آمال عوّاد رضوان
بتاريخ 27-2-2019 ووسط حضور نوعي مميز، أقام منتدى الفكر والإبداع في مركز محمود درويش في النّاصرة أمسية أدبية، احتفاء بالنّاقد د. محمد خليل وبإصداره النّقديّ الثّقافيّ الأخير المترجم باللغة الإنجليزيّة جماليّةُ الخطاب في الأدبِ العربيِّ الحديث” والصّادر عن دار النشر أوستن ماكويلي في بريطانيا، وقد تولى عرافة الأمسية الشاعر سيمون عيلوطي، وتحدث عن المنجز كل من د. فهد أبو خضرة حول أهمّيّة الدراسة والنّقد، لنصوص عديدة من أدبنا المحلي وأدبنا العربي الفلسطينيّ، لأنّ هذا الأدب الّذي لم ينل حتى اليوم ما يستحقه من الاهتمام، وتحدّثت د. كلارا سروجي عن أهمّيّة ترجمة الأدب العربي الحديث، أمّا بروفيسور فاروق مواسي، وفي نهاية الأمسية تحدث د. محمد خليل شاكرا المتحدثين والحضور والقائمين على مركز درويش،
ودعا عيلوطي الأدباء الّذين تناولهم الكتاب لتكريمهم بنسخة من الكتاب المترجم: أ. د. جورج قنازع، سعاد قرمان، د. فهد أبو خضرة، أ. د. فاروق مواسي، وهيب وهبة، مفلح طبعوني، محمد نفاع، فتحي فوراني، رشدي الماضي، عطاف صغيَّر، محمد علي طه، ناجي ظاهر، د. منير توما، أ. د. محمد حجيرات، نبيل عوده، زكي درويش، وفاء عياشي ونمر سعدي، وتمّ التقاط الصور التذكارية.
مداخلة سيمون عيلوطي:
الحضور الكريم، مع حفظ الأسماء والألقاب، أسعدتم مساءً: باسمي، وباسم أعضاء منتدى “الفكر والإبداع”، ومقرّه في كليَّة النّاصرة للفنون، نرحّبُ بكم في هذه الأمسيةِ الأدبيّةِ الّتي دعا إليها مشكورًا مركز محمود درويش الثّقافيّ في النّاصرة، تحت رعاية رئيس البلدية السيِّد علي سلام، وذلك احتفاءً بصدورِ كتابٍ جديدٍ للدكتور محمد خليل، بعنوان: “جماليّةُ الخطاب في الأدبِ العربيِّ الحديث”.
الكتابُ صدرَ حديثًا باللغةِ الإنجليزيّةِ في لندن، وهو عبارة عن معالجاتٍ نقديّةٍ لعددٍ من أعمالِ أدبائِنا المحليِّين والعرب، وقد جاءَ متابعةً لمشروعِهِ النّقديّ الّذي بدأهُ قبل سنواتٍ، بهدفِ تأسيسِ حركةٍ نقديَّةٍ تسعى للوصولِ إلى نقدِ النّقد، لذلك رأيناهُ يؤكّدُ من خلالِ نظرتِهِ الشَّاملةِ في النّقد على أنّ “الأثرَ الأدبيّ، شعرًا ونثرًا، وكذا كلُّ أثرٍ فنيٍّ، لا يتشكَّلُ من فراغٍ، إنَّما ينشأ مرتبطًا بسياقاتٍ متعدّدةٍ من ذلكَ المنطلقِ”، وبالتَّالي: “لا يحقُّ لأيِّ قارئٍ، أو باحثٍ، أو ناقدٍ أن يقرأَ، أو يدرسَ نصًا ما بمعزلٍ عن سياقاتِهِ الاجتماعيّةِ، والثّقافيّةِ، والاقتصاديّةِ، وحتَّى السياسيَّةِ! فالنّصُ نَفسُهُ، أدَبِيًا كان أم فكريًا، هو بُنيةٌ لغويَّةٌ فنيَّةٌ، يُعَبِّرُ عن واقعِ المجتمعِ وينبثقُ عنهُ”. وفي هذا السِّياقِ قالَ أحدُ الحكماءِ بما معناهُ: “إذا أردتَ أن تعرفَ شعبًا من الشّعوب، فاذهب إلى فنونِهِ”.
من هذا المنطلق: فإنَّ ناقدَنا لم يكتفِ لتحقيقِ مشروعِهِ النّقديّ- الطَّلائعيِّ بتقديمِهِ لقرَّاءِ العربيَّةِ فحسب، بل انطلقَ بهِ نحوَ القارئ الآخر في لندن، حيثُ أصدرَ الكتاب، وإلى قراءِ الإنجليزيّةِ في كلِّ مكان، ولعلَّ الرَّؤيا المنهجيَّةَ- النَّهضويَّةَ الّتي يطرحُها النّاقد خليل في نقدِهِ عامَّةً، وفي كتابهِ، موضوعُ هذه الأمسيةِ الاحتفاليَّةِ خاصّة، هو ما دعا النَّاشرَ في لندن إلى نشرِ هذا الكتاب، ودفعِهِ بالتَّالي إلى القرَّاءِ في أوربا، وفي أمريكا، وذلكَ عبرَ مقرَّاتِهِ في لندن، وكمبريدج، ونيويورك، والشَّارقة.
لا شكَّ أن ترجمةَ أعمالِنا النّقديّة والأدبيّة الفلسطينيّة والعربيَّة، لمختلفِ لغاتِ شعوبِ العالم، تؤكِّدُ على ترسيخِ ثقافتِنا العربيّةِ والإنسانيَّة، لتجسَّد بالتَّالي تحقيق الحوار المطلوب بين الثّقافات، خاصّة في هذه المرحلةِ الّتي أصبحت فيها وسائل التّواصل الاجتماعيّ متاحة لدى الجميع. لذا يجبُ علينا، بصفتِنا أدباءَ ومثقّفين أن نأخذَ دورَنا في هذا المجال، تمامًا كما فعلَ الدُّكتور خليل في كتابِهِ “جماليّة الخطاب في الأدبِ العربيّ الحديث”. ونطرح ما عندنا من أدبٍ وشعرِ وإبداعٍ للآخر المختلف، ونستقبل أيضًا ما لدى شعوب العالم من أدبٍ وفكرٍ وفنٍ بما يُنمّي، ليس فقط الحوار، بل يتخطَّاهُ إلى حدِّ التَّفاعلِ والتَّناغمِ مع الثّقافات الأخرى، باعتبارِها أداة يمكن من خلالها تعزيزُ روح قبول الآخر القائم على الاحترامِ المتبادلِ بين جميعِ الشّعوب والحضارات.
يرى صاحب كتاب “جماليّة الخطاب في الأدب العربيّ الحديث”، من خلالِ طروحاتِهِ النّقديّة، أنَّ: “الطَّريقَ الأمثلَ للنُّهوضِ بالنّقد الأدبيّ، هو وضعُهُ موضعَ النّقد والمساءلةِ”. من هذا المنطلق؛ اختارَ ناقدُنا أن يسيرَ في مشروعِهِ النّقديّ الرَّائدِ نحوَ الاتجاهِ الصَّعبِ، وهو: “نقدُ النّقد”، وقد كتبَ في ذلك عدَّة دراسات، وأقام الكثير من المحاضرات، وجميعُها تُؤكِّدُ سعيَهُ الدَّؤوبَ لإرساءِ حركةٍ نقديَّةٍ تعالجُ النّقد القائم عندنا بالنّقد.
مداخلة د. فهد أبو خضرة:
الأخوات والإخوة الأفاضل، مع حفظ الألقاب والمناصب. أسعد الله مساءكم بكل خير.
أرحب بكم أجمل ترحيب في هذا اللقاء الاحتفالي، باسمي وباسم جميع الأعضاء في منتدى الفكر والإبداع الّذي تمّ إنشاؤه قبل أشهر قليلة، والّذي اتخذ من كلية الفنون في النّاصرة مقرًا له، وأود أن أقدم باسمنا جميعا تهنئة من الأعماق لصديقنا العزيز الباحث النّاقد د. محمد خليل، عضو الإدارة في المنتدى، بمناسبة صدور كتابه الجديد القيّم في العاصمة البريطانية. وقد صدر هذا الكتاب باللغة الإنكليزية، وهو يحمل العنوان “جماليات الخطاب في الأدب العربي الحديث”. وقد تناول المؤلف في كتابه هذا، بالدراسة والنّقد، نصوصًا عديدة من أدبنا المحلي، أدبنا العربي الفلسطينيّ. هذا الأدب الّذي لم ينل حتى اليوم ما يستحقه من الاهتمام. وهو، في رأيي، يستحق الكثير.
ويشكل صدور هذا الكتاب خطوة هامة في هذا الاتجاه. وأرجو أن تكون خطوة أولى تتبعها خطوات عديدة مماثلة، سواءٌ من المؤلف نفسه أو من مؤلفين آخرين، لأنّ هذه الخطوات قادرة أن تلفت النّظر إلى أدبنا، في داخل هذه البلاد وفي خارجها، وأن تدفع الكثيرين من الدارسين والنقاد، على مستوى العالم العربي، وعلى مستوى العالم كله، لأن يجعلوه محورًا مركزيًا لدراساتهم ونقدهم.
وأود أن أستغل هذه المناسبة، لأدعو المفكرين والمبدعين إلى إقامة مؤسّسة خاصّة تكون مسؤولة عن شؤون التّرجمة، من العربية إلى عدة لغات أخرى لها مكانتها وشهرتها في العالم. وأنا، حين أقول هذا، أعرف جيدًا الصعوبات المالية الّتي يمكن أن تواجه هذه المؤسّسة، ولكنني أعرف أيضًا أن الإرادة الصادقة لا تعترف بالمستحيل.
ونحن في منتدى الفكر والإبداع نعتقد أن الأدب الفكريّ والإبداعي جزء من الحياة العقلية لمجتمعنا، وأن الحياة العقلية جزء رئيسي في حضارة كل مجتمع من المجتمعات الراقية في العالم، وعلى هذا الأساس، فإننا نحاول أن نجمع تحت سقف هذا المنتدى أكبر عدد ممكن من مفكرينا وأدبائنا، ونعمل على إقامة ندوات شهرية دائمة، في موعد ثابت، ومكان ثابت، يُقدَّم فيها إنتاج باحثينا وأدبائنا، كما أننا نعمل في الوقت الحالي على تحضير ما يلزم من أجل إصدار مجلة فصلية، تُعنى بهذا الإنتاج.
لقد لاحظ الكثيرون من المثقفين في هذه البلاد، ومنهم أعضاء المنتدى، تراجعًا لافتًا للنظر في الحركة الثّقافيّة في مجتمعنا العربي، خلال السنوات الأخيرة، وكانت هذه الملاحظة دافعًا هامًا في سبيل إقامة هذا المنتدى. ونحن على استعداد اليوم لدعم كل خطوة مماثلة عند أي مجموعة من المثقفين، كما أننا نرحّب بكل مفكر أو مبدع يرغب في الانضمام إلى منتدى الفكر والإبداع. ولا بد هنا من الإشارة إلى ما نراه من تراجع في مجال اللغة العربية الفصيحة، وهو تراجع لا يمكن أن نقف أمامه صامتين ومكتوفي الإيدي، فاللغة عنصر رئيسي من عناصر القومية، وركيزة أساسية من ركائز التراث الأدبيّ والفكريّ والديني، وركن هامٌ جدًا من أركان التفكير. ولهذا، فإن الواجب يفرض علينا، دون أي تقصير، أن نتمسك بهذه اللغة تمسكًا مستنمرًا، وأن نؤكد انتماءنا إليها، وأن ندعم تطورها، وأن نرسخ احترامها في أبنائنا منذ الصغر. ونحن في منتدى الفكر والإبداع ندعو المفكرين والمبدعين جميعًا إلى عقد لقاءات مكثفة خاصّة بهذا الموضوع، وإلى القيام بدراسات جادّة شاملة، ثم الخروج بنتائج موضوعية وتوصيات مفصلة تدعم هذه اللغة الغنيّة الرائعة، حاضرًا ومستقبالًا. ولكم الشّكر الجزيل
مداخلة د. كلارا سروجي- شجراوي
مساء الخير، وأهلا بالجمهور الكريم، أهنّئ الدكتور الباحث محمّد خليل على إصداره لكتابه بالإنجليزيّة بعنوان The Aesthetics of Literary Discourse in Modern Arabic Literature، والصّادر في لندن.
مداخلتي ستكون في مسألة أهميّة التّرجمة إلى اللغة الإنجليزيّة بشكل خاصّ، وإلى باقي لغات العالم كعامل مركزيّ في التواصُل والتبادُل الثّقافيّ. كما نعلم، اهتمّ العباسيّون بترجمة الفلسفة والعلوم المختلفة من اليونانيّة والسيريانيّة والهنديّة والفارسيّة إلى العربيّة، لتتسعَ آفاقُ اللغة العربيّة، وتستوعبَ ألفاظا جديدة، وتقدّمَ بدائلَ عربيّة لألفاظ أجنبيّةٍ لم تكن موجودةً في اللغة من قبل. بطبيعة الحال، ساهمت هذه الترجمات على ازدهار الحضارة العربيّة- الإسلاميّة وتطويرها في مجالات فلسفيّة وحقول علميّة جديدة.
بالنسبة للترجمة في عصرنا أقول إنّ نسبة الكتب المُترجمة إلى اللغة الإنجليزيّة، من لغات مختلفة، هي ثلاثة بالمائة فقط. جزء قليل من هذه النسبة المئويّة هي لكتب عربيّة. فمجرّد إلقاء نظرة عابرة على الكتب الّتي تتضمّن مقتطفاتٍ أدبيّةً مختارة، باللغة الإنجليزيّة، سنجدها عامرة بالقصائد والقصص المترجمة من لغات مختلفة، لكنها مُجحفة في حقّ الأدب العربيّ. هذه الظاهرة إنْ دلّت على شيء، عند بعض الدارسين، فهي تدلّ على عداء متأصّل للحضارة العربيّة الإسلاميّة وللشعب العربيّ.
هناك، إذن، نظرةٌ غيرُ عادلة عن اللغة العربيّة، بل هي متعالية على العرب وذلك على الأخصّ قبل أن ينال نجيب محفوظ جائزة نوبل عام 1988. كي أوضّح هذه النقطة أذكر أنّ أحد الناشرين في نيويورك، المعروف بآرائه الليبراليّة، طلب من إدوارد سعيد، قبل ثماني سنوات من حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، أن يقترح عليه بعضَ الروايات من العالم الثالث، بهدف ترجمتها ضمنَ سلسلةٍ من الترجمات الّتي يخطّط لها. فاقترح عليه إدوارد سعيد عملين أو ثلاثةَ أعمالٍ لنجيب محفوظ، لم تكن متداولة في الولايات المتحدة.
لكنّ الناشر، بعد مرور عدّة أسابيع على الاقتراح، يقرّر ألّا تكونَ أعمالُ محفوظ ضمن الأعمال المترجمة، بحُجّة أنّ “اللغة العربيّة هي لغة (Arabic is a controversial language) مثيرة للجدل”، فكتب إدوارد سعيد المذهول بهذه الإجابة معلّقا: “حتى الآن لا أفقه تمامًا قصدَ الناشر. لكن، أن يكون العربُ ولغتهم غيرَ محترمين بطريقة ما، وبالتالي خطرين وذوي سمعة رديئة، هو أمر، واحسرتاه، واضح لي الآن كما كان في السّابق. فمن بين الآداب العالميّة العظيمة، تبقى العربيّةُ منها غيرَ معروفة نسبيّا، وغيرَ مقروءة في الغرب”.
هناك مسؤوليّة كبيرة تقع، بالدرجة الأولى، على عاتق الأساتذة والنقاد والكتاب العرب الّذين يجيدون اللغاتِ الأجنبيّة المختلفة، لكنهم لا يعملون كفاية، لنقل الأدب العربيّ الجيّد إلى لغات أوروبيّة، لينال انتشارًا واهتمامًا يستحقّهما. ولا يمكن أن نتجاهل أنّ الغرب بات معيارَ الذوقِ الأدبيّ في عصرنا، ولذلك لا يمكن أن نقبل مثلَ هذا التقصير في ترجمة الأدب العربي. هذه الترجمات، الّتي يجب أن تكون جيّدة، لا بدّ أن تساعد في تغيير فكرة الغربيّين عن الأدب العربي، وفي تخلي المجتمع الأمريكي عن أفكاره المُسبقة عن العرب كشعب متعصّب لدينه، وموجود دائمًا في حالة حرب، ويكره كلَّ أشكال المعاصرة.
عمليّة التّرجمة ليست بالأمر الهيّن، فقد تتطلّب من المترجم دراية عميقة بالمجتمع: عاداته وثقافاته المختلفة، لكي يفهم جيّدا كيفيّةَ استخدامِ الكلمات في سياقاتها المختلفة. عليه أن يعيش بين أفراد المجتمع، ليفهمَ لغةَ حواره اليوميّة، وبلهجات مختلفة، في بيئته الطبيعيّة، وذلك كي يخلق العملَ من جديد، بلغة سلسة تتناسب مع اللغة الّتي يترجم إليها. والواقع أنّ الأدب العربيّ كلّه قد عانى (حسب صبري حافظ) من رداءة ترجماته إلى اللغة الإنجليزيّة لزمن طويل، ولا يزال يعاني من هذا الأمر حتى الآن. فاللغة الإنجليزيّة أساسيّة لانتشار أيّ عمل في العالم، وهي ليست هيّنة كما يتوهّم البعض. لذلك لن يحتمل القارئُ الجادّ التّرجمة الضعيفة، أو ذاتَ اللغةِ المجرّدة من الحسّ الأدبيّ، وذلك بسبب الوفرة العظيمة من الأعمال الجيّدة المتاحة اليوم باللغة الإنجليزيّة.
إنّ دراسة اللغة العربيّة في الجامعات الأوروبية قد بدأ منذ بدايات القرن السادس عشر، لكنّ اهتمام الأجانب قد اقتصر على الأدب العربيّ القديم والحضارة الإسلامية القديمة. قد يعود السبب في عدم اهتمام بعضهم بالأدب العربيّ الحديث إلى عمره الصغير، وقد يعود إلى فكرتهم المسبقة عن العرب كشعب امتاز بحضارته العظيمة القديمة، لكنه يعيش الآن إمّا في سبات عميق، أو في تناحر طائفيّ قبيح. وبالتالي، لا يستحقّ مثل هذا الشّعب أن يُدرسَ أدبُه، وتُبَذَّرَ الأموالُ على ترجمات لروايات لن تلقى رواجًا في الأسواق الأوروبية والأمريكيّة، ولن تعوّضَ خسارة إصدارها ونشرها.
هذه الحالة من اللامبالاة بالأدب العربي الحديث استمرّت حتى عام 1962 (حسب صبري حافظ)، عندما عُيّن محمد مصطفى بدوي أستاذا بجامعة أكسفورد. عندها فرضَ الأدبُ العربيُّ الحديثُ نفسَه بقوّة بين المستشرقين، كما أصبح من موادّ الدراسة الأساسيّة في الجامعات النّاطقة بالإنجليزيّة. عمل محمّد بدوي بنشاط كبير، مع مجموعة من زملائه ومن تلامذته، على جذب الانتباه إلى الأدب العربيّ الحديث، لا في أكسفورد فحسب بل في جامعات أخرى أيضا. وأنشأ بعد أقلّ من عَقْدٍ واحدٍ دوريّة إنجليزيّة متخصّصة بالأدب العربيّ: قديمِه وحديثِه، هي مجلة (Journal of Arabic Literature) الّتي كانت تصدر عن واحد من أعرق الناشرين في لايدن بهولندا. وازداد هذا الاهتمام بالأدب العربيّ الحديث وضرورةِ ترجمته إلى اللغة الإنجليزيّة، بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل. فكان نجاح محفوظ الخاصّ فتحًا لنجاح الآخرين من الأدباء.
نتيجة لهذا الاهتمام بالتّرجمة تأسّست عدّةُ مشروعات لتنظيم هذه العمليّة. أكبر هذه المشاريع هو مشروع التّرجمة عن العربيّة الّذي أدارته الباحثة والشّاعرة الفلسطينيّة سلمى الخضراء الجيّوسي. صدر عن هذا المشروع عددٌ كبير من الأنتولوجيّات، من مختلف الأجناس الأدبيّة في مجلّدات منفردة. كذلك يمكن أن نذكر دورَ نشرٍ مثل الهيئة المصريّة العامة للكتاب، وسندباد في فرنسا، ولينوس في سويسرا (باللغة الألمانيّة)، بالإضافة إلى المبادرة المسمّاة “ذاكرة المتوسّط” (Mémoires de la méditerranée)، الّتي تخطّط لترجمة المؤلّفات العربيّة إلى خمس لغات أوروبيّة على الأقلّ في الوقت نفسه.
كلّي أمل أن يتشكّل في بلادنا فريقٌ على مستوى مهنيّ عالٍ من الّذين يتقنون اللغة الإنجليزيّة والعربيّة، كي يعملوا على ترجمة الأدب الفلسطينيّ إلى اللغة الإنجليزيّة يضاهي ما تنجزه الجامعة الأمريكيّة في القاهرة (AUC) من ترجمات ودراسات وأبحاث.
أمنياتي للدكتور محمّد خليل بمزيد من الإصدارات القيّمة.
مداخلة د. فاروق مواسي:
منذ أن عرّفنا ابن سلام الجمحي في “طبقات الشعراء” معنى كلمة “نقد”، وعرَفنا أنّ للّفظة علاقة بالصحيح والزائف من النّقد، وأن للنقد رسالة أهم ما فيها التقويم والتوجيه، كنا على بيّنة بأهمية النّقد الأدبيّ، وكان يجب علينا أن نطّلع على هذه المصادر المميزة من كتب الجرجانيَين- عبد القاهر وعلي بن عبد العزيز، وعلى كتب ابن قتيبة فالعسكري وغيرهم، وكل منهم أفاد وأجاد، حتى بتنا نردد مقولات ولا نسبر غورها، كالحكم على جرير بأنه يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر، فما أحرانا بالعودة إلى التراث نتسلح بثقافته الأصيلة، نستمد من التراث ما هو الأنقى ولا ينقطع الخيط.
كان أولى بنا أن نقف طويلًا على ملاحظات نقدية ذكية ومشعة في هذا التراث الضخم، قبل أن نتمثل نقدًا وتنظيرات بعيدة عن كينونتنا وانسياقاتنا ومتابعاتنا الصادقة. ذلك أن المدارس النّقديّة الحديثة كالتكوينية والبنائية والتقويضية التفكيكية الّتي نقرأ منها، لا قِبل لنا بها ولا تفيدنا سبكًا ومعنى، فنحن نجد خطوطًا وأشكالًا ورسومًا دون أن نفهم رسالة النص ومؤداه، فهذي-كما أرى- هي للاطلاع وللمتابعة العالميّة لا للترديد والتبني، فنجيب محفوظ ذكر في عدد من أعداد مجلة “فصول”، أنا لا أفهم ماذا يريد النّاقد أن يقول، وعلى غراره اعترف بعض أدبائنا الكبار. إذن؛ فنحن نتفق على أهمية الإفادة والإجادة في طرح المضمون، فعندما كتبت نقدًا عن قصيدة للدكتور فهد، أو تحليلًا لقصة لناجي ظاهر، فقد عمدت أولًا وقبلًا أن أبين فنية المضمون، في شكل متساوق يجدي ويجزي ويمتع، وإلّا فما أغنانا عن الكتابة.
ثانية أقول: على النّقد أن يبلّغ رسالة، طرحًا، فكرة، ثيمة، تواصلًا، وإلا فلا معنى لكتابة تغرق في التعمية والضبابية المبهمة. إننا أحوج إلى كلّ نص شعرًا أو قصة أو نقدًا نذكره في سياق يلائمه ويستذكره، فنحن لا نكتب لمرّة واحدة، ونحن نكتب لمتعة القراءة وتجاوب المؤدى.
أرى أن د. محمد خليل جدّ جِدّه وهو ينقد النّقد، وهذه المهمّة خطيرة، وتتطلب متابعة واستقصاء ودراية ودراسة، وأذكر أنّه تناول “مذكّرات دجاجة”، ووقف على شهادة طه حسين في المقدمة، وشهادة اسحق موسى الحسيني ورأيه فيما كتب، ثم درس خليل ماذا كتب ب. جورج قنازع في مقالته في “الكرمل”، فتوصل بعد مقارنات وموازنات ومتابعات إلى تخطئة لقول، وتصويب لآخر.
إن د. خليل وقد نشر عددًا من الكتب في هذا المشروع الجاد، قد استقى مناهله الأولى في جامعة اليرموك حيث أشرف على دراسته أ. د يوسف بكار، وها هو يتابع هذا المنحى، حتى ارتأى أن يصدر كتابه بالإنجليزيّة عن الجمالية الأدبيّة، وكان أن درس قصيدة لي بيضاء هي (صمت)، وهذه القصيدة الّتي قد تثير ابتسامات أو دهشة وجدت عند خليل استقصاء فريدًا، فنشر أربع حلقات في صحيفة “الاتحاد”، عرج فيها على الموسيقى والمسرح ومعاني سقراط وأرسطو، ومأثور العرب في معاني الصمت، ولماذا ومتى وأين، وكيف عمدت في تجربتي المكثفة الغارقة في سواد اللحظة.
أبدع خليل في التحليل، كما أبدع بعده النّاقد السوري محمد السموري الّذي سخر من سذاجة من ظنوا أنّ ثمّة قصورًا أو هذرًا أو استهانة في الفكرة. أبارك لأبي إياد هذا الإصدار الّذي تزامن مع يوم ميلاده، وحق علينا أن ندعو له بمزيد من العطاء وبعيش أسعد وأرغد.
مداخلة د. محمد خليل المحتفى به:
حضرة الأساتذة، والأصدقاء والزملاء الأفاضل، مع حفظ الأسماء والألقاب والمناصب، الأخواتُ والإخوة في منتدى الفكر والإبداع، والنادي الثّقافيّ الاجتماعي طرعان، والاتحاد القطري للأدباء الفلسطينيّين، الحضور الكريم، طاب مساؤكم بكل الخير والمودة والاحترام،
يسعدني ويشرفني أن نلتقيَ معًا في أمسية من أهمِّ الأمسيات الاحتفالية تحت سماء الأدب والثّقافة والإبداع، في مكانٍ، يقول اسمُه والمُسمَّى أشياءَ كثيرة. الاحتفاءُ بالكتابِ والكتابةِ الإبداعيّةِ، وكلِّ فنٍ آخرَ، يُعدُّ مَظهرًا حضاريّا بامتياز، والمشهد الّذي نراه أمامنا يؤكِّدُ ذلك بما لا يدع مجالًا للشك، وأننا، أيضًا نستطيعُ، أن ننهضَ ونتطورَ كسائر الشّعوب المتحضرة، إذ لا محدوديةَ لقدرة الفعل البشريّ! بالثّقافة والوعي، يمكننا أن نقاومَ كلَّ محاولات التّشويه لإرثنا الثّقافيّ والحضاريّ والتّاريخيّ، في ظلِّ ظروفٍ نعيشُها، أقلُّ ما يمكنُ أن نقولَ عنها: إنها ظروف استثنائية! فالنتاج الأدبيّ والثّقافيّ، بمنظور ما، هو فعلٌ وجوديٌّ بامتياز، وقد لا نجانبُ الصوابَ إذا قلنا: إنه فعلٌ وجوديٌّ ومقاومٌ بنفسِ الوقت!
أنوِّه، ابتداءً، إلى أنه لولا التعاونُ والتشجيعُ والدعمُ المعنويُّ والماديُّ ممن كتبت عنهم من الأدباء والباحثين، لما كان لهذا الكتابِ الموسومِ بـ “جمالياتُ الخطابِ في الأدب العربي الحديث” أن يرى النور. طُبع هذا الكتاب، بعد آلام مخاضٍ عسيرة وطويلة، في دار النشر المعروفة أوستن ماكويلي في بريطانيا ولها أربعةُ فروعٍ في: لُندن، وكمبريدج، ونيويورك، والشارقة. ولا تسألوا عن خبر تكلفة الكتاب: معنويًا وماديًا وجهدًا، بل ظُنُّوا خيرًا وتفاءلوا به، فالعملُ الخالدُ لا يموت أبدًا!
يقع الكتاب في مائتينِ وسبعينَ صفحة، أراني فيه منشغلًا بمعاينة النصوص في نماذجها الإجرائية، مع التركيز على السرديات وفق رؤيةٍ منهجية. هو كتابٌ نقديٌّ ثقافيٌّ تأملي في آن، يُلامسُ نتاجَ كوكبةٍ لامعةٍ في سماء الحركة الأدبيّة والبحثية المحلية وغيرِ المحلية، أملًا بأن يكونَ هذا الكتابُ قد أتى بشيء من الإبداع أو القيمة المضافة في أقلِّ تقدير.
وقد تعمدتُ أن أُصدرَ الكتابَ باللغة الإنكليزية، لدوافعَ لا تخفَى عليكم، والّتي من أهمِّها:
أولًا: أنَّ اللغةَ الإنكليزية لغةٌ عالميّة.
ثانيًا: ضرورةُ الانفتاح على الآخر، من خلال الحوار، أو التبادل الأدبيّ والثّقافيّ بين الحضارات والثّقافات.
ثالثًا: الخروجُ بأدبنا من شرنقةِ المحلية إلى آفاق العالميّة.
رابعًا: تقديمُ صورةٍ مشرقةٍ لحركتنا الأدبيّة المحلية.
يشار في سياق متصل، إلى أن العرب كانوا قد تنبَّهوا على أهميةِ التّرجمة منذ مرحلةٍ مبكِّرة على عهد الدولة الأموية، لكنها اتخذت أبعادًا غيرَ مسبوقةٍ على عهد الدولة العباسية، لاسيما على عهدِ هارونِ الرشيد الّذي أسس دارَ الحكمةِ وعلى عهد ابنِهِ المأمونِ تحديدًا، حيث شهِدت حركةُ التّرجمة نشاطًا منقطعَ النظير. كان المأمون يعطي مقابلَ كلِّ كتابٍ مترجمٍ وزنَه ذهبًا! يقول الجاحظ في شرائط المترجم من كتابه الحيوان، ج1، ص76: “ولا بدَّ للتَّرجُمان من أن يكون بيانُه في نفس التّرجمة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولةِ والمنقولِ إليها حتى يكونَ فيهما سواءً وغايةً”!
وأرى من واجبي في هذه المناسبة، أن أُلفتَ النّظر إلى: أنه حتى الآنْ لا يوجدُ عندنا عنوانٌ أو مؤسّسة خاصّة للترجمة، ولا أيُّ تشجيعٍ لمن يرغبُ بترجمة نتاجِنا الأدبيّ إلى اللغة الإنكليزية أو غيرها من اللغات. وكلُّ ما يُبذل من مجهودٍ محمودِ المقاصدِ في هذا المجال هو مجهودٌ فرديٌّ. لذا أهيبُ، من على هذا المنبر، بكلِّ ذي صلة، إلى المبادرةِ إلى إنشاء مشروعٍ يُعنى بتشجيع ودعم وتحفيز التّرجمة من إبداعات أدبنا المحلي إلى اللغة الإنكليزية، كأن يتمَّ، على سبيل المثال، رصدُ جائزةٍ ماديةٍ تُمنح لكلِّ ترجمةٍ، أو إلى أفضلِ ترجمةٍ في أقلِّ تقدير. هي مجردُ فكرة ليس أكثر، والفكرة أساسُ كلِّ عمل!
أما شهادتي بحقِّ كتابي وكتابتي، فهي مجروحةٌ لأسبابٍ تعرفونها جميعًا. من هذا المنطلق، فالرأيُ لكم أوّلًا وأخيرًا، والحكمُ للقارئ المختص تحديدًا. مع ذلك، يقول النّاقد الكندي نورثروب فراي: “ليست الكلمةُ الأخيرةُ للناقد الأدبيّ حصرًا، إنّما لكلّ قارئٍ قراءتُهُ”! فكلُّ نتاجٍ أدبي ينفتحُ على قراءاتٍ أو مدارسَ نقديَّةٍ متعدِّدةٍ، وهو ما يدفعُني إلى القول: لا محيدَ لنا عن قراءة الكتب، فهي حاجةٌ ماسَّة وضرورةٌ مُلِحَّة. قراءةُ الكتبِ من أهمِّ وسائل المعرفة، بل هي مِفتاحُ المعرفة على الإطلاق. فهي الّتي تنير لنا الفكر، وتنمي العقل، وتثري مخزونَ الألفاظِ والمعاني والأفكارِ، كما تهذِّبُ سلوكَنا ونفوسَنا، وتُبعدنا عن العنف بكافةِ أشكاله. وبالنّظر إلى واقعنا الثّقافيّ والاجتماعي، فقد بتنا نخشى على أنفسنا، لكثرةِ ابتعادِنا عن الكتاب وانشغالنا بالمادية المفرطة، والنزاعات المهلكة. فليتنا نصحُو قبل فواتِ الأوان! سأل أحد الصحفيين إمبراطورَ اليابان عن سبب تقدُّم اليابان في وقت قصير فأجاب: اتخذنا الكتاب صديقًا، وجعلنا العلم والأخلاقَ قوَّتَنا!
أخيرًا، أود أن أنتهز المناسبةَ لأتقدَّمَ بالشّكر الجزيل والاحترام الموصول لكلٍّ من: إقبال شريكتي في الحياة الزوجيَّة الّتي سهرت وتحملت. لأستاذيَّ: أ. د. جورج قنازع، ود. فهد أبو خضرة، لما لهما عليَّ من فضل ودعم وتشجيع وتوجيه. للمتحدثين على المنصة. لبلدية النّاصرة على هذه البادرة الطيبة. للإخوة: خالد بُطو وفؤاد عوض ومفلح طبعوني. لعريف الحفل الأستاذ سيمون عيلوطي. للحضور الكريم جميعًا، واعذروني إن نسيتُ أحدًا… شكرًا وإلى اللقاء