قراءة في مضمون رواية (انبعاث في أغوار الجبال) للفنان الكاريكاتيريست والكاتب يحي سلو

د. محمود عباس 
  تشدنا الرواية من صفحاتها الأولى: إلى عالم غارق في الألم، والضياع، وواقع كردستاني، مليء بالأخطاء، وبساطة الحياة إلى حد الجهالة، من خلال السرد الذي يجري بين عناصر من الكريلا لحوادث جرت في قراهم وبين عائلات يعرفونها، والتي تجري في منطقة ضمن جبال هركول في شمال كردستان، جنوب شرقي تركيا (الصورة المرفقة هي لجغرافية المنطقة التي تجري فيها أحداث الرواية). وإلى طبيعة 
كانت بإمكانها أن تكون قبلة للسياح الطامحين إلى الهدوء والراحة، في جغرافية شاهدت المأثر والبطولات، رافقتها المآسي خاصة أثناء الثورات الكردية التحررية، ليس فقط لكثرة الشهداء، واستمرارية ضياع الوطن، بل لتلاعب القوى الإقليمية بشعبه، وحراكه، إن كان سياسيا أو عسكريا أو بالقوى التي سخرتها الدول المقتسمة لكردستان.
   سينتبه القارئ بعد الفصول الأولى أنها رواية كردية بامتياز، ولها أبعاد رمزية، نستطيع أن نقول عنها عميقة الجذور، مستقاة من الواقع الكردي البسيط المعاش، وبساطة السرد في الرواية، ودمج الحقيقة مع الخيال القومي، فحتى ولو كانت الدراما الرئيسة نادرة، ومهجنة، ومستوردة إسلاميا حتى ولو كان بشكل مشوه وبجهالة، ولا تعكس الأخلاق والثقافة الكردية، يحاول الكاتب إبراز رمزيته من خلال الروايات الجانبية التي تعكس التطورات أو التحولات الاجتماعية في كردستان الشمالية، عن طريق سرد أحاديث متنوعة عن العصابات التي كانت تجول المنطقة قبل الثورة، وظلم الأغوات وعصابات الأشقياء أو المجموعات المدعومة من سلطات الدولة التركية، قد يكون فيها بعض التضخيم ربما المتعمد، يحاول أن يبرز الصراع بين الدولة التركية المستبدة والمحتلة لجزء من كردستان، والشعب الكردي الذي يود الكاتب أن يقول أنه يستيقظ من سباته بعد الثورة، عن طريق المقارنة بين الشخصية الرئيسة في الدراما(حمو) الباحث عن الحلول بعد يقظته على مرحلتين، والشخصية الثورية، راعي القرية المجنون(ديكو)، وهنا يمكن الانتباه أن الكاتب بسلاسة السرد (أقرب ما تكون إلى لغة الناس اليومية) كما ذكرها الأخ (حيدر عمر) في تقديمه، يزيل الغطاء عن الأسطورة الكردية، بجمالياتها ومساوئها، وصراع الكرد الأبدي مع أعداء لا يرحمون.
يرسل الكاتب قرائه ومن الصفحات الأولى إلى أزقة قريتين كرديتين في منطقة هركول، ليعرض لهم دراميتين متداخلتين، من خلال الحديث الجاري بين مجموعة الكريلا المنتظرة وقدوم حماة القرى المجندين أم بإكراه من قبل الحكومة التركية، أو لمنافع شخصية، دون أن يتطرق الكاتب، والذي كان يجب أن يفعلها لأنها رواية تدمج السياسة بالفكر الإيديولوجي والصراع القومي مع الاجتماعي، إلى أنه بينهم من يخدم السلطة التركية كرها بتيار الثورة، أو عن قناعة بالحكومات التركية، فحسب السرد يتوقع القارئ أن تكون العملية ضد أحد قطعات الجيش التركي، ولكن السيد يحيى يوجه دفة الرواية إلى وجهة أخرى، والتي من خلالها يستمر السرد، وأحداث الرواية، فيظهر المشهد مثيرا ومؤلما من بداياته. جرار بالكاد يسير على الطريق، يحمل البقية الباقية من بؤساء القرى الواقعة بين رحى الكريلا والجيش التركي، بينهم حماة القرى والمدنيين والأطفال، ويركز الكاتب هنا على عرض التفاصيل المؤثرة، ما بين تأديب أو قتل حماة القرى، وخوف النساء ورعب الأطفال، أي عمليا نحن أمام مأساة قتل الكردي للكردي. ويركز الكاتب على العقوبة القاسية التي تلقتها نفس المجموعة من الضابط التركي بعد وصولهم القرية، ليجعل الحدثين عقدة الرواية. فقد ذكرني هذه بروايات وقصص للكاتب (عباس عباس) في هذا المجال مكتوبة باللغة الكردية، ومنها كمثال قصته القصيرة (Malweeran) المكتوبة في عام 2003م وروايتيه (Shivanee Berxan شفاني برخان،  وخونين شياري Xewneen shiyarii) والاختلاف بينهما أن الكاتب عباس عاش وشارك هذه المسيرة سياسيا وقدم سلسلة من الروايات في هذا البعد، والكاتب سلو شارك فيها ميدانيا، وهذه تجربته الروائية الأولى بعد كتابه (لغة الجبل).
  وهنا يدخل ويدمج الكاتب يحيى سلو العديد من المفاهيم والآراء، والتي ستدفع بالقراء ليطرحوا العديد من الأسئلة على ذاتهم وعلى الكاتب وعلى قادة الكريلا: هل كانت أساليب الثوار مع المجتمع الكردي سليمة؟ لماذا احتاجت الثورة إلى محاربة حماة القرى، أو لماذا كان حماة القرى بهذه الكثرة في مواجهة الكريلا؟ وكيف تمكنت تركيا من تحريف وجهة الحرب بينها وبين الكرد إلى حرب بين الكرد والكرد؟ وغيرها من الأسئلة.
  إلى جانب ذلك وبعد تشعب الأحداث ضمن عائلة (حمو) (من حماة القرى والشخصية الرئيسة في الرواية) يود الكاتب إقناع القارئ أن الأجيال الجديدة بين الكرد يتمسكون بقوميتهم رغم كل المفاهيم التي بثتها الأنظمة التركية والتي لا تزال تؤثر على جزء من الأجيال السابقة، ولإبراز هذه الفكرة يتحدث عن المجموعات القادمة من أطراف كردستان، وبمثال عن أبناء القريتين التي تجري فيها معظم حوادث الرواية، كما ويبين إما عن قصد أو بدونه، الخطأ الذي أتبعته الكريلا في طريقة نشر مفاهيمها ودعايتها وتوعية المجتمع، بين أبناء القرى الذين كانوا تحت سيطرة الجيش التركي الذي لا يرحم، الخطأ المصيري المؤدي إلى إخلاء كردستان من نصف سكانها، بل وفي مناطق من أكثر ثلاثة أرباع ديمغرافيتها الكردية، رغم الإيجابيات التي قدمتها.
  تتبين من خلال السرد السلس الممتع حدثا، والواقع المؤلم، والمفاهيم التي كانت تنشرها السلطات التركية عن الثورة بين الكرد في شمال كردستان والأساليب المتبعة ببشاعة وترهيب في نشرها، ومعالجتها من قبل الكريلا، أن الكاتب عاشها وهو الشاهد على حوادثها، لذلك تصبح الرواية كمشهد حي أمام القارئ، ومنها ما تعكس نفسية تلك النساء اللواتي كن يرافقن حماة القرى في العربة التي كانت تسحبها الجرار، لأنه ربما يتذكر تعابير وجوههن بتفاصيلها، والرعب الذي حل بالأطفال وما ستنتج عنه الصدمة.
   ويعرض الروائي العملية كمحاولة لتنقية القرى من العملاء أو حماة القرى، ولربما هنا كان على الكاتب أن يعرض رأيه، وعلى لسان بعض شخصيات الرواية مدى صحة مثل هذه التجربة، وهل كان عليهم التعرض لأبناء القرية وهم المجرى، متناسينا تنقية المنبع أو المصدر، حيث الدوائر الحكومية العسكرية والسياسية التركية، ومربعاتها الأمنية. 
  يبين الكاتب أما عن قصد، أو لإسقاط الحدث كما تم مع القليل من الخيال، الجو الكارثي الذي كان يطغى على شمال كردستان في الفترة التي كانت فيها الثورة والكريلا يجوبون جغرافية الوطن، ويوقف نحن القراء أمام رهبة ما خلفه الاستعمار فينا، مثلما يود أن يبين جدلية نشرت بين المجتمع، القومي الكردي حيث الكريلا والخائن في القرية، والوطنيون الذين كانوا قلة قبل الثورة، وهي عمومية أبرزها الكاتب حتى من خلال تسمية أشخاص الرواية، فنرى القروي يسمى بحمو والكريلا بدلبرين أو نركز أو أسم تركي كدورم. وهنا يود خلق صورة نمطية عند قراءه عن كل من لا يدعم الثورة أو لا ينضم إلى الكريلا بأسماء غير كردية، ويحاول من خلالها أن يبين أنه كان هناك يقظة قومية أو عودة إليها ترافق الثورة بين المجتمع عامة. 
ما بعد الصفحة المائة والأربعون، يتجه الكاتب إلى استرسال درامي من خلال شخصية حمو، ويلحقها بجو من العنفوان الثوري الخيالي الذي يعكسها أبن أخي حمو وأبن جاره من حماة القرى والتحاقهم بصفوف الثورة في نفس اليوم الذي تدخل فيه المجموعات إلى القرية المجاورة لقرية حمو، والحوادث على الأغلب تمت، والسرد هنا تعكس ما جرى، بأخطائها أو إيجابياتها الجدلية والنسبية حسب القارئ، ويكتفي الكاتب بعرضها كمشاهد يقف خلف الستارة أحيانا، وأحيانا أخرى واضح أنه ساير مسيرة النضال.
 الرواية تخسر شيئا ما، عندما يتحدث، وكدعاية مباشرة، عن منطق الأراضي المحررة  ودون اعتبار لقدرات العدو العسكرية وعدم اهتمامه بما سيحصل لساكني القرى من الكرد والذين لم يكن يفرقهم العدو يوما عن الكريلا، وبالتالي فالرواية في أجزاء منها تتحدث عنما كان يفعله مجموعات وحدات الجيش الشعبي لتحرير كردستان، ولا ينقد الكاتب، على لسان أحد شخصياته، هذه الأعمال ولا يبين أنها تعطي المبرر للجيش التركي بتصعيد الاعتقالات وتعذيب المواطنين وتوزيع الاتهامات بشكل عشوائي لترهيب أبناء القرى، إما لإخلائها أو تسخيرهم لمطالبها تحت طائلة الاعتقال في حال الرفض، والسرد الجاري في هذه الصفحات والتي فيها الكثير من التمجيد والاعتزاز بالذات وبما تقوم به الكريلا من النشاطات السياسية داخل القرى وبشكل علني لإيقاظهم وتوعيتهم، تقلل، رغم الشعور بالفخر، من لذة المتابعة، مقابل الألم على خلفية المآسي الناتجة عنها، والتي يذكرها دون أن يركز عليها بعمق، رغم هول الكارثة، والتي كانت نتيجتها هجرة الملايين من أبناء كردستان إلى المدن التركية الكبرى كإستنبول وأنقرة وأزمير وغيرها، وحدوث فراغ ديمغرافي مرعب ضمن كردستان وهذا ما كان يتمناه وخطط له الأمن والجيش التركي، فلو حاول الكاتب التطرق إلى هذا الجانب أيضا كصراع بين شخصيات من الرواية لتمكن من عرض الخطأ ذاته الذي تم في جنوب غربي كردستان، والتي أدت إلى إفراغها من أكثر من نصف ديمغرافيتها، مع عرض الأسباب الأخرى المرافقة للحروب والمؤدية إلى الهجرات الجماعية.
بما أن الحدث هنا انعكاس لواقع تم، ورغم أن الكاتب أدرجها في سياق الرواية والخيال، لكن كما أظن كقارئ، ربما كان يجب أن تناقش من البعدين، فالعملية التي تمت في قرية (إركند) عكست الكثير من سلبيات الثورة، ولا يعرضها الكاتب إلا كبعد إيجابي (الصورة المرفقة هي الآثار المتبقية من القرية المذكورة، وهي نموذج لأكثر من 4500 قرية كردية مماثلة هجرتهم الجيش التركي) ولا شك أن مثل تلك التوعية القومية كانت مهمة في واقع المجتمع الذي فرض عليه الثقافة التركية، والدعاية ا التي كانت تنشر لتشويه سمعة المقاتلين، لكن لا يتعرض إلى النتائج الكارثية على الشعب، على خلفية الصراع بين الكريلا والجيش، إلا بشكل مقتضب، مقابل الإيجابيات العديدة التي حدثت بين المجتمع الكردي والتي يسردها بإسهاب، بعد بدء الثورة.
الكاتب ينجح في روايته نقل جزء من الواقع، فكما ذكرنا سابقا، لأنه عاشها، وتأثر بها ويحمل الكثير من الذكريات عنها، وكان يصطدم بمعاناتها يوميا، وبظروف الحياة القاسية في تلك البقعة الجغرافية الكردستانية، وعلى الأغلب أنه أحد شخصيات الرواية، ولهذا فحديثه عنها ينساق ببساطة الحياة ذاتها، وبكلمات تحمل روحا حية، وفقرات تشدك إلى ما بعدها، ورغم أن نتائج تاريخ تلك الثورة تكاد تكون معروفة لكل قارئ، إلا أن الكاتب يأتيك بمثال يكاد يكون غير معروف لأغلب القراء حتى من أبناء المنطقة، كموقف حمو من الحلف  بالطلاق وعدم جرأته التقرب من زوجته على خلفية العرف الإسلامي، والوقوع بنيه وبين هيمنة الجيش التركي، وبالتالي قبول تزويج زوجته، وهو الرجل العزيز النفس والقوي الشكيمة، وكقارئ أرى أن الكاتب هنا يريد إثارة القضية أكثر من الحقيقة، فقط لإهانة كل من يتعامل مع الجيش التركي، أي أن الكردي يخسر شرفه وكرامته مهما كان صاحب شكيمة، وما لم يؤيد الثورة.
  تتعرض الرواية إلى قضايا حساسة في مسيرة الثورة الكردية في شمال كردستان، ولا شك المروي هنا فيها الكثير من الحقيقة رغم ما أضفى عليه غطاء من الخيال، وهي تعتبر وثيقة تاريخية حتى ولو كنت تتحدث على منطقة جغرافية ضيقة، والفترة الزمنية القصيرة، لكنها تعكس ما كان يجري في كل شمال كردستان. 
 رواية سردية، رمزية رغم بساطة العرض، قريبة من السيرة الذاتية مدموجة مع الخيال، حتى عندما يأتي على القضايا الاجتماعية النادرة الحدوث، والتي ربما جرت فقط في ظروف الثورة في الشمال، مع ذلك ليست الدراما الدائرة بين حمو وزوجته والزوج الأخر الثوري المختفي وراء الجنون، والتي تأخذ جل صفحات الرواية، هي التي يمكن اعتبارها اللب، بل الرمزية المخفية ما وراء الكلمة، وهي مظالم السلطات التركية المتعاقبة، وما خلفته من المفاهيم بين الكرد، واعتداءات جيشها ودوائرها الأمنية، وظروف الحرب الدائرة في كردستان، ونتائجها، والمآسي التي خلفتها على الشعب الكردي والمنطقة.
   أرى أن الرواية كبداية للكاتب ناجحة، وبإمكانه أن يكتب سلسلة على هذا النسق، لكن من المهم أن يبتعد عن الانحياز في الرواية، ويخلق شخصيات أكثر تنوعا وبأفكار تعكس كل الأطراف الكردية.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/10/2018م

  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…