كمال أحمد
بقراءة متأنية لفصول الكتاب ، يظهر لنا مسار الرحلة التي خاضها الباحث ،إلى / وفي ..أعماق الذاكرة الكردستانية ، جاهدا وساعياً، الى التغلغل والولوج ، في شعاب هذه المزامير والاسفار التراثية ، ولم يكتف الباحث بجغرافية واحدة ، من جغرافيات كردستان المتشظية / بين تركية ، وعراقية ، وايرانية ، وسورية ، وارمينية روسية ، وحتى في شتات الدياسبورا ،بل سعى إلى لملمة وجمع هذا التراث المتشظي ، كتشظي الجغرافيا والديموغرافيا الكردستانية ، بما استطاع الى ذلك سبيلا،
ويتميز و يستمد هذا الكتاب البحثي ، أهميته ، و أهمية ما ورد فيه ، من مجموعة من الدواعي والحوافز ، القديمة / الحديثة .. ويمكن إيجازها ، وإيجاز البعض منها في إشارات وإضاءات عليها وهي :
(1 – هو سعي الباحث ، الذي يسكنه جواهر الهوية الكردستانية ، وهي سبيكة الامة الكردستانية ، قوامها ( اللغة ، والتاريخ، والفولكلور بالوانه ، وتجلياته المختلفة ، والذي يعبر ويوثق الحياة اليومية ، للأجيال الكردستانية المتوالية والمتعاقبة ، بطريقة التوارث والتواتر ، يرضعه جيل لاحق ، من جيل سابق ، كحليب الأمهات ) واستطاعت هذه الامة صيانتها والمحافظة عليها ، رغم حروب الإبادة والإلغاء والإقصاء ، سعي الباحث ، وبذل الكثير من الجهد كما أسلفنا في التوغل في جغرافيات كردستان المتشظية ، وجمع المتاح من هذا الفولكلور منها ، لذلك يعتبر من الدراسات ، والأبحاث الجديرة بالإهتمام ، خاصة بالنسبة للقارئ الكردستاني..
(2 – أشار الباحث في الخاتمة ، الى كمّ لا بأس به من المصادر والمراجع ( وبالإطلاع على قائمتها ، بلغت 87 مرجعا منها مراجع ومصادر باللغة العربية ، ومنها باللغة الكردية ، من مصادر أدب الفولكلور الكردي) وهذا يدل على الجهد المبذول من قبل الباحث للحصول عليها ،لكي يوثق و يبني عليها ، وينجز هذا العمل الادبي – التراثي الرصين والتي من خلالها ، توصلت الدراسة إلى نتائج، نعتقد أن بعضها جديدة و غير مسبوقة على الأقل في الدراسات الكردية باللغة العربية، فقد لاحظ البحث غنى أدب الفولكلور الكردي بأنواعه المتعددة، كالقصص الأسطورية و الملحمة و الحكاية الشعبية و الحِكَم و الأمثال و الغناء و الموسيقى و الأدعية و الطرائف و الأحاجي ، و يقابله شُحٌّ في الدراسات في اللغتين الكردية و العربية.
و لأول مرة في تاريخ الدراسات الأدبية و الفكرية الكردية، لاحظ البحث أن أغلب الأغاني الفولكلورية الكردية عن الحب كانت من إبداع المرأة و غنائها، و هذا يعبِّر عن إنفتاح المجتمع الكردي على المرأة و حريتها، و أن هذا الغناء غنيٌّ بالنزعة الإيروتيكيه، التي لم تُبتًذل، و لم تنحدر إلى التعبير البورنوغرافي المبتذل الخادش للحياء و للمشاعر عامة، فقد جاء التعبير عنها في إطار الرغبة، دون ولوجه الى الصور الحسية الفاقعة.
و لأول مرة حوى البحث على مقارنة سريعة، بين الثقافة الكردية و الثقافات المجاورة، و انتهى إلى أن الثقافة الكردية ليست مدينة لغيرها دائماً، بل أعطت غيرها الكثير مما لم يعره الباحثون الآخرون، كرداً أو عرباً أو فرساً أو تركاً ،ما يستحق الإهتمام و الدرس، فبالرغم من أن الثقافة الكردية إصطدمت بمحاولات المنع و الصهر و الانحلال، التي سعت إلى أن تفرض عليها التثقُّف بثقافة المجاورين ، منذ خمسة و عشرين قرناً، فإنها قاومت تلك المحاولات، و تفاعلت مع الثقافات الأخرى، و لاسيما ،التي تجمعها معها، المشاركة والمجاورة في الجغرافيا ، وكذلك الإرث والمعتقد الديني، فأخذت منها، و أعطتها..
3) – أظهرت ثورات ، أو إنتفاضات ، أو أزمات الربيع أو الخريف، أو الشتاء العربي ، وكل يلبسه العباءة أو الجلباب ، أو الثوب الذي يناسب مصالحه وأهواءه،!!! أظهرت هذه الثورات والأزمات والإنتفاضات ، وأظهر هذا الحراك ، و أماط اللثام عن ثقافة متجذرة لدى شعوب المنطقة ، من شركاء الأوطان والأديان ، بألوانها وأطيافها وشاراتها المختلفة ( القومية البعثية منها ، والناصرية ، وكذلك الاشتراكية اليساريه ، بما فيها ( سكر خفيف أو سكر زيادة ) وكذلك الإسلام السياسي ، المتطرف ، أو الذي يزعم الإعتدال والوسطية ) وإذا حاولنا التقيد بمنهج الموضوعية ، والحيادية ، وعدم التعميم ، بتناول الأحداث والمواقف التي أظهرها هؤلاء ، القوميون واليساريون والاسلاميون من شركاء الاوطان والأديان من الحقوق الكردستانية ، وخاصة بعد إستفتاء إقليم كردستان العراق ، وكذلك بعد إعلان الفيدرالية أو الإدارة الذاتية في روجآفا في سوريا ، اظهرت الغالبية العظمى من هؤلاء ، (إلاّ من رحم ربي منهم) موقفهم المعادي للحقوق المشروعة لهذا الشعب ، بل ذهب الكثيرين منهم ، وأنكروا وجود شعب بهذا الاسم وبهذه الهوية ، وظهر الكثير من النخب الممثلة لهذه القوى والفعاليات ، من الإعلاميين والكتاب والسياسيين ، في القنوات الفضائية ، ومن خلال البرامج الحوارية ، وكذلك من خلال مقالات الرأي في الصحف والمواقع الإلكترونية ، وحتى بعض الأكاديميين ، من الكتّاب ، بذلوا جهودا في البحث والتأليف ، جاهدين ، وملفقين ،ومزورين التاريخ ، وساعين من خلالها ،الى إنكار الهوية الكردستانية ، وإنكار الوجود المادي لهذا الشعب ، بل ووسمهم ووصفهم بأنهم أقنان مزارع، وعبيد خدمة، ومماليك حراسة وقتال ، ولا يتسع المقام لإيراد الأمثلة على ذلك ، وهي كثيرة ، وأعتقد أن القارئ الكريم مدرك ومطلع على ذلك ، اي أنّ الجهود المعادية للهوية الكردستانية ، كانت ملحوظة في ظهورها ،وحدّتها ،وسعتها ، وعمق مصادرها ، في تراث وموروث شركاء الأوطان والأديان . وخاصة فيما تقوم به سلطات الإحتلال التركي ، ومرتزقته من فصائل المتأخونين – المتأسلمين في منطقة عفرين ، إضافة إلى أعمال النهب والسلب وإنتهاك الكرامات ،تقوم بالتغيير الديموغرافي ، وذلك بتهجير، وكذلك منع العودة لسكان المنطقة من الأكراد من العودة إلى قراهم ومزارعهم ، و بإحلال عائلات المليشيات المرتزقة من العرب والتركما ن في منازلهم وممتلكاتهم ، و تقوم ايضاً بتغيير الهوية الكردستانية لإقليم عفرين ، وذلك من خلال إبادة الآثار والأوابد التاريخية ، وكذلك تغييرأسماء القرى والبلدات من كردية ، إلى تركية .وبعضها الى عربية …والاستنجاد ببعض الاعلاميين والكتاب المرتزقة ..بشأن تزوير تاريخ المنطقة ..والإدعاء بأن كرد سوريا ، هم جميعهم مهاجرين ، من كردستان تركيا..متجاهلين ، أرقم الآثار، ووقائع ومجريات تاريخ المنطقة ..
4) وبإستعراض فصول الكتاب نجده مترامي الأطراف والمناحي ، و أن الخيمة التي أراد الباحث من جمع ولملمة هذا الفولكلور تحتها ، كانت كبيرة وواسعة، ويمكن إلقاء الضوء عليها ، من خلال عرض فهرس المحتويات ، لإتاحة الفرصة للقارئ الكريم ، لإلقاء نظرة بانورامية على الأزهار المبدعة لهذه الخميلة التراثية ، أو على الفلذات والمعادن المنصهرة والمكونة لهذه السبيكة الهوياتية الكردستانية
5 ) – وحيث أن الباحث قد أشار في مقدمته التي مهدت للدراسة التي أدرجت ضمن أربعة فصول. جعلت الفصل الأول تأصيلاً للمصطلح، تحدثت فيه عن معنى الفولكور و أهميته، و عن الفولكلور و الشعب، و الفولكلور و الفكر القومي الكردي، و إستعرضت ما أمكن، آراء المفكرين و علماء الفولكور كلما دعت الحاجة.و خصصت الفصل الثاني للحديث عن أنواع أدب الفولكلور الكردي جمعاً و تسجيلاً، فبدأت بإستعراض أعمال الكردولوجيين الأجانب، ثم أعمال الفولكلوريين الكرد إبتداءً بالجيل الأول، الذي تمثَّل في شخصيتين إثنتين، ثم عرضت أعمال الفولكلوريين الكرد في روسيا و أرمينيا، و في كل جزء كردستاني على حدة.و تضمَّن الفصل الثالث، و هو لبُّ هذا العمل، دراسة أنواع أدب الفولكور الكردي، و لمَّا كان الرقص قريب الصلة بالغناء و الموسيقى، فتحدَّثت بإقتضاب عن الرقص الكردي أيضاً في هذا الفصل.
و اشتمل الفصل الرابع على مقارنة تحدثت فيها عن العلاقة بين الثقافة الكردية و الثقافات المجاورة، خرجت منها بنتيجة، لعلها تظهر للمرة الأولى في الدراسات الكردية سواء باللغة الكردية أو باللغة العربية، و هي أن ثمة مثاقفة بين الثقافة الكردية من جهة و الثقافات العربية و التركية و الفارسية من جهة أخرى، قبل ظهور مفهومَيْ التثاقف و المثاقفة في القرن الثامن عشر.
وحيث ، وكما أشرنا فيما سبق ، بأنّ الفولكلور ، هو من المكونات، والأيقونات الأساسية ، للهوية القومية الكردستانية ، نرى أنّه من المفيد إيراد بعض الأمثلة ، مما أوردها الباحث في كتابه البحثي الرصين هذا ، من خلال العرض، والإشارة الى بعض العناوين والبحوث ذات الدلالة، التي تشي يذلك فيما يلي :
.A – أهمية الفولكلور : ما سبق من تعريفات الفولكلور أو مضامينه ،يشير إلى الأهمية التي توليه إياه الشعوب و الأمم المختلفة.،و الفولكلور كما مرَّ سابقاً، هو جزء من تراث الأمة، يعبِّر عن فكرها و رؤاها وخيالها و أخلاقها و قيمها الاجتماعية .مما يعني أنه مرآة تعكس هويتها.
الفولكلور بجانبه الشفاهي ، مثل الأساطير و المعتقدات الدينية، والشعر الشعبي، و الحكاية ،و الحِكَم ،و الأمثال، و الطرائف ،و النوادر، و الأحاجي ،و السحر ،و التعاويذ ،و الرموز الرقمية، و الألوان و السِّيَر، و الموسيقى و أغاني العمل و الأعياد و المناسبات الاجتماعية و الرقص و الحركات التعبيرية و العادات و التقاليد (المتعلقة بدورة الحياة: الزواج و الولادة و الوفاة و غيرها)، و المعارف ( كالطب الشعبي ) و التصورات ( حول الجمادات و النباتات و الحيوانات ). و بجانبه المادي كالمنتجات المادية المحسوسة كالثياب المطرزة والحلي ( الزي الشعبي ) وأدوات الموسيقى، والطبخ، والحصاد، والأبنية والمساكن، والحرف الشعبية، ومجمل مستعملات الحياة الشعبية بشقّيها الروحي والمادي. هو جزء من الذاكرة القومية للأمة، و هو وفق ما يقول الدكتور أحمد محمود الخليل “من أهم عوامل تجانس المجتمع، و الممثِّل الأكثر صدقاً لروح الشعب، و فيه يتجلَّى قدرٌ كبيرٌ من أصالته و شخصيته العفوية، و إن إقبال الشعوب على فولكلورها هو أحد أشكال تقمُّص أرواح الأسلاف، و التمسُّك بالهوية الوطنية و القومية. و هو بمعناه الاجتماعي جسر يربط بين المرء و الآخر، و بين المرء و الجماعة التي ينتمي إليها، و بين الجماعة و الجماعات الأخرى، التي تتشارك بخصائص مشتركة، و هو المرآة التي تعكس حياة الشعوب و تاريخها، و عاداتها و تقاليدها و خبرات أفرادها الفكرية، و يحافظ على لغتها و هويتها الوطنية و القومية من الضياع. يقول الباحث روهات آلاكوم: “الفولكلور بالنسبة للمجتمع كالمرآة، يستطيع المرء، بواسطة هذه المرآة، معرفة المجتمع على أفضل وجه. يستطيع من خلالها الإبحار بسهولة إلى أعماق القرون الماضية. و من جهة أخرى، يمكن أن يكون الفولكلور أساساً متيناً، و خزينة غنية للغة و الأدب الحديث. و هذا ما يذكِّرنا بقول الأديب الروسي الكبير مكسيم غوركي الذي قال: “إن أساس الأدب يكمن في الفولكلور، أي أدب الشعب، و الفولكلور مادة خام كبيرة، و هو مصدر و مَعين لجميع الشعراء و الأدباء. و إذا فهمنا الماضي جيداً، كان نتاجنا الحالي رائعاً جداً، و سنفهم آنذاك بدقة أهمية الفولكلور، والفولكلور، حسب ألكسندر كراب، “هو السلف المنشئ المباشر الذي تشكَّل منه الأدب.
لقد أثمرت وصية غوركي على يدَي الشاعر المعروف رسول حمزاتوف، الذي اتجه إلى لغته الأم (اللغة الآفارية)، التي كان عدد المتكلمين بها حينذاك لا يتجاوز ثلاثمائة ألف، و اتكأ على فولكلور قريته الصغيرة، فأبدع أدباً عظيماً، سرعان ما تمت ترجمته إلى اللغة الروسية، ثم إلى اللغات الأخرى. لقد ولج حمزاتوف إلى العالمية من خلال قريته البعيدة و الصغيرة.
و انطلاقاً من هذه الأهمية سعت الدول الاستعمارية، بغية تشديد قبضتها على الشعوب، إلى معرفة حياة الشعوب المستعمَرة، و عاداتها و تقاليدها، و أنماط تفكيرها و أساليب حياتها. و هذا ما دفع المستشرقين إلى بذل جهود جبارة في جمْع و دراسة فولكلور الشعوب لأغراض استعمارية، إلا أن دراسات بعضهم في هذا الميدان كانت بهدف الاستفادة من الماضي لبناء الحاضر و إغناء الثقافة الإنسانية.
لقد لفت الفولكلور انتباه مختلف الشعوب و الأمم، و هبَّ مفكروها إلى جمْع مواده و دراستها، و لعل الأخوين جريم (ياكوب و فيلهلم) الألمانيين يأتيان في مقدمة هؤلاء، فقد عملا ، و خاصة في فترة الغزو الفرنسي لألمانيا في القرن التاسع عشر، دون كلل في ميدان الثقافة الألمانية، و جمعا قدْراً هائلاً من مواد الفولكلور الألماني، فحفظاه من الضياع. و كذلك لجأ الفينلنديون إلى الفولكلور بغية إحياء وجودهم الحضاري و بناء شخصيتهم الثقافية، بعد أن حاول الاستعمار السويدي، و بعده الاستعمار الروسي أن يصهرا الشعب الفينلندي، كلٌّ في بوتقه.
و من هنا يشير المستشرق الروسي “باسيلي نيكيتين”، إلى أهمية الفولكلور، من خلال إشادته بالفولكلور الكردي عند دراسة الأدب الكردي إذ يقول: “إن أي دراسة و تحقيق في الأدب الكردي ينبغي أن يكون قبل كل شيئ، و على وجه الخصوص، لفولكلور هذا الشعب الذي يقتات ليس فقط بالإسهامات البالغة الغنى للأجيال الماضية، بل إنه يحمل في ذاته اليوم أيضاً قوة حيوية و طاقة خلاقة تحير الألباب، و هذه الطاقة و القوة في تجدد مستمر، بل إنه يضيف إلى غناها و ازدهارها المزيد باقتباس المواضيع الفولكلورية من الأمم الجارة ، والمجاورة و يصهرها في بوتقته الكردية.
تأتي أهمية الفولكلور من إرتباطه الوثيق بحياة الشعوب، فهو بما يحويه من مأثورات شعبية، يشكل نواميس اجتماعية تعبِّر عن علاقة إنسانية مع البيئة و المجتمع، ما يمكن المرء أن يقول إن فولكلور الشعوب و الأمم هو تاريخها الصحيح، ذلك لأن التاريخ بشكله الكلاسيكي يميل إلى القادة و الطبقات الأرستقراطية، و هو كذلك في ميدان الفنون أيضاً، إذ يلفت الانتباه فقط إلى ثمرات الفنون في أشكالها الراقية، أي إلى نتاج النخبة. بينما الفولكلور، هو سِجلُّ تاريخ المجتمعات الشعبية، كما تمثله أحداث العامة من الناس، و ذلك بإنبثاقه من هؤلاء العامة.
تؤكِّد المستشرقة الفرنسية جويس بللو، حقيقة ارتباط التاريخ بالطبقات السائدة و العليا ،حين تذهب في بحثٍ لها عن تاريخ الأدب الكردي إلى أن هذا الأدب كان يُقرأ فقط من قِبَل المدنيين (أي سكان المدن، و هي تقصد المثقفين)، أما أدب غالبية المجتمع الكردي، الفلاحين و الرُّحَّل، فكان ينتقل شفاهاً. و قد أشار لافارج، وهو أحد الفولكلوريين الماركسيين الأوائل، بل أكَّد “من خلال تحليل مواد الفولكلور عن أهميتها بالنسبة لتاريخ مركز المرأة في العائلة و المجتمع.
يتضح مما سبق أن “الفولكلور يرتبط بحياة الشعب، و بطقوسه و عاداته و تقاليده، و على صفحته تنعكس خصائص مختلف المراحل التاريخية، لذلك نرى علوماً أخرى ينصب اهتمامها على الفولكلور، كعلوم اللغة و الأدب و الأجناس و التاريخ، بحيث يتعامل كل علم مع الفولكلور بمنظار تخصصه، فعلم اللغة يتناول الكلمة في الفولكلور، وتاريخ اللغة التي تتراءى فيه، وعلاقتها باللهجات، أمّا الأدب، فيدرس السمات العامة للفولكلور والفرق بينه وبين الأدب المدون، وعلم الموسيقى يدرس العناصر الموسيقية والمسرحية في الفولكلور، وعلم الأجناس يتعرض لدور الفولكلور وآثاره في حياة الشعوب وارتباطه بالطقوس والتقاليد، وعلم التاريخ يبحث في الوعي الشعبي لتفهم الأحداث التاريخية التي يعكسها الفلكلور أو التراث الشعبي بصفته ذاكرة الأجيال و هويتها. و من هنا يمكننا القول مع الدكتور أحمد محمود الخليل: “إن من يدير ظهره إلى تراثه الشعبي، إنما يدير ظهره إلى هويته.
B ) -الفولكلور و الفكر القومي الكردي: تبين فيما سبق، أن الفولكلور مرتبط أيما ارتباط بالمجتمعات البشرية، و يثمِّن الفينلنديون “الكاليفالا” تثميناً عالياً و يعتبرونها الوسيلة التي عرَّفت الآخرين بهم. و أن علماء الفولكلور الألمان و غيرهم بحثوا في الفولكلور عن روح الشعب.
و تبين أيضاً أن الدراسات الفولكلورية إنما بدأت في أوروبا تحت تأثير الحركة الرومانسية القومية. و هو الأمر الذي يؤكده عالم الفولكلور ويليام آ. ويلسون إذ يقول: “كانت الأعمال الفولكلورية منذ البداية مرتبطة بالحركات الرومانسية القومية، و بالتزامن مع هذه الحركات بدأ الباحثون الوطنيون بإنجاز الدراسات الفولكلورية، التي لم تكن غايتها الكشف عن كيفية معيشة الأقدمين فحسب، بل كانوا يطمحون إلى الكشف عن النماذج التاريخية ليبنوا عليها الحاضر، في سعيهم إلى بناء المستقبل.و يقول ريتشارد دورسون: “كثيراً ما تتفاعل العلاقة المشتركة بين الفولكلور و الروح القومية. و من هنا يمكن القول إن الفولكلور و القومية مفهومان مترابطان.
إذاً، يمكن للمرء أن يذهب إلى أن الفولكلور يشكل عنصراً مهماَ من عناصر الفكر القومي، و هو عنصر غابت معرفة قيمته عن الكرد بسبب تجزئة وطنهم منذ أمد بعيد و ضمه إلى جغرافيات دول مختلفة فكراً و لغة، فلم يستدركوا هذه القيمة إلا متأخراً. و من المحزن أن المتنوِّرين الكرد لم يتفاعلوا مع صرخات أحمد خاني، الذي أشار في ملحمته “مَمْ و زين” قبل أكثر من ثلاثمائة عام إلى أهمية دور اللغة و التاريخ في الفكر القومي قبل أن يعمل المفكرون الغربيون في هذا الاتجاه ،ولم تجد نداءات خاني صدى لدى المتنوِّرين الكرد إلا متأخراً، و كان ذلك بفضل القنصل الروسي ألكسندر( آڤكوست ) ژابا، في أرضروم بين عامي (1848 – 1866)، الذي لفت انتباههم إلى ضرورة البحث و التنقيب عن مواد الفولكلور و جمعه، و شكّل منهم فريقاً لهذه الغاية، لعل ملا محمود بايزيدي كان أبرزهم، فدوَّنوا “مخطوطات كثيرة كان بينها مخطوطات في قواعد اللغة الكردية، و مواد فولكلورية و تاريخية و إثنوغرافية و أدبية، ولكن تلك الجهود اقتصرت على الجمع و التدوين دون أن ترافقها الدراسات المعمَّقة.
لقد إشتد ظلم الدولة العثمانية، قومياً وإجتماعياً في أواخر عهدها، ما أدى إلى نشوء حركات تحرر الشعوب و الأمم التي كانت خاضعة لها، إنْ في البلقان أو في البلاد العربية و بين الأرمن والكُرد، و كان من نتيجة ذلك أن قاد بعض المتنورين الكُرد نشاطاً سياسياً و ثقافياً، أسفر عن صدور صحف كردية باللغتين الكردية و العثمانية، مثل صحيفة “كردستان” التي أصدرها مقداد مدحت بدرخان في القاهرة بين عامي ( 1898- 1902) و صحيفة “التعاون و الارتقاء” التي أصدرتها جمعية التعاون و الارتقاء الكردية” عام ( 1908)، و مجلة ” شمس الكُرد”عام (1909) و “الاتحاد” عام (1913) و “يوم الكُرد” عام (1913).و جميعها، باستثناءصحيفة “كردستان” صدرت في القسطنطينية / استانبول.
إلا أن بعض المتنوِّرين الكرد آنذاك “بدلاً من أن يتحدثوا عن الهوية الكردية، كانوا يعتبرون أنفسهم عثمانيين ، ينقل الفولكلوري آزاد أصلان من العدد السادس لصحيفة ” كردستان ” أن عبدالرحمن بدرخان رئيس تحرير الصحيفة، بعد أخيه مدحت كتب: “بالنسبة لكل مسلم، يجب أن تبقى الدولة العثمانية، إن جسم الدولة كما رأينا مريض بسبب سوء الإدارة، يجب علينا أن نداوي هذا الجسم، نزيل أسباب المرض،، فحياة الدولة حياتنا، و موتها موتنا !!!. كما هو واضح لم يضع عبدالرجمن بدرخان حدوداً بين الكُردايتي و العثمنة، بل يرى حماية الدولة العثمانية و بقاءها واجباَ، و على الكردي أن لا يتخلف عن أدائه. و يرى آزاد أصلان أن موقف صحيفة “التعاون و الارتقاء” لم يكن يختلف عن موقف ” كردستان “. فقد كتب اسماعيل حقي، وهو أحد مؤسسي جمعية ” التعاون و الارتقاء ” في العدد الأول قائلاً: ” الكُرد قبل كل شيئ مسلمون، ثم عثمانيون، ثم كُرد”. وهو موقف يضع الكُردايتي في الموقع الثالث بعد الدين و العثمنة.(( وهذا يدلل على مدى إستغلال شركائنا في الأوطان والأديان …الدين …في إستعمارنا ومن ثم اضطهادنا ..والسعي الحثيث إلى محونا وإبادتنا) )
يتكرر هذا الموقف لدى بعض كُتَّاب مجلة “شمس الكُرد”، فقد كتب نجم الدين كركوكلي في العدد الأول قائلاً: “تعمل جمعية “هيفي” و صحيفة “شمس الكُرد” على تنوير الشعب الكردي، لكي يكون عنصراً فعًّالاً في الدولة العثمانية. يتبين مما سبق أن هؤلاء المتنورين الكُرد، حينذاك، لم يكونوا على علم، لا بأعمال ألكسندر ژابا، و ملا محمود بايزيدي و لا بالحركات القومية التي هزَّت أوروبا في القرن التاسع عشر، و لا بجهود المتنوِّرين العرب و الغربيين في الميدان الثقافي و الفولكلوري.
ولكننا نرى تغيراً كبيراً بداً يطرأ على الحركة الثقافية الكردية مرافقاً لتلك المواقف، و تخطو خطوات ملموسة، فلم تعد ترى نفسها مرتبطة بالدولة العثمانية، بل تتجه نحو الاستقلالية الكردية، التي تشكل البنية الفكرية و السياسية للحراك الكردستاني.
لقد رأينا سابقاً، أن المتنورين الكُرد أصدروا في ما بين عامي (1898 و 1913) مجموعة من الصحف، ونشر الرئيس الأمريكي ويلسون مبادئه الأربعة عشر عام (1918)، التي عُرفت في التاريخ بـ”مبادئ ويلسون الأربعة عشر”، و التي كان لها صدى واسع في العالم، و جذبت اهتمام الشعوب و الأمم المُستعمَرة، و خاصة البند الثاني عشر، الذي وضع حق تقرير مصير الشعوب و الأمم الخاضعة للدولة العثمانية في أيدي تلك الشعوب نفسها.
لعل لهذه المبادئ، و للحركة الأرمنية و حركات شعوب البلقان و الشعوب العربية التي كانت خاضعة للدولة العثمانية، و لسياسات الاتحاديين الترك القومية، وانهيار الدولة العثمانية نهاية الحرب العالمية الأولي (1914– 1919) و قبلها الحركات القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر. لعل كان لكل ذلك تأثيره المباشر في حركة التنوير الكردية، فظهرت مجموعة من المتنورين الكُرد، يدعون الكُرد إلى الإقبال على دراسة التاريخ الكردي و البحث فيه. و كان هذا دافعاً لهم لأن يتفاعلوا مع تاريخ الكُرد و كردستان باهتمام كبير، و ظهر هذا الاهتمام خلال مقالات نُشِرت في الصحف آنذاك، فقد كتب أحدهم باسم (كردي بدليسي) في العدد الأول من صحيفة “ژين / الحياة”، التي صدرت عام (1919) مقالة تحت عنوان “اسطورة ضحَّاك” المعروفة لدى الكرد، تحدَّث فيها عن انتصار (كاوا) الحداد على الطاغية و إعلان يوم الانتصار باسم “نوروز” بمعنى اليوم الجديد، عيداً وطنياً للشعوب الإيرانية بمن فيهم الكُرد، و ثمة مقالة أخرى في العدد السادس عشر من الصحيفة نفسها ترى ضرورة البحث عن “أيامنا الخاصة”، أي أيام الانتصارات و الانكسارات، ليتم تثبيتها و إحياؤها، مما يدل على أن متنوِّري تلك المرحلة اتجهوا نحو الدراسات التاريخية و الفولكلورية و إحياء التاريخ الكردي.
ثمة مقالة أخرى للكاتب يامولكي زادة منشورة في العدد الخامس من صحيفة ” ژين / الحياة” هذه المقالة تتحدث عن الخصائص الأساسية لمواقف المتنورين الكُرد في تلك المرحلة حول تاريخ الكُرد. و تعيد إلى الأذهان ما قدمه الكُرد إلى الحضارة البشرية، و انطلاقاً من ذلك، فإنه ليس من الصعوبة أن يستعيدوا دورهم الحضاري، و يبنوا دولة لهم.
كانت إعادة “إحياء الثقافة الكردية” أحد أهداف تلك الصحيفة، و لذلك تنوعت موضوعات مقالاتها، بين الفولكلور و التاريخ و الأدب، مثل رائعة. أحمد خاني “مَمْ و زين” و القصص و الشعر، مما يدل على أن كُتَّابها كانوا قد أدركوا أن الثقافة عامة، أقصد الفولكلور، و اللغة و الأدب، أهم أعمدة الهوية القومية.
لعل المتنوِّر عبدالله جودت (1869 -1932) أحد أولئك الذين نادوا بالبحث في التاريخ الكردي، فهو يرى أن “أمة لا تاريخ مكتوباً لها، كأنها لم تعش ، و لهذا قال: “على الرغم من الصعوبات التي تواجهنا، علينا أن نجمع عناصر الثقافة الكردية و ننشرها في كتب مطبوعة. و يكتب المتنوِّر كمال فوزي في الصحيفة نفسها سلسلة مقالات عن بعض أنواع أدب الفولكلور الكردي، مركِّزاً على القيمة القومية والتاريخية لهذه الأنواع، من حيث أنها تتضمَّن حقائق تاريخية، شرط أن تكون دراستها على ضوء المناهج العلمية. و هذا ما يوحي بتأثُّره بأعمال الفولكلوريين الغربيين.
و لعل بتأثير كل ذلك أيضاً، تأسست “جمعية كُرد تعميمي معريفت و نشريت / الجمعية الكردية للنشر وتعميم المعرفة” عام (1919). التي يعتقد مؤسسوها أنه “لا يمكن تحرير الشعوب و الأمم بالنضال السياسي فقط، بل لا بد من النضال الثقافي و الأدبي و التربوي وفق الأسس و المناهج العلمية ، و من هنا ركزت الجمعية في برنامجها الذي نشرته في العدد العاشر لصحيفة “ژين / الحياة” على دور الفولكلور و التاريخ و اللغة في إحياء الروح القومية لدى الشعوب، وفق ما جاء في البرنامج المذكور ، وفي متن البنود التالية:
“البند الثاني: تتطلع الجمعية إلى طبع و نشر دواوين الشعراء و مؤلفات المؤلفين باللغة الكردية…..البند السادس: تنشر الجمعية مجلة خاصة بالأمثال و الحِكَم، بحيث يكون لأمثال اللهجات المختلفة ركنها الخاص….البند السابع: تجمع الجمعية المعلومات المتعلقة بالعادات و التقاليد الكردية، بالإضافة إلى القصص و الأغاني الشعبية. …البند التاسع: ستترجم الجمعية الكتب التي كتبها الباحثون الغربيون و الشرقيون عن الشؤون الكردية و تنشرها. ..البند العاشر: ستنشر الجمعية أعمال (مؤلفات) الكُرد قديماً و حديثاً….البند التاسع عشر: تعمل الجمعية من أجل تأسيس متحف تُعرض و تُحفظ فيه الأعمال اليدوية التي يصنعها الرجال و النساء و جميع الأدوات المصنوعة في مختلف المدن و المناطق.
مما تقدم يتبين لنا أن عمل المتنورين الكرد في ميدان الفولكلور و الدعوة إلى جمعه و تصنيفه و دراسته، و إحياء التاريخ الكردي بدأ مع تفتُّح الوعي القومي لديهم، و خاصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، و كان ذلك نتيجة تغييرات أصابت المنطقة ككل أثناء احتضار الدولة العثمانية و بعد انهيارها.
C ) – الثقافة الكردية و الثقافات المجاورة
نقصد بالثقافات المجاورة الثقافات العربية و التركية و الفارسية، و هي التي وجدنا أصداءها تُتَردَّد في أدب الفولكلور الكردي، حيث نجد تماثلاً شديد الوضوح بين الثقافة الكردية وثقافات هذه الشعوب المجاورة، و خاصة في ميدان الأدب الشعبي الشفاهي ولا سيما في الأمثال و الحكم والقصص الأسطورية و الحكايات الشعبية. ففي ميدان الحكم و الأمثال، وقد أتينا سابقاً ببعض الأمثلة، يقول الكرد “ما يزرع المرء يحصده”. يرد هذا المثل لدى العرب مبنىً و معنىً، فيقولون: “ما تزرع تحصد”، و يرد لدى الفرس أيضاً، إذ يقولون: “هر كسى آن درود عاقِبت كار كَه كَشت”، و يرد لدى الأتراك بالمعنى نفسه، إذ يقولون: “نَـ أَكَرْسن أونو بيـچَرسن”.„Ne ekersen onu Biçersin“
و يقول الكرد: “تفسد المياه في البحيرات الراكدة”( )، و هو يرد لدى العرب أيضاً، و نجد هذا المثل بالمعنى نفسه لدى الفرس، إذ يقولون: “آب یه جا بمونه میگنده”….يقول الكرد: “مدَّ رجليك بقدر لِحافك”( ). يرد هذا المثل لدى العرب مبنىً و معنىً، و يرد لدى الفرس بالمعنى نفسه، إذ يقولون: ” پا را به اندازه گلیم خود دراز کن” ….يقول الكرد: “ليس العقل في الصِّغَر أو الكِبَر”، فيرد هذا المعنى لدى الأتراك أيضاً، إذ يقولون: آكيل ياشتا دَغيلباشْتاديرْ
” العقل في الرأس، و ليس في العمر.Akil yaşta değil baştadir” ….و ثمة أمثال تُتردَّد لدى الكرد و العرب مشتركة في المعنى مع اختلاف في الكلمات، من مثل قول الكرد “ينادي العطار على ما لديه”، فيرد هذا المثل لدى العرب في قولهم “الإناء ينضح بما فيه” .
و يقول الكرد في المرء الذي يسبب الأذى لنفسه: “يحفر الخُلد (الفأر الأعمى) التراب، و يقلبه فوق رأسه”، فيرد هذا المثل لدى العرب بالمعنى نفسه، و لكن باختلاف في الكلمات “يداك أوكتا، و فوك نفخ”، بمعنى: أنت السبب لِما صرت إليه، أو لِما أنت فيه، أو أنت من جلبت ذاك لنفسك.
لا يقتصر هذا التماثل على الأمثال و الحكم فحسب، بل نرى دائرتة تتسع في جانب آخر، فمثلاً يقول الكرد في معرض الدعاء بالشفاء للمريض “درباز بويي بةْ “، و بالمعنى نفسه نقول في العربية / اللهجة السورية “عليك العافية”، و يرد هذا الدعاء لدى الأتراك بالمعنى نفسه تماماً، إذ يقولون ” كَچميش أُلسون ” (يلفظ حرف الكاف كالجيم في اللهجة المصرية). هذا الدعاء يرد بالمعنى نفسه لدى الأرمن و اليونانيين و الألبان أيضاً. و إذا تذكرنا أن هذه الشعوب جميعاً كانت في يوم مضى خاضعة للدولة العثمانية، نستطيع أن نرد هذا التشابه إلى العامل العثماني.
نرى هذا التشابه في المقدمة التقليدية للحكاية الشعبية أيضاً، فالكرد يفتتحون حكاياتهم الشعبية بما معناه في العربية حرفياً (ما كان و ما لم يكن) فيقولون: ” چهْ هَبوو، چهْ تُنَبوو “. أو ” هَبوو تُنَبوو”. „ Ҫi hebû, çi tune bû. أو Hebû, tune bû “ …العرب يقولون “كان يا ما كان”، و ترد لدى الفرس أيضاً، و الأتراك يقولون: ” نه ڤار، نه يوك”. “Ne var ne yok” ….بالإضافة إلى هذه الشعوب و الأمم المجاورة، و التي تتشارك في الثقافة الإسلامية، و بينها صلات تجارية و زيارات لا تنقطع، و علاقات اجتماعية كالمصاهرة مثلاً، نجد هذه المقدمة التقليدية في الثقافة الألمانية أيضاً، إذ يقولون: ” إسْ ڤارْ أيْنْ مالْ.” بمعنى: حدث أو كان ذات مرة “. …”.Es war ein Mal “
و رأينا في ما سبق، عند الحديث عن الحكاية، أن قصة “الأسد و الثيران الثلاثة” متداولة في الثقافتين الكردية و العربية، مع استبدال الأسد بالذئب في النموذج الكردي، و رأينا أيضاً أن”الخضر”، العبد الصالح، يرد في الديانة الأيزيدية، و هي ديانة كردية، و رغم وروده في الديانات السماوية الثلاث، إلا أن الأيزيدية أقدم منها جميعاً. إن البحث مطوَّلاً في هذا التماثل الثقافي ليس من أهداف هذه الدراسة، ولكنه موضوع جدير بالدرس و التحليل، ربما نعود إليه في قادم الأيام، و هو ناجم ربما عن تشابه تجارب الشعوب و الأمم.
ثمة تشابه من نوع آخر بين الموروث الثقافي الكردي و الموروث الثقافي لدى شعوب أخرى، نجده في سيرة أحد الشخصيات الرئيسية في قصة “أمير بوتان” و بعض سيرة “يوسف” عليه السلام و قصته مع زليخة زوجة عزيز مصر”.
أحد الشخصيات الرئيسية في هذه القصة هو “سَرْكان” و هو أحد أخوين، هما ولدا الأمير الذي كان قد تزوَّج أمهما سراً في مكان ما دون أن يعرِّفها بكونه أميراً، و أعطاها خاتماً و سِواراً، بعد أن نقش اسمه عليهما، وأوصاها أن تضع الخاتم في اصبع الوليد القادم إن كان ذكراً، أما إن كانت أنثى، فتضع السوار في معصمها، و تركها لدى ذويها، و قفل عائداً إلى إمارته و قصره.
وضعت المرأة توأمين كلاهما ذكر، فأطلقت اسم “سَرْكان” على أحدهما، و وضعت الخاتم في اصبعه، وعلى الآخر اسم “ژيندار” و وضعت السوار في معصمه. بعد أن كبر الأخَوان، اختلف “سَرْكان” مع أحد الفتيان ، و ضربه، فجاءت أمه، و أنَّبته و عيَّرته بأن أباه غير معروف، فما كان من الأخوين إلا أن يمضيا بحثاً عن أبيهما، فأضاع كل منهما الآخر في المدينة. ……التقى “سَرْكان” بائع حلوى، لا أولاد له، فتبناه و صار يعمل معه في متجره لبيع الحلوى. تقول القصة إنه كان شاباً وسيماً جميل المحيَّا، و انتشر خبر جماله في المدينة، فصار الناس يتهافتون على شراء الحلوى لا رغبة فيها، بل في أن يرَوْا الشاب الجميل و الوسيم. و تناهى خبر جماله إلى سَمْع ابنة الوزير، و كان قصره غير بعيد عن متجر بائع الحلوى، فكلَّفت شخصين بحفر نفق يمتد من قصر أبيها إلى المتجر، لتتمكَّن الذهاب من خلاله لرؤية الفتى، و هذا ما حدث.
و لما علِم الوزير بأمر النفق و الفتى و ابنته، أمر بإحضاره إلى قصر الأمير لمعاقبته، عندئذ وقعت عينا الأمير على الخاتم في اصبعه، فعرف أنه ابنه، ولكنه لا يستطيع أن يبوح بسره، و لكي ينقذ ابنه، أمر بأن يعاين أشخاص مختصون النفق، فإن كان محفوراً بدءاً من المتجر باتجاه قصر الوزير، يكون الشاب مذنباً، و يستحق العقاب، أما إن كان محفوراً بدءاً من القصر نحو المتجر، فيكون هذا من تدبير ابنة الوزير، و دليلاً على أنها تحبه، و عندئذ يستحقان أن يتزوًّجا……يتم الكشف على النفق، فيتبيَّن أنه محفور بدءاً من قصر الوزير. عندئذ يُعقَد لـ “سَرْكان” على ابنة الوزير، و يعيشان في قصر الأمير. و بعد ذلك يجد أخاه “ژيندار”، و يأتي به ليعيش معهم في قصر الأمير. و تنتهي القصة بأن يصارح الأمير ولديه، فيحضران أمهما و يعيش الجميع معاً.
ثمة تشابه بين القصتين، يظهر في سيرة كل من النبي “يوسف” عليه السلام و “سَرْكان”. كلاهما جميلٌ و و سيمٌ، و ينتشر خبر جمالهما في المدينة، تُدعى النسوة الأرستقراطيات إلى قصر الملك لرؤية “يوسف”، و يجتمع الناس أمام متجر بائع الحلوى لرؤية “سَرْكان”، و إذا كان “يوسف” ابن نبيٍّ، فإن “سَرْكان” ابن أمير، بمعنى أن كليهما ينحدر من أسرة عريقة، كلاهما تعرّض لمحنة، “يوسف” أُلقِيَ به في بئرٍ، و “سَرْكان” تاه في المدينة، كلاهما اجتاز المحنة، و ارتقى مكاناً مرموقاً، كلاهما تعرَّض لحب و أحابيل النساء،و تبيَّنت براءة كليهما بالطريقة نفسها، فبراءة “يوسف” ظهرت من خلال تمزيق قميصه من الخلف، أي كان مطارَداً من المرأة التي أحبَّته، و براءة “سَرْكان” ظهرت من خلال حفر النفق بدءاً من قصر الوزير، حيث تقيم ابنته، نحو المتجر، حيث يعمل “سَرْكان”،أي لا ذنب له في حفر النفق، النساء الأرستقراطيات إذ يَرَيْن “يوسف”، ينبهرن به، فيقطعن أصابعهن سهوة بدل الفاكهة، و الناس يجتمعون أمام المتجر، و يشترون الحلوى لا رغبة فيها، بل رغبة في رؤية الفتى الوسيم، “يوسف”، وجد أخوته و أحضر أباه ليعيش معه في قصر المملكة، و “سَرْكان” و جد أباه و أخاه، و أحضر أمه ليعيش الجميع في قصر الإمارة معاً. ….و يبدو التشابه في سِيرة بطل قصة فولكلورية كردية أخرى، هي قصة “زَمْبيلفروش /بائع السِّلال” و سِيَر كل من النبي يوسف عليه السلام و بوذا، مؤسس الديانة أو الفلسفة البوذية. لقد وقف الباحث الكردي رمضان آلان عند هذا الأمر في مقالة له نشرها في العدد الثاني من مجلة ” ڤار” في خريف عام (1997) في استانبول.
“زَمْبيلفروش” قصة فولكلورية كردية معروفة في جهات كردستان الأربع، و لها روايات متعددة و شغلت أدباء و شعراء و باحثين كُرداً كثيرين، فكتبوا عنها دارسين و محللين،و انتقلت إلى الأدب المدوًّن بريشة الشعراء فقي تيران (1563 -1650) و ملا باتَيِي (1675 – 1760) و مراد خان بايزيدي (1737 – 1794) و فيريك أُوسيڤ (1934 – 1997).
أحداث القصة تدور حول ابن أحد الأمراء، اسمه “محمد أمين”، تلقَّى تربيته و تعليمه في قصر ابيه الأمير. خرج ذات يوم إلى الصيد، يرافقه مستشاره أو أحد وزراء الإمارة، و أثناء العودة رأى جمجمة بشرية بجانب قبر مفتوح أو حفرة في مقبرة، و لم يكن يعرف شيئاً عن الموت و أموراً أخرى كثيرة ، فسأل مرافقه عنها، فأجاب إنها جمجمة شخص مات منذ زمن، فأعاد السؤال هذه المرة عن الموت، و عما إذا كان موت صاحب تلك الجمجمة عن جوع. عندئذٍ حدثه مرافقه عن الفقر و الغنى، عن الحياة و الموت، عن القيامة و الحساب، عن الجنة و النار و عن مساواة الموت بين جميع الناس، فقيرهم و غنيِّهم، و ما إلى ذلك. لم ينم ذاك الفتى ليلته تلك، بل ظل يفكر بما حدَّثه به مرافقه، و عندما حلَ الصباح، لم يجده أهله و خدمه في القصر.كان الفتي قد ترك قصر الإمارة، و ارتدى ثياب الدراويش، و ذهب في سبيله يبحث عن عمل ليعيش من كدِّه و عرق جبينه……رأى في طريقه ناساً يجمعون عيدان القصب، و يصنعون منها سلالاً، يبيعونها في القرى و المدن، و يكسبون بذلك قوت يومهم، فانضم إليهم، و تزوَّج منهم، و راح يجمع العيدان مثلهم، و تعلم منهم صنع السلال، وصار يتنقَّل بين المدن و القرى، ينادي على بضاعته، و اكتسب لقب “زَمْبيلفروش” من عمله هذا، فهو ليس اسمه.
كان هذا الرجل وسيماً كما تقول القصة، و كان صوته عذباً. بعد سنوات كثيرة، وبينما كان ذات مرة ينادي على بضاعته في مدينة “فارقين”، و يمرُّ من جانب قصر الأمير، تسمعه ” گلخاتون” زوجة الأمير، فتعشق صوته، فترسل بعض الخدم، لإحضاره إلى القصر بدعوى أن الأمير يريد أن يشتري سلالاً.
لم يكن الأمير يومها في القصر، و لم تكن غاية زوجة الأمير شراء السلال. بل كانت تريد استمالته، و كسبه إلى جانبها، و طالبته بأن يخلع ثيابه، إلا أن الرجل، كان تقياً يخاف الله، و يمتثل لطاعته، فقد رفض الأمر، عندئذٍ حبسته زوجة الأمير في إحدى غرف القصر، في الطوابق العليا.
فضَّل الرجل الموت على الزنى، و صمم على أن يلقي بنفسه من الأعلى إلى الأسفل، فمال إلى الحيلة، و طلب أن يتوضأ للصلاة، فربطت زوجة الأمير رجله بحبل، و جعلت طرف الحبل في يدها، كي لا يهرب، إلا أنه بعدما صار في الحمام، حلَّ الحبل من رجله، و ربط الإبريق به، و قفز من الأعلى نحو الأسفل،(هنا تختلف الروايات، فتذهب إحداها إلى أنه تمزَّق إرباً إرباً، بينما تذهب رواية أخرى إلى أن الملاك جبرائيل أمسك به و وضعه على الأرض سالماً)، و هرب إلى بيته، و حين علمت زوجة الأمير بذلك، راحت تلاحقه من مكان إلى آخر.
بعد ذلك تختلف روايات القصة، فتذهب إحداها إلى أنهما التقيا في قمة جبل، و تعاهدا أن يصبحا أخوين، أخاً و أختاً. و ثانية تذهب إلى أنهما التقيا عند نبع، و رغبت ” گلخاتون” زوجة الأمير أن تقبِّله، و إذ تمدُّ لسانها في فمه، يموتان معاً، بينما تذهب رواية ثالثة إلى أن ناراً اندلعت من فمها، فيحترقان معاً. و يدخلان الجنة، و يصيبان مرادهما فيها، و رواية رابعة تذهب إلى أنهما تزوجا، و خامسة تدعي أن ” گلخاتون” تقتل زوجها الأمير، حين حاول أن يقتل “زمبيلفروش”، ثم رحل الجميع (گلخاتون، زمبيلفروش و زوجته و أولاده) إلى مكان بعيد، ليس فيه أمراء، و سادسة تذهب إلى أنهما تعاهدا أن يتباعدا، و يذهب “زمبيلفروش” بناء على طلب أبيه إلى ديار بكر، و يصبح أميراً لها.
نجد في هذه القصة تقديراً كبيراً للعمل و تثميناً عالياً للكدح، حيث يصرُّ “زمبيلفروش” على أن يعيش و يعيل أسرته من كدحه و عمله. و هي من جهة أخرى تبرز حرية المرأة في الحب، و اختيار مَن تحب، و انتقلت إلى الأدب الكردي المدوَّن كما قلنا سابقاً. إلا أن قيمتها الكبرى، في نظرنا، تكمن في أنها تمثَّل نموذجاً للمثاقفة في أدب الفولكلور الكردي.
ما أوجه الشبه بين “زمبيلفروش” و مَن ذكرناهما أعلاه؟ و ما وجه الشبه بين زوجة الأمير و زليخة، زوجة عزيز مصر، التي أحبت يوسف النبي؟
قصة “يوسف و زليخة” وردت في الكتب السماوية الثلاثة، التوراة و الإنجيل و في القرآن الكريم وردت في سورة “يوسف”، فهي معروفة، و ليست ثمة ضرورة لإيجازها هنا.
ثمة مشتركات كثيرة بين “زمبيلفروش” و “يوسف”، كلاهما وسيم جميل المحيا ، و إذا كان يوسف ابن نبي، فإن زمبيلفروش ابن أمير، بمعنى أن كليها ينتميان إلى أسرة عريقة لها مكانتها المرموقة، كلاهما تعرض لمحنة، فيوسف ألقاه أخوته في بئر، ثم تعرض للبيع في مصر، فصار يعمل في بيت عزيز مصر، و زمبيلفروش خرج من بيت الإمارة حيث حياة النعيم و الرفاهية، إلى حياة الفقر و العوز. حاولت زوجة العزيز ان تغوي يوسف، فرفض، و تعرض بسبب ذلك للسجن، و كذلك زمبيلفروش، حاولت زوجة الأمير أن تغويه، فرفض، و تعرض بسبب ذلك للسجن، ثم الهروب، تنتهي القصة بأن أصبح زمبيلفورش أمير ديار بكر، كما أصبح يوسف عزيز مصر. …..أما زوجة العزيز و زوجة الأمير، فكلتاهما، كما تصورهما القصتان، جميلتان، و كلتاهما متزوجتان، و كلتاهما تتبعان غريزتهما الجنسية، و تحاولان إقامة علاقة مع غير زوجها.
وقد أجرى (آيهان جَفَري) في تحقيقه و شرحه للملحمة الأدبية “يوسف و زُليْخة” للشاعر سليم حيزاني مقارنة مطوَّلة بين أبطال القصتين، يوسف و زُليخة من جهة، و زمبيلفروش و كلخاتون من جهة أخرى، و قبله أجرى الناقد و الباحث رمضان آلان مقارنة بين زمبيلفروش و كل من بوذا و يوسف.
لا تختلف سيرة زمبيلفروش عن سيرة “بوذا” (563 – 483 ق.م) ، فكلاهما ينتميان إلى أسرة أرستقراطية عريقة، فالأول ابن أمير و الثاني ابن ملك، و يعيشان حياة الرفاهية، و كلاهما يعرف الموت بالصدفة، فبوذا في إحدى جولاته في المدينة يرى الفقراء و المرضى، و إذ يمر بجانب مقبرة، يرى الناس يحرقون جسد أحدهم (و هي عادة دفن الميت لدى الهنود)، و عندها يعرف الفقر و الغنى و المرض و الشيخوخة و الموت، و زمبيلفروش يمر بجانب مقبرة، يرى جمجمة على حافة قبر، و يسأل مستشاره عنها، فيسرد له المستشار أحوال الناس، و الموت و الدنيا و الآخرة، و عندها يعرف أن هناك فقر و غنى، و موت و حساب. وكلاهما ينبذان حياة الرفاهية بسبب ذلك، و يختاران حياة التقشف، وكلاهما لا يُعرَف باسمه الحقيقي، فالأول اسمه محمد أمين، و الثاني اسمه “سيدهاراتا غواتاما”.
و لعلنا إن ذهبنا في تعليل التشابه بين زمبيلفروش و بوذا إلى أن كلتا الشخصيتين تنتميان إلى العرق الآري،أي إلى بنية ثقافية واحدة، ذلك لأن انتماء الكرد إلى الآريين مسألة تحدَّث فيها الكثيرون من المستشرقين و المؤرخين، و لسنا نجد ضرورة لإعادتها. و معلوم أن بوذا ينتمي إلى إحدى أُسَر الأمراء الآريين الشرقيين الذين توجهوا إلى شمال الهند، و استقروا هناك حوالي الألف الثاني قبل الميلاد، و أن البوذية التقت الزردشتية، و هي من الديانات الكردية و الفارسية قبل الميلاد، في “بلخ”، التي كانت الزردشتية ديانتها الرسمية قبل البوذية و الإسلام، و لما انحسرت الزردشتية فيها، انتشرت البوذية. و لا بد أنها تأثَّرت بالزردشتية، و أخذت منها ما أخذت، و ربما ما نجد في سيرة بوذا يكون صدى سيرة زردشت. إذا ما صحَّ ما ذهبنا إليه سيزال الكثير من الغموض الذي يخيِّم على هذا الأمر.
و إذا جاز لنا للوهلة الأولى أن نعيد اشتراك الحكاية الشعبية لدى الشعوب الكردية و العربية و الفارسية و التركية في المقدمة نفسها، والتماثل الذي يظهر في أمثال و حِكَم هذه الشعوب، وكذلك التشابه الكبير، إلى حد التماثل بين سيرتَيْ الشخصيتين، زمبيلروش و يوسف النبي، و بين يوسف النبي و سركان الشخصية الرئيسية في قصة “أمير بوتان” السابقة، بكل بساطة، إلى اشتراك الشعوب الأربعة في الديانة و الثقافة الإسلامية ، و كونها شعوب متجاورة، و بينها علاقات مباشرة، و استخدام الكرد لغاتها وسيلة للتعلُّم و التواصل معها، إحدى أهم تلك العلاقات، يُضاف إلى ذلك ما بينها من صلات تجارية، و ربما اجتماعية أيضاً كالمصاهرة مثلاً، و أن الدين الإسلامي لعب دوراً كبيراً في تلاقح ثقافاتها، و أن اللغتين الكردية و الفارسية، تنتميان إلى أرومة واحدة، هي أسرة اللغات الهندو- أوروبية. و تقسيمَ الكرد و توزيعهم بين دُوَل الشعوب الثلاثة، فيتخذون من ذلك حجة و دليلاً على وقوع الثقافة الكردية تحت تأثير ثقافات الشعوب الثلاثة و هيمنتها، ( وهذه وجهة نظر صحيحة إلى حدّ ما)، و أن الثقافة الكردية لم تعط شيئاً، بل كانت آخذة، و لم تكن يوماً مأخوذة.
إذا سلمنا بهذ الرؤية، فإن ظهور شخصية “الخضر” في أدب الفولكلور الكردي، كما رأينا عند حديثنا عن القصص الأسطورية الكردية وملحمة “ممي آلان” ، يجعل للثقافة الكردية أيضاً صداها في ثقافات الجيران. هذه الملحمة ظهرت قبل الميلاد، و لكن شأنها كشأن المواد الفولكلورية لدى جميع الشعوب، تعرَّضت للتغيير أثناء تنقلها الشفاهي، و ربما لم يكن هذا التغيير بفعل أذواق الرواة و ميولهم الفكرية، و المناخات الثقافية للعصور المتتالية فحسب، بل قد يكون للأثر الديني و الفكري و السياسي أيضاً، بعد وصول الإسلام إلى كردستان، و من ثم تقسيم الكرد ديموغرافياً و جغرافياً بين إمبراطوريتين، الفارسية و العثمانية أولاً، ثم بين أربع دول، تأثيره البالغ في التغيير الذي أصاب هذه الملحمة، حتى وصلت إلينا و هي ترتدي هذا اللبوس الإسلامي.
و إن ظهور هذه الشخصية في الفكر الديني الكردي متمثِّلاً بالديانة الأيزيدية، وهي ديانة كردية سبقت ظهور الديانات السماوية الثلاث، ثم ظهورها في هذه الديانات، يرجح مرة أخرى أن يكون للثقافة الكردية صداها في ثقافات الجيران……نعتقد أن الأمر يتجاوز دور الثقافة الإسلامية و الدين الإسلامي، و يتجاوز تقسيم الكرد و توزيعهم و بلادهم بين الشعوب الثلاثة و دولها، و يمتد بعيداً في التاريخ، ليصل بنا إلى بطل قصة الطوفان.
إن اسم بطل قصة الطوفان حسب الرواية السومرية، كما يقول الدكتور أحمد خليل، نقلاً عن محمد بيومي مهران في كتابه (تاريخ العراق القديم) هو ” زيوسودْرا، ….. و نظراً لجهود زيوسودْرا الجليلة في صناعة السفينة، و إنقاذ الجنس البشري من الهلاك بالطوفان، منحته الآلهة نعمة الخلود، و رفعته إلى مرتبتها السماوية، و هو (أي زيوسودْرا) الذي يمتلك سرَّ بقاء الإنسان خالداً “. و يتابع الدكتور أحمد خليل قائلاً ” تحوَّلت شخصية زيوسودْرا السومري إلى ثيمة (فكرة أساسية) دينية عابرة للثقافات الغرب آسيوية، فظهرت في اليهودية و الإسلام في شخصية (النبي خِضْر)، الإنسان الخالد الذي منحه الله القدرة على الظهور بأشكال مختلفة، و مساعدة الملهوفين في أوقات المِحَن” حسب ما يذهب إليه الطبري في الجزأين الأول و الثاني من (تاريخه). “و ظهرت في المسيحية بشخصية مار جرجس / جرجيس. و هذا ما يؤكِّد مرة أخرى أهمية التراث الميثولوجي السومري في فهْم التراث الثقافي الغرب آسيوي عامة، و في فهم بعض مكوِّنات الأديان الثلاثة (اليهودية و المسيحية و الإسلامية). و يبدو أن ثيمة زيوسودْرا (الإنسان الخالد) كانت موجودة في الدين الكردي القديم (يزداني) أيضاً، و الدليل على ذلك هو أن (النبي خضر) موجود في تراث الفروع الدينية المنبثقة من اليزدانية، و هي أيْزدي و كاكائي (يارساني)، و آلاوي، و له مزارات في مختلف مناطق كردستان….. كل هذا بالإضافة إلى ما أشرنا إليه سابقاً، يعني أن زيوسودْرا السومري انتقل إلى الميثولوجيا الكردية والفكر الديني الكردي متمثَّلاً في شخصية (خضر) قبل أن يظهر في الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية و الإسلامية، و ربما انتقل إليها عبر الديانة الكردية القديمة.
و تذكر كتب التاريخ أيضاً، و معها كتب الحديث النبوي، أن ثمة تشابهاً كبيراً بين الزردشتية و الإسلام، و بين زردشت و محمد (ص)، حسب ما ذهب إليه الباحث الإسلامي الدكتور الشفيع الماحي أحمد ، الأستاذ في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك سعود، في بحث له بعنوان (زرادشت و الزرادشتية). لقد ذهب في هذا الباحث إلى أن زردشت إنما هو رسول موحى إليه من الله. إن ما نراه من تشابه بين النبيين، حسب ما نجده في هذا البحث المشار إليه، يفوق كثيراً عما هما مختلفان فيه. و لا سيما ميل الاثنين إلى العزلة والتأمل قبل بلوغهما الوحي.
أما في أمر الدعوة، فثمة أمور كثيرة مشتركة بين الزردشتية و الإسلام. فكلتا الديانتين تشتركان في الدعوة إلى التوحيد (لا إله إلا الله في الإسلام، و لا إله إلا آهورامزدا في الزردشتية)، و أهورامزدا هو الله في الزردشتية، و تؤمنان بالله و الملائكة و الآخرة و البعث و الحساب، و الصراط، و كلتاهما قالت إن لله أسماء متعددة، و كلتاهما تشتركان في العبادات، و الصلوات الخمس، و أوقاتها هي هي لدى الديانتين، فالإسلام فرض خمس صلوات في اليوم عند الصبح و الظهر و العصر و المغرب و العشاء، و الزردشتية دعت قبل الإسلام إلى هذه الصلوات الخمس، تؤَدَّى في الأوقات نفسها، عند الفجر و الظهر و العصر و منتصف الليل( ويدلل على ذلك الدور البارز الذي لعبه ” سلمان الفارسي ” في بداية الدعوة الإسلامية ، الذي كان زرادشتيا .ثم مسيحيا، ثم اصبح مسلما )
و ينتمي زردشت إلى الميديين أسلاف الكُرد، و في ذلك يقول الدكتور الشفيع الماحي أحمد، في بحثه المشار إليه: “ينتمي زرادشت بإجماع الثقات من المؤرخين إلى قبيلة ماداي أو ميديا، كبرى القبائل الآرية التي استقرَّت في منطقة إيريانا فيجا، ثم نُسِب إلى قبيلة پارسا أو پرسيس إحدى القبائل التي تماثل ميديا في القوة و المنعة و الكثرة، مهد الأسرة الأليخانية التي استطاعت توحيد إيران في دولة واحدة، و اتخذت الزرادشتية ديناً رسمياً للدولة. و على هذا فزرادشت ميدي الأصل و آري الجنس.
و يؤكِّد الدكتور أحمد محمو د الخليل أيضاً كون زردشت ميدياً، و كانت الديانة الزردشتية ديانة الكرد، إذ يقول: “الكرد كانوا يدينون قبل الاسلام بالزردشتية، و أن النبي زردشت نفسه كان ميدياً، و أن الزردشتية ظهرت في أرض ميديا، و هو هنا يتفق مع الباحث الدكتور الشفيع الماحي أحمد الذي يشير في بحثه إلى موطن ولادة زردشت في مكانٍ بالقرب من بحيرة أورمية. إلا أن الفرس ” سطوا عليها و سخروها لمشروعهم الامبراطوري. و في هذا يقول الدكتور الخليل: “يُفهم من الصراع الفارسي – الميدي أن النخب الفارسية اتخذوا الزرادشتية مظلة أيديولوجية للإطاحة بدولة ميديا، و هذا يعني أنهم أنتجوا نسخة زردشتية متناغمة مع المشروع الامبراطوري الفارسي. و لعل تنسيب زردشت إلى قبيلة پارسا أو پرسيس يدخل في هذا الاتجاه أيضاً.
إن من أحد أهم الدلائل على كون الزردشتية كانت دين الكُرد قبل الفرس، هو بقاء الحزام (كوست / كوستي)، الذي كان مقدساً في الديانة الزردشتية إلى اليوم لدى لديانة الأيزيدية التي هي أيضاً ديانة الكُرد قبل الإسلام، و التي مازال عدد كبير من الكُرد يعتنقونها. و في ذلك يقول الدكتور أحمد محمود الخليل: “على كل فرد من أتباع العقيدة الزردشتية – ذكراً كان أو أنثى – أن يرتدي الحزام المقدس (كوست)، و ما زال طقس الحزام المقدس قائماً في الأيزيدية، و ما زال قائماً عند الكرد المسلمين أيضاً بدلالة فولكلورية، و يكفي أن نتأمل الأحزمة الضخمة التي يلفها الرجال الكرد حول أوساطهم ،و قد تلطَّفت أخيراً و صارت أرقَّ، كما أن رمزية الحزام المقدس ماثلة في الزي التراثي الذي ترتديه المرأة الكردية في المناسبات القومية كعيد النوروز..
هذا من جهة. و من جهة أخرى نعتقد أن الطريق التجاري القديم “طريق الحرير، الذي كان يمر من كردستان، كان له دور كبير في تلاقي الثقافات و تلاقحها. لقد كان هذا الطريق ممراً عبر العالم، جمع بين التجارة و الثقافة. فقد كانت الخانات، التي تشبه فنادق الحاضر، تُقام على جانبيه، تنزل فيها قوافل التُجَّار من مختلف البلدان للاستراحة، و كانت رحلة القوافل تستغرق شهوراً عديدة، و كان التجار يتعلَّمون لغات البلدان التي يمرون بها، مما كان يساعد على انتقال الثقافات. و في تلك الأيام كانت التجارة مزدهرة في كردستان حسب ما تطلعنا عليه ملحمة “ممي آلان”حيث كان التجار يسيِّرون القوافل التجارية إلى مختلف الأرجاء، و كذلك يتحدث الرحالة العثماني أوليا جلبي في كتابه “أوليا جلبي سياحتنامَسي” السابق ذكره، عن ازدهار أسواق آمد / ديار بكر بالمنتجات المحلية الصنع، و من المؤكد أن التجَّار الكُرد كانوا يتعاملون مع تُجَّار الأمم الأخرى، و أن قوافلهم كانت تستخدم هذا الطريق، فتمر من مختلف البلدان، و كان التُجَّار الكُرد يحملون معهم كثيراً من عاداتهم و تقاليدهم و أغانيهم و قصصهم، و كانوا يجلبون معهم بالمقابل أشياء من ثقافات تلك البلدان.
كل ما تقدَّم، باستثاء طريق الحرير، كان قبل الميلاد، وسبق ظهور الإسلام، يدفعنا إلى أن نقول مطمئنين: إن هذا التشابه بين يوسف النبي و زمبيلفروش، حصل قبل أن يظهر في الثقافة الإسلامية و ثقافة الشعوب المجاورة للكُرد، و خاصة العرب و الترك، بمئات السنين، و ربما انتقل إليها من الفكر الديني الكردي. و إن ملحمة “ممي آلان” و “قصة زمبيلفروش” قديمتان، و سبقتا الإسلام بزمن ضاربٍ في القِدَم، و إن الثقافة الإسلامية قد عملت فيهما تغييراً كبيراً حتى وصلتا إلينا في هذا اللبوس الإسلامي الذي تبدوان فيه، و إن جزءاً كبيراً من مصادر الثقافة الكردية أُتلِفّ في السنوات الأولى لوصول الإسلام إلى كردستان، و قد تعرَّضت الثقافة الكردية لضروب من أساليب الاعتداء تجلت في “تدمير قسم منها بحجة أنها ثقافة ضلال و كفر، و تشويه قسم منها لتنفير الكرد و الآخرين منها، و تغييب قسم منها كي يبقى الكردي بلا جذور، و نهب قسم رابع. و لعل تحريف الزردشتية من قِبَل الفرس، و سرقة الأتراك مقامات و ألحاناً موسيقية كردية كثيرة أحد أبشع أنواع الاعتداء على الثقافة الكردية مازال مستمراً إلى اليوم.
كل هذا يقف شاهداً و دليلاً على أن الثقافة الكردية، لم تكن آخذة دائماً، بل كانت مانحة و مأخوذة و متفاعلة مع الثقافات الأخرى. يُضاف إلى ذلك أن الموسيقى الشرقية مدينة للموسيقى الكردية باثنين من المقامات الشهيرة، هما (مقام كرد) و (مقام نهاوَند). و نهاوند مدينة كردية قديمة في جنوبي كردستان.
D ) – وفي الختام ، وبعد عرض البعض مما ورد في هذا البحث الرصين ، والاضاءة على بعضها ، والتي رأينا أنها قد تعبر ، عن ما يرمي اليه ، الباحث من خلال الرسالة التي يرغب إيصالها الى القارئ الكريم ،من منتمي الثقافات المجاورة ، للجغرافيا و الديموغرافيا الكردستانية أولا ، بغية تعريفهم بهذا الإرث والتراث الحضاري ، الذي مازال الكثير منهم قد يجهلونه ، وربما الكثير منهم يتجاهلونه، لأغراض ودوافع عصبوية ، أما الرسالة الأخرى وثانيا ،فهي ، دعوة الى القارئ الكردستاني ، بضرورة حيازة هذا الفولكلور وتمثله وإستقلابه، والذي يعتبر من أسس وايقونات الهوية الكردستانية إلى جانب اللغة والتاريخ ،كما اسلف الذكر ، وخاصة ان الباحث في كتابه هذا وثق الكثير من المتاح من هذا الفولكلور، من جغرافيات كردستان المتشظية ، والمستند الى الكثير من المصادر والمراجع ، العربية والكردية ، التي بذل الباحث الكثير من الجهد للوصول اليها ، وحيازتها ، وينصح القارئ الكريم ،بقراءته ، سواء القارئ من منتمي الثقافات المجاورة ،(وسيلة معرفية للإنحياز نحو الموضوعية بعيدا عن التعصب والشوفينية ) أو القارئ الكردستاني ايضا ، للإطلاع عليها ، والإلمام بها ، لتدعيم وتعزيز الهوية الكردستانية ..
e) – وفيما يلي السيرة الذاتية للباحث والكاتب ، و منجزاته وحصاده المعرفي :
حيدر عمر، متزوج، و لي بنت واحدة و ولدان. أقيم في ألمانيا، مدينة لانغنهاغن. Germany
وُلدت عام (1952) في قرية بيلان التابعة لمنطقة عفرين في سوريا، و فيها درست المرحلة الابتدائية، ثم تابعت الدراسة الاعدادية و الثانوية في مدينة عفرين، حيث حصلت على الشهادة الثانوية عام (1970)، ثم التحقت بجامعة حلب، و تخرجت عام (1974) في كلية الآداب / قسم اللغة العربية و آدابها، و التحقت بعد ذلك بجامعة دمشق، فتخرجت في كلية التربية بشهادة دبلوم التأهيل التربوي عام (1978). ثم عُيِّنت مدرساً للغة العربية في المدارس الثانوية في مدينة حلب حتى نهاية العام الدراسي (1998 / 1999)…..في أواخر عام (1999) هاجرت إلى ألمانيا، و عملت مدرساً للغة العربية بموجب عقد مع وزارة الثقافة / مديرية التعليم في ولاية سكسونيا السفلى إلى أن أُحِلت على التقاعد في 01. 02. 2018. ….بين عامي (1993) و (1999) عملت في هيئة تحرير مجلة ( السؤال)، وهي مجلة أدبية كردية تصدر في سوريا. و بين عامي (2000) و (2003) عملت رئيساً لتحرير ملجة (الموج)، و هي أيضاً مجلة أدبية كردية صدرت في مدينة هانوفر الألمانية، و توقفت عن الصدور عام (2003). و قد صدرت لي مجموعة دراسات حول الأدب الكردي في كلتا المجلتين.
صدر للباحث الأعمال المدرجة أدناه: أ. في مجال التأليف:
1. أحمد خاني في الملحمة الشعرية مَمْ و زِين. دمشق عام 1991. دراسة باللغة العربية عن الشاعر الكردي أحمد خاني.
2. فقي تيران، حياته و شعره و قيمته الفنية، بيروت 1993. دراسة باللغة العربية.
3. في الميزان. ردود، مغالطات، قرصنة. حلب 1998. دراسة باللغة العربية.
4. جكَرخون قاصّاً. ألمانيا / برلين 2003. دراسة باللغة الكردية عن النتاج القصصي للشاعر الكردي جكَرخون.
5. عثمان صبري شاعراً و أديباً. باللغة الكردية. الطبعة الأولى ألمانيا / برلين 2004. و الثانية عام 2006، مدينة السليمانية في اقليم كردستان العراق.
6. صدى المشاعر. ألمانيا / برلين 2014. دراسة نقدية باللغة الكردية في بنية القصيدة الكردية.
7. موجز تاريخ أدب الفولكلور الكردي. تركيا / استانبول 2018. باللغة الكردية.
8. أدب الفولكلور الكردي (دراسة) . تركيا / استانبول 2018. دراسة باللغة العربية.
ب. في مجال الترجمة:
1.بقعة ضوء، من مذكرات عبدالرزاق بدرخان، ألمانيا / برلين 2000. ترجمة بالاشتراك من الكردية إلى العربية.
2. أحمد خاني شاعراً و مفكراً. منشورات سما كرد 2007. و هو ترجمة كتابي المشار إليه أعلاه من العربية إلى الكردية.
3. كردستان أولاً. (دراسة تاريخية). تركيا / ديار بكر 2015. ترجمة من العربية إلى الكردية
كمال أحمد