ابراهيم محمود
” لا بد كي يوجد الفن من وجود بعض التوتر والاضطراب “
كلايف بل: الفن،ص136 .
جاءت الفصول العشرة التي تشكَّلت منها رواية ” سبايا سنجار ” لكاتبنا الكردي الكبير سليم بركات، بأسماء لوحات عالمية: أوربية حصراً، ذائعة الصيت، وباللغة الانكليزية، رغم أن رسّاماً واحداً هو انكليزي، كما سنرى، وهي تضيء فكرة الرواية هذه. حيث يردُ اسم كل منها، مع بعض التعليق البركاتي في موقع معين من الفصل، كل صباح، كنوع من الإلهام، كما لو أن الفن مولود ليلي، وإشراقة صباح. وساءلت نفسي: تُرى، لو أن بركات مسح كل هذه الأسماء، مع تعليقاته، أكانت الرواية تخسر من قيمتها شيئاً ذا بال؟ لا أظن ذلك !
ربما، يأتي هذا القول مستفزاً، لكنه يبقى قولاً لقارىء بداية ونهاية، وعلي أن أنوّه إلى أن بركات من خلال الحامل الرئيس في روايته سارات، وهو فنان كردي مغترب، مقيم في السويد، يمارس مزجاً بين فكرة الفن والرواية. إن كلاهما يعزّز الآخر ويتعزز به بالتأكيد. إنما أشير إلى ما قاله كلايف بل في كتابه ” الفن ” بخصوص النقطة هذه، وربما بما يترجم رؤية بركات الفنية في الرواية ( إنني أكتب في الفن لا في التاريخ. وليس يعنيني التاريخ إلا بقدر ما يسعفني في إيضاح فرضيتي. الترجمة العربية،ص133 )، حيث إنه تعامل مع اللوحة من موقعها الفني وليس التاريخي، وما انتقاه، تجاوب مع تقدير ذوقي، أو فني معين، وبما أنه تجنَّب التسلسل الزمني لفنانيه، رسامي لوحاته. وقد تابعت ذلك، فتبين لي التالي، تبعاً لورودهم في النص:
هنري فوسيلي ” 1741-1825 “، وليم بليك ” 1757-1827 “، تيتسيلو فيتشيلو: تيتيان ” 1488-1576 “، ويليام بوغيرو ” 1825- 1905 “، ادوار مونش ” 1863-1944 “، ماثياس غرونوالد ” 1480-1528 “، هيرونيموس بوش ” 1450-1516 ” ، كارافاجيو ” 1571- 1650 “، فرانسيسكو غويا ” 1726- 1828 “، ثيودور جيريكو ” 1791-1824 “. وهناك أسماء فنانين آخرين، لكنهم يعتبَرون في الهامش بالنسبة لهؤلاء.
في حال بركات، يأتي الفن احتجاجاً بصرياً وشديد الحسّية على خلل قائم في الواقع، رغم أنه، كحال الأدب، يبقى شديد الارتباط بمتغيرات الواقع، وشاهداً على تشظياته في أدوار له، كما في أمثلة بركات واقعاً .
من خلال شخصية سارات، تمارس رؤيته الأدبية لعبتَها، بمقدار ما تحمّله ما يريد قوله هو بالذات، من خلال لغة صارخة بمفهومها السياسي. وتكون الإشارة إلى كل لوحة صباحاً، تعبيراً عن معيش زمني” الليل ” ونفسي بالنسبة إليه، وما يترتب على هذه العلاقة من دلالة: الصباح، من خلال مجلد رسوم، يتأمله كل ليلة :
( أعرف مسبقاً ماذا سأرى. أعرف منذ الليل ماذا سأرى في الصباح على جلدي موشَّىً بأجزاء من رسم هو الأكثر جلاء بنحته على لوح خيالي ممَّا أستعرض في الليل، على بصري من لوحات أساطين قنص اللون، وترويض المعاني رسوماً. ص 7 ).
( على نحو نَهم كأفكاري الشبيهة بالقوارض، أنهيت لفافة التبغ حرْقاً باستنشاق دخانها، كالصباح استنشقني إذ أفقتُ، ونفشني رسماً أمام المرآة….بنصف جذع ٍ عار ٍ، من الأعلى، تأملت جلدَ صدري انطبع عليه الرسم..ص61 ).
( مررت بالمرآة الطويلة، التي أستجلي فيها كل صباح، متأخراً في النهوض، جلدَ صدري، وكتفيَّ، وظهري أيضاً. لقد ثبت عليه، من تقليبي الليلة الماضية لمجلد الرسوم، تفاصيل من لوحة الإيطالي تيتيان:” عقاب مارسياس”.ص109).
( من يدري؟ ربما انقلبت عيناي حوصاوين كحال عيون أهل الصين، في البرهة تلك، مثل الظهور المعتاد للرسوم على جلدي كل صباح…” حديقة الملذات الأرضية “، للرسام الهولندي هيرونيموس بوش، ظهرت بتفاصيل منها على جلد كتفيَّ، وصدري، نزولاً حتى أسفل السرَّة .ص 254 ) .
( استعرضت مجلد الرسوم على بصر خيالي ليلاً، إلى دمي أولاً، ليظهر الطفح اللونيُّ على جلدي صباحاً… كارافاجيو الرسام على ولع بالرؤوس المقطوعة…ص326 )…الخ .
إنه اللون، الهلام، والذي يحيل جلد سارده نسيجاً هو لسانه المرئي، لوحته النابضة بالحياة!
وفي وسعي القول هنا، مع التأكيد، عن أنني أقدّر الذوق المدهش لبركات، وهو فنان أيضاً، في بناء جملته الفنية، وقد تشكلت له عائلة كبرى من الصور التي تمثّل تعابير مشبعة باللون، وخطوط خيال مداخلة مع كل جملة. حيث يمكن المضي قدُماً في هذا المسار المتشعب، وأمامي ” على طاولتي ” أكثر من كتاب حديث الظهور نسبياً ” يضيء أفكاراً ذات صلة بالفن، ووشائج قرباه بالواقع والجانب النفسي والثقافي للفنان وحتى الكاتب، كما في حال الكتاب الموسوعي ” قصة الفن ” لأرنست غومبرتش، ذي الـ” 700 ” صفحة تقريباً، وبلوحاته الرائعة، وكتابيْ ” قصة الخطوط ” “، ، و ” قصة الألوان ” لمانليو بروزاتين، وهما مشبعان بالفتوحات المعرفية ذات الصلة باللون والعمارة والأشكال الهندسية…الخ، سوى أن الموضوع لا يتعلق بمشكل فنّي، أو حتى تاريخي هنا، ليُناقَش، وإنما بعملية توظيف الفن: الرسم في المعمار الروائي.
نعم، لقد قرأت رواية ” سبايا سنجار ” لأكثر من مرة، استمتاعاً ومحاولة استقراء المقروء ” أليس هذا ما رمى ويرمي إليه كاتبنا بركات في موقفه من قارئه، ونظرته إليه، أي يستطيع مساءلة نصه، واستنطاق متخيله الأدبي نفسه ؟ “. وكنت، أضع أسئلة، استفسارات، وإشارات إلى جانب مقاطع، عبارات، وجمل. وما تبصرَّته، هو ما طرحته سؤالاً في البداية: عما يمكن لروايته أن تخسره فنياً، فيما لو أزيحت عناوين فصولها، مع المقاطع المتعلقة باللوحات المذكورة وأصحابها، وتراءى ، كما هو مقدَّر لي، أن الرواية لن تخسر ما يمكن اعتباره نوعياً. وأتمنى من ” قرّائه ” أن ينظروا في عالم الرواية، بعيداً عن اللوحات، مع شحنة نسبية من التحرر ” السحري “، ولبعض الوقت، ويدرسوا الفارق.
ما يمكن أن يُفهَم من روايته، هو أنه حيث يكون الفن: الرسم، يكون الحضور اللافت للحرية، والذين عرّفوا بلوحاتهم كانوا مؤمّنين بطاقة دخول إلى الأبدية. الفن تأمين لأبدية ما. وفي نطاق مأساة مروعة، هي جينوسايد سنجار، لا بد من كتابة تليق بها، تؤبدها، وتدين مرتكبيها ونوعية جرائمهم، كما هو المناخ ” الكابوسي ” للرواية بالذات.
ألهذا، كانت اللوحات كلها غربية، وليس من ” شرقية “؟ في الحالة هذه، ألا يعني ذلك انعدام الأمل كلياً في الحالة هذه ؟
في الجانب الآخر، يشار إلى أن لوحات كثيرة تدخِل المرء في عالم جهنمي، يسهل تتبعها انترنتياً. عدا عن إمكان السؤال عن طريقة انتقاء لوحة دون أخرى، كما في حال النرويجي التعبيري والانطباعي مونش، حيث تكون لوحته ” الصرخة ” أكثر حضوراً برعب دلالتها. ويبقى على قارىء الروائي تحرّي مسوغات اختيار ” موت مارات ” دون تلك.
في السياق ذاته، لماذا جاءت لوحاته لفنانين ذكور، وليس من فنانة، تأكيداً على اعتراف مشروع بقدرة المرأة على الإبداع، وإزاء ” سباياه ” ومن ثم تأبيد أثرها الفني، الإبداعي في الزمن، كما في حال لوحة الإيطالية ارتيميثيا جيتيليسكي ” 1593- 1653 “، من خلال لوحتها المرعبة بمناخاتها، أي ” جوديت تقطع رأس هولوفيرنز، وباللاتينية، مع حجم اللوحة؟ :
Judith Slaying Holofernes, 1614–20, 199 x 162 cm, Galleria degli Uffizi, Florence.
وبالتوازي مع المسطور، حيث دخل سارات باسم مزيَّف، وهو اسم أرمني، وهو نفسه تزيَّف كتابةً اسمية، وما يعنيه ذلك من حصول صدع مضاعف في بنيته النفسية، وموقعه في الغرب. كيف يمكن النظر إلى هذا الغرب، وما ورد بلسان سارده سارات يفجِع ( المشهد الآخر، الذي ستعرَق منه أوروبا متعةً، وتفيض منه فلسفة المقايضات الكبرى من بيع الأخلاق وشرائها، هو أن يفيق الناس فجراً وقد سارعت الشركات، والمصانع، ورجال الأعمال، إلى تغطية أجساد التماثيل العارية بلفائف هائلة من أوراق العقود المشمَّعة كي لا يُتلفها المطر. أوراق عقود مع إيران من كل لون ، وطعم، ومذهب ، ودِين، ونحو وصَرْف متشدّدين أو متساهلين، بحسب صياغات أئمة الإقتصاد في بناطيلهم الجينز .ص 311 )…؟!
نعم، لكَم استمتعت بمشاهدة اللوحات المذكورة، هي وغيرها، والتي تدور في مناخات الرعب، وها قد أوردتها في نهاية المقال، تاركاً فرصة متابعتها للقارىء، في تسلسلها المقرَّر، دون إلزامه بأي نوعية قراءة. نعم، أوردته، دون أن أفلح، في ” برمجتها ” لتكون عناصر مدمجة بصلب النص الروائي، وأنا أضع رواية ” سبايا سنجار ” أمامي، بمعزل عنها بالمقابل !
ملاحظة: ما أكتبه هنا، مستل من دراسة مطوَّلة حول رواية ” سبايا سنجار “، معنونة، بـ ” مزاج الطحلب: سليم بركات في روايته: سبايا سنجار “، والتي ستصدر لاحقاً .
الكابوس: هنري فوسيلي
وليم بليك : التنين الأحمر ووحش البحر
تيتيان: عقاب مارسياس
وليام بوغرو: دانتي وفرجيل في الجحيم
ادوارد مونش : موت مارات
هيرونيموس بوش: حديقة الملذات الأرضية
ماثياس غرونوالد: إغواء القديس أنتوني
كارافاجيو: جوديت تقطع رأس هولوفيرنز
فرنسيسكو غويا: زحل يلتهم ابنه
ثيودور جيريكو: رمث الميدوزا
الفنانة الإيطالية ارتيميثيا جنتيليسكي 1593-1653 ولوحتها جوديت تقطع رأس هولوفيرنز” باللاتينية
Judith Slaying Holofernes, 1614–20, 199 x 162 cm, Galleria degli Uffizi, Florence
ارتيميثيا جنتيليسكي ولوحتها جوديت تقطع رأس هولوفيرنز ” إضافة من عندي ” لمقارتها بلوحة كارافاجيو المذكورة في الرواية، والمنشورة هنا كذلك.