جان كورد
لا يمر فصلٌ من فصول السنة، إلاّ ويتحفنا الأستاذ إبراهيم اليوسف بانتاجٍ أدبي جديد، لا يقلّ عن الفواكه الطازجة لذةً وجمالاً، وها هو ذا قد نشر “شنكالنامه” مؤخراً لدى (أوراق للنشر والتوزيع) في القاهرة المصرية، تحت الترقيم الدولي المدوّن في آخر المقال مع البريد الالكتروني لدار النشر. والكتاب الذي وضع له عبد السلام عبد الله لوحة الغلاف الجميلة يتألف من 476 صفحة ويبدأ بعبارةٍ لبودلير، تكاد تلخّص الموضوعات المختلفة التي تطرّق إليها الكاتب: ((أريد أن أؤرّخ لحزني أو غضبي))، إلاّ أن الكتاب أعمق من هذا لأنه يسطّر لمآساةٍ إنسانية تمس حياة ملايين البشر، وليس مجرّد مرآةٍ لأحزانٍ شخصية أوغضبٍ فردي. وإنه ليس كعنوانه (شنكال نامه – رسالة شنكال) بل هو عملٌ روائي أشمل من رسالة في التاريخ أو الأدب أو في أي دراسةٍ ما، تمتزج فيه فنون الكتابة الروائية ليظهر كسيمفونية أدبية رائعة حقاً، فالأستاذ إبراهيم اليوسف الذي له تجربة طويلة وناضجة في صناعات القلم وتدوين المشاعر الانسانية الدفينة بأسلوبٍ عربي شيق، له إطلاعٌ واسع على مجريات الأحداث التاريخية في كوردستان عامة، فهو في الوقت ذاته مساهمٌ بقوة في نشاطات التنظيمات الانسانية وحقوق الانسان،
لذا، فإن ما نشره في هذا العمل الروائي عن الأحداث التاريخية والواقعية ليس مجرّد تصورات أو خيالات سابحة في عمق شعوره الانساني، وإنما انعكاسات لواقع أليمٍ ومرير، يعيش فيه مكوّن متميّز من مكونات كوردستان، ألا وهو المكوّن اليزيدي الذي تعرّض ولا يزال يتعرّض إلى حملات الاضطهاد الشرس تصنف كجرائم ضد الانسانية، وآخرها في هذا العصر الحديث بالذات حيث يسجّل أبناء وبنات هذا المكون الديني(الفرمان 74)ً بحقهم، بل ثمة ما لم يتم تسجيله من هذه الحملات الدموية التي خلت من الرحمة والعقلانية عبر التاريخ الطويل على هذا المكوّن المصمم رغم الأحزان والآلام وما ينجم عن هكذا حملاتٍ عنصرية دموية على التمتّع بممارسة شعائر دينه وعاداته وتقاليده، ورغم الصمت الدولي على ما يُرتكب بحقه لأسبابٍ بعيدة كل البعد عن أي “تبرير حضاري”. فاليزيديون لم يهاجموا أحداً في دياره حتى تتم مهاجمتهم، والذين حملوا رايةً إسلامية ليبرروا بها هجومها اللاأخلاقي الوحشي يعلمون جيداً بأن الله تعالى قد قال ((ولاتعتدوا، إن الله لايحب المعتدين))، أم لايعلمون ذلك…؟
اضطر الكاتب الضليع في معرفة الشؤون الكوردية إلى شرح بعض المفردات والمصطلحات والأسماء والأمور التي ربما لا يعلم عنها القارىء العربي الذي ساهمت السياسة في تعكير صفاء الينابيع التي يغرف منها معارفه العامة، وقلبت لديه الكثير من المفاهيم والحقائق رأساً على عقب، وفي عملٍ روائي يؤثر هذا الشرح الاضطراري سلبياً، إلاّ أن كل كاتبٍ يلجأ إليه ليعلم القارىء جيداً لماذا أورد الكاتب هذا أو ذكر بالتفصيل ذاك أو لماذا أسهب في شروحاتٍ لما يسرده، وهذا كان حال الحكواتيين في القدم أيضاً، إذ كانوا يضطرون لوضع علاّمات سير إلى جانب مسارهم حتى يفهم القارىء ما يحكيه لهم.
هذا العمل الروائي الذي كلّف كاتبه جهداً كبيراً من أجل جمع الحقائق ومعرفة الوقائع وتوثيق مجرياتها، يدفع بالكاتب إلى أن يجد نفسه في الرواية التي عليه كتابتها، فهو لا يدوّن سفر آلام اليزيديين فحسب، بل يتلمّسها بأنامله وأحاسيسه ودقات قلبه، فهو بعمله هذا جزءٌ لا يتجزأ من هذه المأساة التي بدأت بالهجوم الوحشي الغادر على هذا المكوّن الكوردستاني، وإذا بالكاتب يتلقى الهجوم كصدمةٍ نفسية شديدة لا تقلّ عن صدمة أي إنسانٍ ذي روحٍ وجوارح وعواطف عاصر أحدث ذلك الهجوم الإرهابي عن قربٍ أو بعد، بل إن الكاتب الرقيق المشاعر، شاعراً وروائياً، ربما لم يتمكن من تخفيف الصدمة عن نفسه إلاّ بعملٍ روائي كهذا، وكأنه تقرير طبي احترافي عما أصابه في الأعماق وهو يرى ويسمع ويرسم ما يراه ويسمعه على صعحات الورق ليكون عمله شاهداً في التاريخ على أحداث شنكال الحزينة.
الأستاذ إبراهيم اليوسف يتطرّق في هذا العمل الرائع إلى أدعية الكورد اليزيديين، وإلى سفر مأساتهم الطويلة الأمد، إلى أغانيهم المخضبة بدماء شهداء الوطن، إلى جوهر عقيدتهم، وإلى ما جرى حقاً بهذا الشعب على أيدي مجرمي العصر الكبار الذين سلطوا داعش على اليزيديين بهدف انهاء وجودهم أو خلق فتنةٍ كبرى في المنطقة على أمل الاستمرار في استغلالها واستنزاف خيراتها.
أكتفي بهذا عن هذا العمل الروائي الذي سيجد فيه القارىء متعةً في القراءة، مع ثراءٍ في المعلومات عن ضحايا الإرهاب الداعشي، في كوردستان الجريحة. ولن أدخل في تفاصيل الرواية لأن على القارىء الحصول على نسخةٍ منها والبدء في متابعة السرد الجميل بنفسه. فهل تساهم هذه الرواية في تحقيق مزيدٍ من التعارف الإنساني وفي تخفيف حدة الإجرام في منطقتنا ضد بعضنا بعضاً كمجموعات بشرية أو متحداتٍ اجتماعية تعيش إلى جوار بعضها منذ فجر التاريخ، هذا ما نأمله. ولذا أقول: شكراً أيها الأخ الكريم على هذا العمل الهام والممتع.
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.)) سورة الحجرات – الآية 13
978-3-9819194-8-6 الترقيم الدولي:
01010490247 المكتب – تلفون 23963002 (02)
awraq@live.com