إبراهيم اليوسف
ينتمي الصديق الباحث الأكاديمي د. أمين سيدو إلى ذلك الصنف من الرجال الاستثنائئين، ممن جمعوا بين أسمى خصلتين هما: الأخلاق السامية والمنزلة العلمية الرفيعة، وذلك بشهادة كل من تابعه، أو عاشره، إذ يمكن التوقف عند هاتين الخصلتين مطولاً في سلوك وممارسة هذا الكاتب، المبدع، الذي كرس حياته منذ نعومة أظافره لرسالة العلم والمعرفة، واستطاع – في المقابل- أن يكون خير سفير في هذا الميدان، مخلصاً للبيئة الطيبة، التي انطلق منها، وفتح من خلالها عينيه على الحياة، ونهل من قيمها العالية، لتكون رصيداً ثراً لشخصيته التي تشربت بها، ولهذا فإن كل من تابع مسيرته الحياتية والبحثية لمس تفرده في كلا الميدانين، فهو قد أمحى تلك الحدود بين أسرته الصغيرة ومحيطه، ليكون انتماؤه إلى دائرة الأخيار، على شساعتها، فلا يتلكأ في توطيد أواصر المحبة والود بينه وبين الآخرين، وهو ما جعله يفلح في أن يكتسب أصدقاء كثيرين، سواء ضمن دائرة حضوره اليومي، أو خارجها، وذلك عبر كلمته الشفافة، الواضحة، التي جسرت صوب قلوب هؤلاء، شفاهاً، أو كتابة. عبر حبه أو عبر حبره، لطالما إنه يمتلك الملكتين: ملكة الكلمة الملفوظة والمكتوبة. المنطوقة والمدونة، لافرق..!
ولعلي أحد هؤلاء الذين يعرفون باحثنا د. سيدو عن قرب، من خلال تتبعي لمسيرته الكتابية، خلال عقود، فقد بدأ شاعراً رقيقاً يترجم معادلة تواصله وتفاعله الحياتيين، عبر أحاسيس رقيقة، ولغة في أوج شفافيتها وعذوبتها، ثم كان خياره التالي ألا وهو عالم البحث الأكاديمي، مركزاً بذلك على خريطة عالمه الأثير: عالم الكتاب، ليغدو أحد أهم الفرسان في هذا المجال، ولتكون بصماته في عالم الببليوغرافيا جد واضحة، إذ إن ما أنجزه من نتاجات كتابية في هذا المجال يبين بجلاء دقة وعمق حفرياته – بل وعيه- في ما تناوله من إصدارات أفردت له موقعه في دنيا الكتاب، وما الاثنان والثلاثون كتاباً من أمات الكتب التي خطها يراعه، بصبر وتؤدة، مقدماً خلالها ما هو متمايز في هذا المجال، إلا دليل على صدق ارتباطه بعالم الكتابة والكتاب. عالم المعرفة. عالم الثقافة.
وإذا كان د. أمين شجرة جزرية – بلغة البروفسيورالكردي عزالدين مصطفى رسول- الذي تحدث عن كل تجربة كتابية لا تفتأ تعطي بسخاء خارج مهادها، فإن في ذلك ما يبين مقدرته العالية على التوأمة بين الأمكنة التي يحبها: مسقط رأسه. قريته. مدينته الأولى” عامودا”. وجوه ذويه ومحطته الجديدة. إذ يمضي جزءاً أكبر من سني حياته في عنوانه الجديد هذا، حيث تتسامق تلك الغرسة الطيبة في أرض أخرى، بعدما استطاع أن يقرن بين نسغين: نسغ الماضي والحاضر، لنكون أمام ثمرة مختلفة، استحسنها كل من خبرها، وهو سرُّ احتضان محيط باحثنا الجديد به، وما هذا التكريم، الذي يتم اليوم، إلا رسالة عرفان ببراعة وأهمية هذه القامة الخضراء في خلق معادلتها، اعتماداً إرثين متكاملين، كان في التقائهما هذا المشروع الثقافي الذي نعتز به جميعاً.
ثمة أمر آخر أريد الإشارة إليه، وعلى عجل، وهو أنه لطالما كان د. أمين صاحب موقف، ولعلي عارف مدى تحرّجه مما قد أدلي به في هذا المجال، إذ يكفي أن أبين أنه من أصحاب المواقف الذين لم ينحنوا في مسيرتهم أمام طاغية – عندما كان ذلك جد مكلف- وما وجوده الآن، بعيداً عن ذويه إلا لأنه كان منحازاً للمظلومين في وجه ظالميهم، وهو ما جعله يتجرع مرارة البعاد عن ذويه. المرارة التي حولها خفف من غلواء حدتها من عايشوه، في وطنه الثاني، كما أن كاتبنا كان من عداد الذين لم ينحنوا لريح مكانهم، وعاصفتهم، ما جعله هدفاً لراصديه الذين كانوا وراء اعتقاله ذات يوم، كان فيه المجاهرون بمواقفهم جد قلة!
وعلى الصعيد الشخصي فلكم انتظرت أن يأتي يوم ما لأقول فيه كلمتي في هذا الصديق الصدوق الذي أعده مع من هم في مطلع قائمة من خبرتهم عن قرب روحي، فاخترتهم، عناوين روحية، لاغنى عنها، ولطالما اصطدمت رغبتي هذه بالصد من لدنه، إلى أن كانت هذا التكريم، اليوم، الذي ارتأيت أنه لابد من أن أقول في صديقي د. نبيل بعض ما يمكن أن أمرره، من أصداء شهادة أكنها له، وهو صاحب اليد البيضاء، والملاذ في المحطات الصعبة، والأنيس الخير في أوان الشدائد.
وأخيراً إذ أحيي الحضور الكريم: فرداً فرداً فإنني لأشد على أيدي من كانوا وراء تخيُّر اسم الصديق د. أمين لتكريمه، اللائق هذا، في هذه اللحظة الزمنية الصعبة، وإني لأخمن الجهد الذي قد بذلوه في سبيل إقناعه بمثل هذا التكريم المائز بحق امرىء معطاء. شهم. محب.