زهرة أحمد
وقف على مفترقِ طرقٍ تاه في اختيار أقصرها، يتأمل الأفق المجهول بحسرة، حائراً وحيداً. دموعه تخنق أنفاسه المنهكة، وحزن لا حدود له تخيّم على بقايا روحه، وتغرق مساحات التفكير بدموع الألم. حمله الثقيل شلّ أطرافه وحتى نبضات قلبه. وضع الجثة في حضن جبل الأحلام، وامتدّت نظراتُه حائرة يتأمل فيها عفرين وهي تئن بصمت كئيب تحت جنون القذائف المتساقطة من طائراتٍ تُسيّجُ فضاءَ المدينة وبساتين زيتونها بقاذفاتها.
محمد علي بوزو العفريني المروّض برائحةٍ شجرةٍ اختارَها اللهُ عنواناً في كتابه المقدس، بهيئته القروية الشامخة كجبال كورمينج، وملامحه الراسخة التي تأقلمت مع تاريخِ المدينة المدوَّن على أوراقٍ مدبَّبة لاتذبل مع الزّمن، وعلى جبينه رسمت المآسي أشكالها الأزلية. طقوس المأساة لم تستطع أن تخدش قلبه، لم ينحنِ لجبروت الحياة وقساوتها.
عاش حياة هادئة مع عائلته في حي المحمودية في عفرين «جياي كورمينج» تلك البقعة الجغرافية الممتدة في أصالتها، المتمردة على انقسامات مؤامراتية، حافظت كغيرها من المدن الكردية على طقوس الألوان المسجّلة في دفاتر لالش، بالرغم من زوابع التغيير القسرية. كانت شاهدة على عهود جارحة من الظلم والحرمان، تلك التي شوهت صباحاتهم وحاصرت حتى أحلامهم. كلّ مدينة كرديّة لها دفترٌ خاص وأيامها وخصائصها مدوّنة سخّر لها مؤرخون مجهولون أنفسهم منذ أزمنة موغّلة من أحداث غايا.
محمد علي ابن هذه الملحمة الصامدة، ارتوت ارادته من مائها، وتطبعت من جبالها، فبقيت راسخة في تفاصيل الوجود، بيديه المتشققتين نزع كل الأشواك الجارحة والحجارة العاثرة أمام الحياة في أرضه الجميلة، لتبقى أشجار الزيتون شامخة تنبض بإشراقات تضيء ظلمات أيامه، علمها أبجدية التحدي فبقيت نضرة أمام الزوال. كان وفياً، حنوناً مع أشجاره فأغدقت عليه بكل خيراتها، وكان ظلها مأمنا له من وهج الأيام وقساوتها.
يسبق العجوز خيوط الفجر في إلقاء السلام على أشجاره، يمسح الغبار عن أوراقها، ينتعش بندى صباحاتها وتحت ظلها يشرب الشاي، ثم يمضي الى العمل في أرضٍ قضى فيها سنوات عمره السبعين يرعى أشجاره برفق، سقاها من عرق جبينه وحظيت بكل اهتمامه، فكانت أجمل أيامه التي قضاها ويقضيها بين نسيم همساته، فكل شجرة من عائلته تحمل سجلاً من الذكريات التي عاشها بكل طقوسه منذ إن كان طفلا ينبش التراب بيديه الصغيرتين حول أشجار الزيتون، ويجمع ثمراتٍ يانعات أسقطتها الريح غدرا.
حياته مع أشجاره حكايات خالدة رسمت في ذكريات الزمان، تشع مع إشراقة الشمس وتضيء حتى في الغروب، يراها عالمه الجميل، وحكايات لا تحكى، سجلت بيت طياتها شوقه لوالديه وذكرياتهم الخالدة في وجدانه.
عباءة السلاطين أمطرتْ عاصفةً من القذائف الهائجة على زيتون عفرين. لكنّه احتوى أشجاره تحت معطف حبّه، فتشبثُه بالمكان حكاية معنونة بحروف من الإرادة الحقيقية لكردي قرر أن يحمي أشجاره ويسقيها بدمائه. بالرغم من الخطر الذي بدأ يقترب منه ومن أشجاره نتيجة هبوب الغيوم «العثمانية السوداء» يقودها مرائي صحراء العرب المنتشي بشهوة القتل على عفرين وعلى القرى القريبة من روح العم بوزو، إلا إنه كان يستقبل صباحه مع أشجار الزيتون بابتسامته المشرقة، يتفقدها ويمسح غبار البارود عن أوراقها وكأنه يسجل عليها مذكرات عفرين المؤلمة وهي تشهد دماء أبنائها تلون ربوعها، تؤلمه رؤية الغرباء وهم ينتهكون حرمات المكان وقداسته، يلطخون نقائها بسموم حقدهم. يستمر العجوز بوزو في عمله كاتماً قلقه بقادم مؤلم، بدا واضحاً من تأملاته الغامضة والعميقة خلف ابتسامته المعتادة.
في ذلك الصباح الأذاري «الآفداري» داهمه توتر مفاجئ، لم يشرب الشاي تحت ظلال الزيتون كما يفعل ذلك منذ صغره، ترتجف يداه وهي تحضن أشوقه وقلقه لأشجاره، هناك ما يكتم على أنفاسه ويمنعه من العمل، حاول جاهداً أن يلملم بقايا أنفاسه ويقنع نفسه بأن كل شيء بخير.
لكن!!!!
صادقاً كان إحساسُه، وتحول قلقه إلى صاعقة أحرقت قلبه. ما حدث في ذلك اليوم الأسود كان كارثيا. إنّها مجزرة المحمودية، غيّرت موازين حياته بل أنهته من جذورها.
مأساة «الزمن الأغبر» هكذا سماها لهول أحداثها ومآسي نتائجها، هدمت المأساة روح العفريني وشتَّتت دعائم قوته، تناثرت الأشلاء في ربيع لم تكتمل دورتُه، وتفتحت براعمه على رائحته الدموية، تهدمت البيوت وحرقت أشجار الزيتون، قطعت شرايين روحه باستشهاد ابنه آزاد في عملية «عاصفة القذائف السلطانية» على حي المحمودية في مجزرة دوّنت التاريخ بدماء أبنائها البريئة.
رؤية ابنه غارقاً في دمائه فاجعة كبرى، لا توصف بكلمات، ولا ترسم بمعاني اللغات، حاول الصراخ مراراً لكن خانه الصّوت أيضا، عشرات الجثث المتبعثرة هنا وهناك على تراب المحمودية ذكرتْه بحلبحة في ذكراها السنوية، وكأن التاريخ يعيد نفسه بأبجدية المجازر التي لم تفارق حياة الكرد، ذكرته بالأنفال السيئة الصيت وانفجارات قامشلو الارهابية، ذكرته بليلة الغدر في كوباني، و..و…
تزاحمت صور المجازر في مخيلته الجريحة، لتأكل من بقايا روحه الحزينة.
فكانت نهاية لكل الفصول الجميلة في حياته، ليتحول كل شيء إلى رماد كئيب وأنقاض تحجز أحلام ثكلى.
آزاد العفريني رضع من مبادئ جياي كورمينج، خمسة وثلاثين دورة زيتونية، سند أبيه وسر قوته، تعلم منه القوانين العادلة وركائز الخير والتحدي من أجل الوجود، فكان بمثابة الروح له، باستشهاده انهارت قوة الأب ليفقد كل ارتباطاته بالحياة التي بخلت عليه بأيام هادئة كان يعيشها مع عائلته وفي أرضه وبين أشجار الزيتون، والتي حرم منها بمجازر ارتكبتها عقول الدكتاتورية المتجذرة في الاستبداد، وما أكثر تلك المجازر التي حصلت ولا تزال تحصل للكرد، وكثيرا ما كان يذرف الدموع ويعلن الحداد على طقوسه اليومية ويحكيها لأشجاره، الآن المجزرة في بيته، أهله، حيه، وأشجاره، المجزرة في روحه باستشهاد ابنه آزاد.
انتهى كل شيء مع مجزرة المحمودية، لا روح له ولا أي ارتباط، ولا حتى زيتون، مضى تائهاً غريباً تاركاً مكانه الأزلي نائماً على أنقاضها، لم يستطع أن يودع ماتبقى من أشجار الزيتون المتفحمة على صفحات متهدمة من الأشلاء المتناثرة.
حمل جثة ابنه آزاد بعد أن لملم شتات أشلائه ولفها بذلك الغطاء الصوفي الأحمر الوحيد الذي وجده بين أنقاض بيته.
حمله على كتفه، ودماؤه تسيل برفق وتلون جسمه الهزيل، بعد أن سقت أرضه وأشجاره، ومضى به إلى طرقات تائهة عن تضاريسها الجريحة تنحني ألما أمام مشهد لم يسطر التاريخ له مثيل .
تذكر صورة عمر خاور وهو يحاول أن ينقذ ابنه من هبوب الريح المسمومة، كم يشبهه في مأساته وعجزهم من انتشال أرواح هائمة على وجهها. تألم كثيرا، تمنى لو مات هو أيضا ولم ير خاتمة ابنه بهذا الشكل.
استقر العجوز بكل آلامه على جبل الأحلام التي حضنت حكاية نادرة بأحداث ستكتب بأبجدية من الدماء والدموع على صفحات تناثرت سطوره في دهاليز كالحة من الحزن. جبل الأحلام يئن ألماً وهو يسجل مروراً يائساً من آلاف الأطفال والنساء والشيوخ، أقدامهم الحافية رسمت خارطة المرور الملطخة بآثار تلونت بدماء عفرينية نقية تناثر صداها في صمت الأفق، ليكون جبل الأحلام شاهداً على حدث عفرين وأسطورتها.
وضع ابنه برفق على صفحات جبل الأحلام بعد أن خارت قواه وهلكت أنفاسه حزنا وألما، ثم كشف عن وجه ابنه، يمعّن النظر في ملامح كانت فرحة حياته، يقبل عينيه الغائبتين، يتلمس وجهه بدموع حائرة. ويداه ترتجفان حزناً وارتباكاً لا مثيل لهما.
تمعّن طويلاً في وجهٍ احتضنه بقلبه منذ الصّغر، سيشتاق إليه كثيراً، ثم مسح دموعه وغطّى وجه ابنه المسجّى على الألم ثانية، ولف جسده بذلك الغطاء وحمله على كتفه التي اشتاقت لحمله منذ إن كان صغيراً، والآن بعد أن أصبح شاباً يحمله والده ثانية ولكن بدون أن تدغدغه ضحكته وحركاته الراقصة فرحاً، من دون مشاغباته هذه المرة، تلك الذكريات زادتْه ألماً ودموعاً وهو يستعيد فرحة انقرضت بألم.
مضى بحزن والتفكير ينحتُ في البقية المنهكة من قوته، مسلسل الذكريات تتناثر أمام عينيه، ومآسي الواقع تنخرُ في قلبه لدرجة لم يعدْ يبصر طريقه، لا يستطيع أن يهتدي الى أمان ينهي رحيله القسري الموجع.
لا يعلم الى أين يمضي؟ وماذا يفعل؟
أيدفن جثة ابنه في أحضان جبل الأحلام؟ أم يبحث عن مكان أكثر أمنا؟ واذا قرّر دفنَ ابنه، هل سيترك قبره في مرمى أهداف القصف التركي؟ فهم يقصفون حتى قبور الكورد!!!
وهل سيستطيع أن يزور قبر ابنه ثانية ويستنشق عطر أنفاسه؟!! كيف يتحمل العجوز المُنهَك ثقل هذه الأسئلة وهو يحمل جثة ابنه، ودماؤه تسيل، وترسم خريطة الزيتون على مسار خطاه؟
وضع الجثّة على الأرص ثانية، ونظر خلفه ليرى عفرين غارقةٍ في تراتيل الحزن، يخيم عليها صدى أنفاس تئن تحت الأنقاض، والرماد يتناثر على أوراق الزيتون بدون رحمة، أحسّ وكأن أشجار الزيتون تنحني ألماً وقد أسقطت أوراقها حزناً، لكنها بقيت صامدة.
نظر الى جثة ابنه مرة أخرى بقلق، فجميع المخارج مؤلمة والحلول مفجعة. حمل ابنه ومضى به في دروبٍ مجهولة على خطى دامية تعزف ألحاناً جنائزية مدماة بأنفاس العجوز الجريحة. ثمة أثر للدماء في أمكنة كثيرة من ذلك الجبل الكردي وملاعب سهوله !!!
حتى الآن لا نعلم أين دفن العجوز العفريني جثة ابنه آزاد!!!!!
2018/3/21
———————-
*مجزرة المحمودية في عفرين بسبب قصف الطيران التركي في يوم 2018/3/16