ابراهيم محمود
سليم بركات الكردي نطقاً، العربي كتابة، يشهَد ذيوع صيته في الصحافة الفرنسية، بصورة متنامية. ربما كانت قص- روايته الشعرية ِالمناخ ” الجندب الحديدي- 1980 ” في ترجمتها إلى الفرنسية تحت عنوان ” Le criquet de fer ” سنة 1993، وعلى يد فرانسوا زبال” منشورات Actes Sud ” جواز سفره إلى عالم هذه اللغة، وحصوله على مكانة أدبية معتبَرة، وإن جاءت متأخرة، وهي متأخرة بشكل كبير طبعاً . لعل بنيانها التركيبي الجامع بين ميثولوجيا عالم شعب، شعب من لحم ودم، هو الشعب الكردي، وما يلهج بالصوت والصورة الحيين، له إسهام واسع في تزكية هذا الإسم، عدا عن ” شراسة ” بركات اللغوية ونهمه في استيلاد عجائبه بلغة الآخر الطائعة له ، عجائب لا تنفصل عن لعبة السياسة في تقرير مصير نصوص أدبية دون أخرى، وعلى أعلى مستوى، سياسة لا أراها ببعيدة عن صفتها عرابة سيئة الصيت حتى في المتروبول الأوربي الضليع في شئون الأدب وجماليات المبتكَر فيه !
بركات الذي شارف السبعين عاماً” مواليد 1951 “، لا زال يتوالد شبوبيةً في عناوينه، وهي على تماس مباشر بمكابداته في مسارات متقاطعة. يتوالد بغابة نصوصه الغريبة بكائناتها، بمرجعياتها المحوَّرة، كما لو أن جندبه الحديدي والذي يهوى الوثْب، والذي يضم إليه سر الليل، ويسلسل حركته التموجية على طريقته، مازال يجبل فيه هوايته الأولى في صيد الغرائب.
يكتب عنه Luc Barbulesco في ” Le Monde Diplomatique ” بتاريخ 30 نيسان 1993 ” وتحت عنوان ” طفولة العالم : L’enfance du monde ” منوهاً إلى مفارقات كردي، يضم إليه جموع كرده، مع الجغرافيا والتاريخ المعتَّم عليه، لكأن منطقة العجيب وحده ضامن هذه الالتفاتة، عجيب يسخر من تاريخ عجيب يطوي داخله شعباً مقيماً في تاريخ مديد (الجندي الحديدي لا تنطوي على مجرد علاقة بسيطة في السنوات الأولى من حياته التي عاشها في الخمسينيات، في قرية كردية سورية في الجزيرة. إنها قصة طفولة تجمع بين زهو الأحاسيس، مرفقة بمرارة موغلة في الغرابة، إلى درجة إقناع أولئك الذين يستمرون في ارتباطهم مرتبطين بفكرة الجنة الطهرانية ، في الوقت الذي تكون هذه الجنة، على الأقل، بالنسبة لبعض مناطق العالم ، مفعمة بالهزء والعنف . الهزء إزاء البالغين وما في ذلك من غياب الحنان، ولا يُعجَب بها إلا بمقدار ما يُنظر إليها على أنها متنفذة ؛ العنف في التعامل مع الحيوانات ، والتعرض للاضطهاد من المتعلمين، واعتماد التعويذة:
cruauté à l’égard des animaux, soumis à des persécutions d’une savante perversité ) .
لا يخفي باربوليسكو مدى ذائقته التي تتقصى عمق هذه الغرابة البركاتية في دمغتها الكردية، وما فيها من عنف متعدد السمات، عنف عالم مأخوذ بهواه، ضد عالم جار تحجيمه مأخوذ بهويته، ويلوّح ببراءته ضد الطغيان المركَّز عليه (إن العنف الذي يبرز على كل صفحة فطري بشكل أساسي ، فهو يموت بشكل طبيعي من شباب الدم ، حتى لو كانت بعض الدلائل تشير إلى وجود عنف آخر ، سياسي واحد ، وخارجي لهذا العالم الريفي :
. La violence qui affleure à chaque page, est essentiellement innée, elle sourd naturellement de la jeunesse du sang, même si quelques indices laissent entrevoir l’existence d’une autre violence, politique celle-là, et extérieure à ce monde rural.).
في الصحيفة ذاتها، يكتب الباحث السوري بطرس حلاق، تحت عنوان لافت، لعله يتجاوب مع الطابع المعماري المتحرك لنص بركات ” كونه كردياً سوريا: عنف رهيب : Une terrifiante violence – ÊTRE KURDE EN SYRIE ” وبتاريخ 30 أيلول 1995 ” ما يشدّد على مأساة الحرف العربي وهو يتكلم وجع الكردي(…المؤلف اللعوب … auteur maudit مع طفولة معذبة غارقة في عنف فريد ، حيث يستحيل بدعة قائمة بذاتها d’une rare élégance عبر قلمه، تطوّع قوة لها، مرعبة بجلاء .).
في متابعة نقدية، طويلة هذه المرة، بانورامية الصورة بامتياز، وفي موقع ” http://www.kedistan.net ” لم أعثر على اسم كاتبه، ملا خلا اسم مذيَّل به المقال ” لويز Loez ، ثمة انفتاح على عالم الكرد، وكيف تولّد جغرافية القهر تاريخ قيامتها، وتقيم في الحياة بإصرار(( يتذكر سليم بركات طفولته في روج آفا في ” الجندب الحديدي “. إنها طفولة فقيرة ، ريفية …)، لنقرأ هذه الرهافة المتفجرة في ثنايا اللغة وهي تتكلم معاناة كرديته، جهة الوصف وما هو أبعد منه ( لعبة الجندي الحديدي ، لعبة رواية تنزع الاستقرار بأسلوبها، أسلوب شفوي بشكل لافت. غنائي أحياناً ، وليس من حوار تقريبًا من جهة مؤلف السارد . ذلك ما يذكرنا عبر هذا التقليد الخاص بـ” dengbêj المغني الشعبي ” وهي بتعددية تواريخها الخمسة. كل مقاربة منها أشبه بالقصة وليس الرواية. ثمة تقاطعات رائعة ، كما في استحضار بوغى الهائل ، أو استحضار عاصفة ترابية مرعبة :
comme l’évocation du géant Boghi, ou lors de l’évocation d’une tempête de poussière. )
وما يمكن قوله في ضوء هذه الأمثلة، أن الأدب يشكّل المادة الأكثر طلباً لدى القارىء الأوربي: الفرنسي بصورة حية، والرواية في الواجهة، لأن هناك ما لا يُرى، ما ينتظر التعبير عنه بأسلوب يحرّك الراكد في العالم المحيط به، أكثر من كل اكتشافات الآخرين: آثاريين وخلافهم، كما لو أن الرواية: الفن اللامتناهي ببدعته، هي العالم الذي يسعى الأوربي، والفرنسي ضمناً إلى التنقيب فيه، والتزود بجمالياته، والقبض على سرّد المؤجل باستمرار، وبركات سيقرَأ أكثر لاحقاً. تُرى، هل ستكون نوبل في انتظاره ؟ لم لا، لكن ذلك يحتاج إلى زمن أطول، وترجمة أعماله التي قاربت الخمسين كتاباً بين مجموعة شعرية ورواية” 27 رواية من بينها “، وما ترجِم إلى الفرنسية أو سواها، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وبأسلوب- في التعامل يثير السخرية، فما ترجِم عبارة عن أربعة كتب ” الأخير شعر “، وثمة طريقة غريبة في الانتقاء بالتأكيد” سلباً بمعناها، وليس بالمعنى الفني هذه المرة ” فـ” الجندب الحديدي ” جاءت ترجمتها، بعد ” 13 ” عاماً من صدورها، بينما صدرت مجموعته الشعرية الأولى ” كل داخل سيهتف لأجلي ” سنة 1973، فأي نسبة مزعجة هي هذه ” أربعة من أصل خمسين تقريباً “؟ وعلى القارىء القارىء أن يشذب دماغه جيداً، ليمعن النظر حتى في خلفية هذه الترجمات الباعثة على السخرية، وكما أرى: في ” الجندب …” ربما علينا تذكر تداعيات الوضع الكردي، هكذا الحال مع ” سيرة الصبا- 1995 “، ومن ثم ” فقهاء الظلام- 1999 “، وبالمقابل ” الريش-2012 “، ولتأتي ترجمة مجموعته الشعرية ” سوريا- 2015 ” باسمها الصارخ استنثاء كل أعماله قاطبة، وهي تعمّده سياسياً في الحال، فقد ترجمت سنة 2017، ولا علينا الاستغراب، عندما نتوقف عند أهواء السياسات، على مستوى الدول، وحتى لجان حقوق الإنسان، والجهات المعنية بالأدب والفنون، حيث الأمم نفسها تُسَلْعن وكذلك كتّابها هنا وهناك. أرأيت لكَم همُ الكرد بؤساء ؟
صور منشورة في ثنايا كتابات فرنسية عن رواية ” الجندب الحديدي ” “
إنه الخط الحدودي المسيج بالأسلاك الشائكة والمزروع بالألغام، وثمة بلوكوسات تحت الأرض، حيث يشطر الجسد الجغرافي الكردي، وثمة مرصد تركي حدودي للحراسة والمراقبة، حيث تسهل رؤيته بالعين المجردة لمن ينطلق من قامشلو إلى عاموده أو بالعكس .