ينابيع الشعر الكلاسيكي الكردي الجزء الأول أربيل كردستان العراق 2004م .
له ديوان مخطوط أنهاه عام 1806م
ديوان ” برتو الهكاري ” طبعه المرحوم صادق بهاء الدين بغداد 1978م . 
كتب عنه العديد من الأدباء والباحثين ومنهم المرحوم ” نجم الدين الملا ” في كتابه المخطوط ” سوزي نيشتمان ” 1942م والمرحوم علاء الدين سجادي في كتابه ” تاريخ الأدب الكردي ” بغداد 1952م والأستاذ عبد الرقيب يوسف في كتابه ” الديوان الكرمانجي ” نجف 1971م والأديب تحسين إبراهيم دوسكي في كتابه ” المدخل لدراسة الأدب الكردي ” الجزء الثاني عام 1993م وغيرهم .
توفي بعد عام 1806م .
**************************************** 
كتاب – فرحة السلام – من الشعر الكوردي الكلاسيكي ، دعوة للمؤسسات الثقافية والشخصيات الثقافية المعنية لطبعه ، لعدم إمكاني طبعه .. عصمت شاهين دوسكي ، 07510324549

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…