فرمان بونجق
الحقُ يُقال بأنني لا أشك ولو للحظة واحدة، بأن الكاتب والباحث إبراهيم محمود، وعلى وجه الخصوص في كتابه موضوع النقاش:( دولة حاجو آغا الكردية ) ، لا يمنح تلك الفسحة التي تمكنني من اختراق بعض حيثيات موضوعاته المطروحة، وغالباً ما أجدُ أوقاتاً عصيبة ـ بل ومفزعة ـ أحياناً لدى تناولي شأن مما ورد في متن الكتاب، ومردُّ ذلك إلى أن الرجل يسرد تفاصيل ومنمنمات صغيرة إن لم نقل دقيقة، أحارُ كثيرا في التعامل معها، ومع ذلك ارتضيت لنفسي ـ اليوم ـ وبمليء إرادتي، محاولة الاستزادة في مناقشة شخصية عليكى بطى ـ عليكى بتى ـ عَليكْ ـ كما كانت شائعة تسميته في حينه. وهو الذي أسّسَ ومهّد لمرحلة حاجو الابن، بعد رحيل حاجو الأب مغدوراً به على أيدي جنود الجيش العثماني وحلفائهم من الدكشوريين.
“الانتقام مثله مثل الصفح، أمرٌ شخصيّ، أمّا العدالة فليست كذلك، حيث أن القانون لا يتعامل مع أفراد”. هذا ما قاله تزفيتان تودوروف في كتابه : الأمل والذاكرة. وتأسيسا على فكرتي الانتقام والصفح، وما يفصل بينهما من مسافة الحدث المنتج لهما، عاش عَليكْ على فكرة الانتقام لابن عمه أولا، والاستمرار في قيادة المعارك ضد الجيش العثماني وحلفائه ثانيا، وكانت لحظة اغتيال حاجو هي ذاتها لحظة ولادة رمز بطولي كردي، كما يعرّفها إبراهيم محمود. وإذا كان التعريف في مكانه، فكيف يعّرف إبراهيم محمود عَليكْ نفسه؟. وهو يتكئ على مخزونه الثقافي، كما أنه يستنير بآراء مستشرقين وباحثين في التاريخ، في أحايين أخرى. فيقول: “في شخصية عليكى بتى يمكن المضي بالاسم إلى نقطة بعيدة في أفق الرؤية، وفي محيط جغرافي متداخل بقواه الحيّة”. هذه الشذرة تشي بالكثير الكثير من الحديث، الذي يمكن أن يُقال عن الرجل الذي أوجد لنفسه المكانة اللائقة في الذاكرة الشعبية، والتي امتدت لأكثر من قرن من الزمان، يتناقل الناس صغارا وكبارا مآثر بطولاته شفاهاً، كما لم يعدم المغنون الوسيلة للمساهمة في تخليده، إلى جانب العديد من الوثائق التاريخية، كزعيم قبائلي، ومقاتل عنيد، وقائد ميداني لا يُشقّ له غبار، كما يُقال. وهنا أستطيع أن أعطف مقولة لـ غوستاف لوبون على مقولة إبراهيم محمود:” لولا الحروب الأهلية في رومة لاستحال ظهور القياصرة”. وهذا ما يؤكد عليه إبراهيم نفسه حين يشير بذكاء المقولة مستدركاً أن اعتبار عليكى بتى حصيلة واقع من النوع الذي تم التنويه عنه، وكيف أن هذه الحصيلة ستكون بمثابة الخطوة الرئيسة في لفت الأنظار إلى هفيركان، والشخصية الكاريزمية الطابع، والتي بدورها شكلت تنويرا لحاجو الثالث، أو تحفيزا له ليخطو إلى الأمام بصورة المعروفة كسياسي. وهذا ما كنت أقصده تماماً بقولي: وهو الذي أسّسَ ومهّد لمرحلة حاجو الابن، بعد رحيل حاجو الأب.
أما فيما يخص المحيط الجغرافي وتداخل قواه الحيّة، فإنني أرى بأن أنقل هنا النص الكامل لتحليل المؤلف، حيث برع في نقل المشهد، ولا يمكنني أن أزيد عليه ، أو أن أقتبس منه، أو حتى أخوض فيه:” إنها القوى التي لا تنفصل عن محيطها الاجتماعي، مثلما أنها حصيلة مجموعة من العلاقات غير المتناغمة، جرّاء كل هذا الظهور لاسمه كما يعرّف به الآن، بدءاً من عائلته بالمعنى العام (عائلة عثمان )، وموقعه داخل عائلته باعتباره ينتمي إلى حسن الأول، وصراعه مع وسطه الاجتماعي والعشائري، ومن ثم مع الدولة، وهي وفي بنيتها عبارة عن مجموعة مؤثرات مزوبعة، إن جاز التوصيف، أي متعددة الاتجاهات، متداخلة ومتشابكة كذلك، ولا بدّ أن تحرّي أصول شخصية بمفهومها البطولي، ومن خلال معاينة وسط اجتماعي بالصورة السالفة، قد يضعنا إزاء حقيقة ذات صلة بموضوعنا الفرعي هذا، وهو أن عليكى بتى كشخصية تاريخية وشعبية نتاج تناقضات تمتد ما بين الحدّ الأدنى من الوسط الاجتماعي الضيق الذي كان يعيش فيه، والحد الأقصى من المجتمع وهو في تنوع إثنياته، وما فيه من تجاذبات سياسية واجتماعية، وعوامل نفسية.
خلاصة القول، أن عَليكْ وبقدر ما احتل تلك المكانة المرموقة شعبياُ، فشخصيته ذات أبعاد أخرى، فلها بعدها السياسي أيضاً، ولا يمكن إخفاء العديد من الأسماء لأناس شاركوه رحلته التي تم الحديث عنها، والتي قاوم من خلالها العثمانيين، مما جعل من شخصيته شخصية تاريخية تستوجب المزيد من البحث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*في عام 1896 أُغتيل حاجو الثاني بتحريض من زعيم الدكشوريين جمو، فانتقلت الزعامة إلى عليكى بطي وجلبي وهما من فرع العائلة الأصغر عمراً، ورغم أنهما كانا على خلاف دائم بينهما، فإنهما جمعا جميع الأفخاذ تحت سيطرة عائلتهما، فواصل عليكى الشجاع، ذو الجاذبية الشعبية، وبطل القرية الأسطوري، حرب عصابات ضد الحكومة لأكثر من عشرين سنة، وأقدم على قتل جمو بيديه انتقاما لمقتل عمه، وفي خلال الأيام المضطربة التي أعقبت هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، استولى على بلدة مديات وحاول أن يقيم حكومة مستقلة هناك، ويومذاك لم يكن مسيطرا على الغالبية العظمى من الهفيركانيين فحسب، بل على قبائل مجاورة أخرى أيضاً، وتطلع المسيحيون، الذين كانوا قد تعرضوا للقمع على أيدي الأتراك والقبائل الكردية الأخرى، أليه بصفته حاميهم، بل إنّ مقاتلين مسيحيين أشدّاء أسهموا في ازدياد نفوذه، وفي العام 1919 أُغتيل عليك في ظروف غامضة، فانهارت وحدة القبيلة. (مارتن فان بروينسن)