عصمت شاهين دوسكي
يعتبر الشاعر بكر بك الأرزي أمير قلعة ” ئه رز ” شاعر الطبيعة الخلابة والوصف الشفاف الجميل يختلف عن أقرانه السابقين من الشعراء الكرد من حيث المنهج ،هو من قرية “ئه رز” التي تقع على سفح جبل ” متينا ” المعروف في منطقة بهدينان بكردستان العراق إضافة إن ” ئه رز ” تنتمي إلى عشيرة الدوسكي وهي آية في الموقع والجمال الطبيعي الخلاب الزاهية بالبساتين والجنان التي تثير العقول والقلوب ،الشاعر كان معروفاً بحدة ذكائه وسرعة بديهته في نظم الشعر كما كان فناناً موهوباً في صنعة ” النجارة ” ويتفنن في تصميمها وشكلها ،وكان على علاقة وثيقة بأمراء العمادية فيقوم بزيارتهم باستمرار، يعتبر أسلوبه الشعري من أجمل الأساليب في النظم باختياره الكلمات البسيطة المألوفة غالباً وهو شاعر الوصف الشفاف حيث يصف كل شيء في طبيعة كردستان الجبلية المميزة بطبيعتها الزاهية ومن حوادثها المختلفة في ذلك الزمان متى ما سنحت له الفرصة ،مثلاً عندما يزور طاحونة من طواحين القرية يصفها في قصيدة اسمها ” الطاحونة ”
وعندما يتأمل الطيور يكتب قصيدة اسمها ” الطيور ” وحينما يطل المطر والبرد ” الحالوب ” فيصفها بقصيدة بكل دقة في قصيدة اسمها ” البرد “وقصائد أخرى مختلفة المضامين كقصيدة ” الملح ، النزهة ” وكان الشاعر يقوم بفعل جميل عندما يؤرخ بعض قصائده في نهاياتها يجعلها محل ثقة لدى القارئ كذلك عدم ضياعه وتحريفها ،ورغم بساطة كلماته وتجنبه الخوض في مسائل صوفية وفلسفية صعبة في شعره مثل ما موجود في قصائد الجزيري وخاني وحتى فقيه طيران وبرتو الهكاري وكذلك بساطة الموضوعات التي يطرحها القريبة من الحياة اليومية لدى الناس وهذا لا يعني عدم تأثره بالشعراء السابقين حين يسلك سلوك ” فقيه طيران ” في نظم القصائد بالرغم لم يكن من رجال الدين الفقهين بالمسائل الدينية وعلومها من نحو وصرف ومنطق وبلاغة وتفسير وحديث بل كان شعره أقرب إلى السياسة والحكم ،حبه للأدب والشعر ورهافة حسه وحدة ذكائه جعلته شاعراً معروفاً،الشعر أكثر الأشياء قرباً والتصاقاً بقلب الشاعر ومن أفضل ما يدل على روحه وفكره وذاته ففي قصيدة وصفية غزلية يتعرض للبوح بالحب من خلال وصف الحبيبة بصور شعرية عديدة إن كانت الحبيبة واقعية أو خيالية ” راجعة من ” الروبار ” وبصورة انسجام بعيدة المدى وقريبة الرؤية يكون جماليتها الشفافة بتوفير قوة النضج الوصفي للوصول إلى المعنى الذاتي بتنوع الصور التي تصلح ذاتيتها وموسيقاها الحالمة أن تكون ذروة الرومانسية الشفافة دون تاج ولا إمارة ولا قلعة .
(( قفلت راجعة من ال ” الروبار “
وكان السكر ينضح من فمها وشفاهها
أما الضفيرتان المسودتان المظلمتان
فكانت قد شبكتهما كتعاريج الثعبان ))
وكما تفعل الثروات مقداراً كبيراً من الارتباك المباشر والغير المباشر لكن بكشف الشاعر والمنطق الخيالي مندمجاً بالمنطق الذاتي تطورت غايته بعد إسنادها إلى التفاعل الرومانسي بين العقل والخيال ،وبلا جدال تزول الآلام بعد رؤية الحبيبة ” زالت مني الآلام القوية ” وقد تابع الشاعر المعالجة الخيالية للصورة الواقعية المهيمنة داخلياً بإثارة فكرية تظلل العامل الحسي في ضوء وتصور لم يكن مثيراً للعاطفة مقارنة بالوصف الجميل ” ورأيت الخادمة وهي ترفع الحجاب ” وإذا تعمقنا أكثر نلاحظ إمكانية إن يعطي الاستدلالات ويرينا ما يراه ويفترض إنه مرئي بما يطرحه من جمال وأفكار ” لتدخل تلك الحسناء ذات الجبهة الوردية ” وكأننا نلتقط أشعة من خلال التواصل الذكي بالكلمات وتسلسل الرؤية المرتبطة مع بعضها مع الإدراك الفكري المحلق مع الخيال في وصف حبيبته .
(( زالت مني الآلام القوية
ورأيت الخادمة وهي ترفع الحجاب
لتدخل تلك الحسناء ذات الجبهة الوردية
وكأن القمر قد غاب عني ))
وبهذه الصورة الوصفية يكشف رقة وقوة المقطع الشعري الذي يدخل مباشرة إلى خيالنا وقلوبنا بنشاط العامل الحسي الذي يتفاعل مع الفكر والخيال لكن علينا أن نميز بين الصورة الوصفية المشحونة بالفكر والصورة المكثفة في خيال مخفف فكلما كان الوصف عالياً بالاستدلال والمجاز والرموز خفت الأفكار ،لقد ربط الشاعر ” بكر بك ” الحب في تصور مناسب لا ينحرف عنه بالمعنى أو بالكلمات لهذا نفهم ما يعنيه فهو يدرك العاطفة التي تلح في داخله وكذلك صحوة الأفكار التي تلج في النفس ” تعتلج الأفكار في النفس ” فإذا كانت أفكار الشاعر مضطربة بتأثير المشاعر سنلاحظ صراع خفي بين إدراك العاطفة بتأثير الفكر وإدراك الفكر بتأثير العاطفة ،يستمد الشاعر التصور والأفكار من حبه وإحساسه وعدم الوصول للحبيبة يجعل ذروة الحب والإعجاب أعمى تقريباً رغم إنه لا يميل تحميل الصورة الوصفية أكثر مما يستطيع إن تضمه معاني الوصف الجميل حتى إذ كان الندم من نصيبه .
(( لقد غادرت تلك الغزالة الصينية
وكلما أشاهد ذلك المكان
تعتلج الأفكار في نفسي
فيكون الندم من نصيبي ))
ولو سألنا إلى أي حد يمكن لأي شاعر في متابعة الوصف ولا يكل منه بخصوصيات صغيرة ملائمة له بحيث تجعل الصورة النشطة المنفعلة المؤثرة المفعمة بالحياة ؟ فإن الأفكار تنشل بتكرار وتراكم الأجزاء الصغيرة والصور الخيالية والمرئية مهما كانت متألقة فما يثير الانتباه أهمية الوصف وأفكاره ومعالجته للأحداث إن تطلعنا إلى كل النص أو إلى أجزائه وفي بوح مباشر يقول الشاعر ” بكر بك ” معلناً الندم والمصاب ” أنا نادم ومصاب بدوار قوي ” يتطلع أن تنقل الصور الشعرية والوصفية أفكاره وما يعانيه ونلاحظ كيفية استخدام الصور في سياق الكلمات والتعبير ليجعل المعنى مألوفاً الذي هو هدف الشاعر عامة وهدف الشاعر الرومانسي خاصة إضافة إلى إسهام الصورة الجديدة لمعاني القصيدة فإن كان كثرة الوصف تضعف بنية القصيدة فدونها أفضل وإما إن كانت الأوصاف تحتاج إلى الجرأة والإثارة والدهشة فلا يمكن التخلي عنها ” لا أقوى على ذكرى الأوصاف كثيراً ” وهي مسألة توافق بأن تكون أو لا تكون باعتبارات خاصة بالشاعر في الحالتين وهي تصورات منسجمة رغم العلل النفسية العميقة بجدلية ” العلل والحب ” الحيوية بشكل كبير والناضجة فكرياً .
(( أنا نادم ومصاب بدوار الصينية
لا أقوى على ذكر الأوصاف كثيراً
أنا ” بكر ” معلول منذ القدم
وقد داهمني الحب من جديد ))
بمقتضى مبدأ الخوف من الحب يتناول الشاعر ” بكر بك ” تفسير ما يخالج الروح والقلب من خلال الوصف للأفعال والأحداث التي يراها ويعيش خلالها والتي تعطي انطباعاً عما هو فيه هذه الرومانسية في التصور الإنساني مرحلة من مراحل الفهم الروحي بعفوية التصورات يجعل وصفه مؤثراً بصورة مباشرة بالتدرج إلى الواقع المحيط مع فعالية الخيال والواقع المرتبط إرتباطاً وثيقاً مع الوصف الجميل والرومانسية الشفافة فمداهمة الحب من جديد سمة تتعلق بأمر الذات فالخوف الخفي يقربنا من الظنون لكن لا تدعوا للدهشة ،الشاعر ” بكر بك ” تمكن من وصف ما يختلج في الذات ويعبر حدودها بشفافية راقية إلى معاني الجمال والحب والحياة .
بكر بك الأرزي
ولد عام 1757م من خلال ما كشفه الأديب محمد أمين دوسكي في بيت بنهاية إحدى قصائد الأرزي ذاكراً سنة ولادته في القصيدة المعروفة ” سه يران – النزهة ” والتي تنتهي بالحروف ” ع.غ.ف.ك ” وعند جمعها بالحساب الأبجدي يظهر الرقم 1170 هجرية وهو العام الموافق لعام ” 1757- 1758″ الميلادي .
الشاعر من قرية ” ئه رز ” التي تقع على سفح جبل ” متينا ” المعروف في منطقة بهدينان بكردستان العراق وتنتمي ” ئه رز ” إلى عشيرة الدوسكي وهي آية من الجمال الطبيعي .
مؤرخو الأدب يجمعون على كونه متصلاً بنسب أمراء العمادية لذا فعائلته على قرابة بأمراء بهدينان لذا يذكر لقب ” بك ” مع اسمه
قطب من أقطاب شعراء الوصف بجميع أشكاله .
كان أميراً وحاكماً على قلعة ” ئه رز ” 1793م بما ورد في المخطوطة الزيوكية المستنسخة في تلك السنة .
كتب عن شعره وحياته عدد كبير من الأدباء والباحثين ومنهم أنور المائي وصادق بهاء الدين آميدي وعبد الكريم فندي وتحسين إبراهيم دوسكي ورشيد فندي وعبد الرحمن مزوري وغيرهم .
****************************************
كتاب – فرحة السلام – من الشعر الكوردي الكلاسيكي ، دعوة للمؤسسات الثقافية والشخصيات الثقافية المعنية لطبعه ، لعدم إمكاني طبعه .. عصمت شاهين دوسكي ،