ديلان م تمي
“الحبُّ لا يمكن تفسيره، ولا يمكن إلا معايشته واختباره. ومع أن الحبّ لا يمكن تفسيره، فهو يفسّر كلّ شيء”.
أليف شافاق
لم تكن في يدي أيّ حيلة لتغيير قدرهما، حين رأيتهما يتعانقان تحت شجرة الجوز العجوزة، تمنّيتُ حينها أن يعود بي القدر ثلاثين عاماً إلى الوراء، لأُجدّد شبابي بحبّها للمرة الألف.أحدّق في تجاعيد وجهي وأتذكّر وسامة العشرين.
آهٍ لهذا الزمن.. “أطلقتُ تنهيدةً في صدري”.
كم أتمنى رحيلي!! فأنا أصبحتُ عجوزاً فظاً وغريب الأطوار أيضاً. لا تكفيني ضوضاء أفكاري لأستيقظ على ضوضاء الحياة اللعينة.
تباً.
إنها الخامسة فجراً.
استيقظتُ على صوتِ كسر جرة الحليب وهمساتٍ غير مفهومة بالقرب من بيتي الريفي الصغير. فلجأتُ مُسرعاً لعكازتي وتركتُ فراشي الدافئ الذي كان يحضنني. مددتُ بصري من ثقبِ الباب الخشبي وفركتُ عيني لأُبصر بوضوح:
مَنْ هناك؟!
رأيتُ ليلى واقفةً بعينيها اللوزيتين، مغطيةً رأسها بوشاحٍ حريري وردي اللون وشعرها الملفوف حول نفسه يتدلى إلى خصرها.
كانتْ سعيدة وتبتسم لرجلٍ غريب، لم أرَه يوماً في القرية. شتمتُ بصري أولاً ثم عرضها، ولم أفهم ما الذي قاله لها؟ لكنها فرّت كالغزال من أمام الدار، تاركةً ورائها زوبعة من المشاعر وجرة متقطرة من الحليب وكلماتٍ بذيئة في فمي.
إنها ليلى، البنت الوحيدة لمختار قريتنا، تتسكّع في هذا الفجر مع رجلٍ يفوقها عمراً، غارقةً في وحل الحبّ. تمتمتُ بيني وبين نفسي، لو عَلم والدها بهذا لقتلها بلا شك؛ لأنني أعلم أنه رجل دين يقدس كتاب الله، متعصّبٌ لدرجة أنه يُديرُ وجهه إن رأى أحداً ممسكاً بالملعونة بين أصابعه.
رجعتُ أدراجي إلى الفراش، لكنني لم أستطع النوم. بقى أثر المشهد يحفر في ذاكرتي، يعبث بما لا شأن له فيه. تذكرتُ محبوبتي وريعان شبابي. كم كنتُ وسيماً حينها! تذكرتُ بعدها أولى علامات الشيخوخة التي طرأت على حياتي والتي بدأت بأسناني ومن ثم بصري. رحتُ أجوب الدار وأفكر دون أن أصل إلى أي مراد. فأنا لا أعلم ما كانت مشكلتي مع هذين العاشقين، أكانت ضوضاء أم اشتياق ذاكرة؟!
أشعلتُ مدفئة الحطب، ورحتُ أُقلّب في ذاكرتي ملامح وجهها يومَ لقاءنا لأول مرة، وأولى كلمات الغزل، وأول قصيدةٍ شعرية أهديتُها إياها. ولأول مرةٍ ينتابُني شعورٌ بالكهولة، وتجمد مشاعر ملتهبة. أدركتُ كم أنا عجوزٌ تعيس يريد أن يبصق في وجه الحياة ويلجأ إلى نقطة اللا رجوع!!
كنتُ شارداً في بحر أفكاري إلى أن صعقتني المدفئة بشرارة دفئ، فنفختُ على إصبعي المحروق وبللتهُ بفمي، واتجهتُ على الفور نحو البئر الكبير لأجلب القليل من الماء يكفيني طوال اليوم. لبستُ عبائتي وانطلقتُ لعملي كراعٍ متجول.
أحب التجوال مع خرافي؛ ففي التجوال كنتُ أرى عجائب هذه القرية وخفاياها. أطفالٌ يلعبون بالوحل ويصنعون الفخار. قافلات من الحسناوات تنقل جِرار الحليب والماء. نساء بدينات يصنعن خبزاً طازجاً، ويحلبن الأغنام، أما عن الرجال فكانوا يعملون أيّ شيء.
كان سكانها ينعتونني بالعجوز غريب الأطوار؛ لأني ما كنتُ قد رددتُ السلام عليهم، أو كلمتهم يوماً، أو ربما شكلي كان يُخيفهم. طويل القامة. خفيف اللحية. هزيل الجسد بعينين جاحظتين، وتنبعثُ مني دائماً رائحة الأغنام والعلف.
انطلقتُ مع خرافي لأجوب العالم وأستكشف أسرار الحياة، كثيراً ما كانت تُساعدني قصائد الشعر الغزلية؛ لتهدئة روعي، وفي نهاية اليوم أتجه إلى مكاني المفضل تحت شجرة الجوز؛ لأُشاهد غروب الشمس. لكن أقدامي أخذتني اليوم إلى قبرها، وقطفتْ يداي من تلقاء نفسها باقةً من شقائق النعمان. وقفتُ أمامها، لكني لم أراها بل كنتُ أشعر بروحها تحوم حولي، تريد معانقتي، ومع كل نسمةٍ هواءٍ كنتُ أشعرُ بأنفاسها الباردة تحاول أن تُدفئني خشيةً من البرد.
رأيتُ ليلى من بعيد تحت شجرة الجوز، تُعانقهُ بحرارة. كانا قطعة جسدٍ واحدة. قلتُ في نفسي:
آهٍ يا ليلى..!!
معركة القدر لم تنتهِ بعد، إن لم تهربي فسيأخذك القدر معه إلى النهاية.
وصلتُ إلى بيتي الريفي مع حلول الظلام، أشعلتُ مدفئة الحطب، تهيأ لي أن الباب طُرق فنظرتُ من الثقب فلم أرَ سوى الريح، وضعتُ عكازي جانباً، ولجأتُ إلى الفراش فغلبني النوم.
إنها الساعة الخامسة فجراً. ضوضاءٌ عارمة. كانت كل أبواب القرية تُطرقُ بقوة وصرخاتُ الأطفال تعلوا حدّ السماء:
لقد قتلوا ليلى
لقد قتلوا ليلى..!!
يا إلهي!!
خسرتْ ليلى معركة القدر..