الغرانيق رواية تحطيم آلهة العسكر

  فاضل متين
الغرانيق في علم الحيوان هي نوع من أنواع الطيور التي تزاول البحر، وعند الكرد تسمى (Quling)، أما في المدلول الديني فتشير إلى الآلهة الثلاث (اللات والعزى والمناة)، التي حاربها الإسلام، واستأصل جذورها.
أما الغرانيق في رواية الكاتب السوري مازن عرفة، فتشير إلى الرؤساء الآلهة أو المؤلّهين، الذين وإن لم يقدموا أنفسهم على أنهم موكّلون من الله مباشرة، أو مختارون منه بآلية غير مباشرة كما سالف الزمان، إلا أنهم فرضوا أنفسهم بالبوط العسكري وصولجان الدين آلهة من لحم ودم، وسلاطين لا حدود لرحمتهم على عبادهم الفادِين لهم الروح والدم.
يستهلّ مازن عرفة نصّه الصادر عام 2017م عن دار نوفل بتصوير لا يخلو من سخرية ضاحية في إحدى المدن المغضوبة عليها، بأحيائها القديمة وأسواقها المبتذلة، وتمثال القائد المؤتلق، الذي يتوسط مُق المدينة؛ ليكون شاهداً على كل تحركات ساكنيها، ويبارك لهم أعمالهم من حبّ وإنجاب وتلاحم عضوي. 
في الرواية نجد بطلاً واحداً لكن بحيوات عدة، يتسيّد المَشاهد والإلقاء، حيث نسمع عدة أصوات على لسانه بلغة الأنا، التي تعطي للرواية لحن الإقناع، وإيقاع اللغة: 
الصوت الأول: هو صوت المواطن النموذجي، والذي يمثل شخصية الشعب المملوك (الإنسان النموذجي الذي سعى ويسعى إليه الأنظمة الشمولية)، يحكي لنا هذا المواطن الموظف عن حياته وثقافة مجتمعه وأحوال بلدته، كيف أنه المواطن النموذجي، الذي يسعى إلى إرضاء القائد وحزبه الثوري بآلية ديناميكية، وروتين يسير وفقه، همه جمع قوته وتأمين مستقبل أولاده، أما مستقبل البلاد ومآلاته فهي في ذمّة الزعيم، وبمجرد التفكير بكيفية إدارة الزعيم الجنرال للبلد قد يؤدي بمستقبل المواطن إلى اللا مستقبل.
الصوت الثاني: داخل شخصية البطل، هو صوت الزعيم الجنرال، الذي تعلو نبرته موسيقى الزمجرة والوعيد، ويحرص دائماً في كل خطاب له أن يذكر ببطولاته وقيادته للثورة المجيدة:
“أنا الزعيم الجنرال المناضل، الأوحد، العبقري، ذو الصفات المائة والعشرين القدسية المجيدة”.
الصوت الثالث: هو صوت الثائر الذي يتمرد على السلطة، ويحطم قدسية الجنرال بإثارة المظاهرات وتحريك الجموع وإيقاظهم من سباتهم. 
يقدم لنا عرفة في روايته نموذجاً عن السلطة الحاكمة في بلدان الشرق الأوسط عامة والعربية خاصة، ويصوّر حالة البلاد والمواطن تحت نيّر حكّامهم بلغة ساخرة سوداوية، ثم يبسط بتمهيد محكم صيرورة تحولات البلد، وما تؤول إليه من أحداث وتخبطات تُنشئ عن ثورة تهزّ أركان البلاد. 
لم يحدد الكاتب اسم المكان الذي تقام فيه الأحداث، ربما لأنه بذلك يشير إلى كل البلدان التي شهدت الثورات، أو لدواعي روائية تحبذ التلغيز.
أحداث كثيرة تشهدها الرواية، اختلاسات المسؤولين وسرقة أموال البلاد ، شراء الذمم، ثورة، متظاهرون، دمار، قبور.. ساكنوها يسردون قصصهم، وبطل متخبط تتصارع في داخله شخوص كثيرة، ومحاورات مونولوجية متشعبة، يعاني التشوش المستمر والتشظي الداخلي، وهي إشارة إلى المواطن العربي المتشظي فكراً وشخصية ومستقبلاً. 
تظهر في بداية الرواية شخصية فتاة تدعى (وردة)، ثم تختفي، لتظهر في الفصول الأخيرة أثناء اندلاع المظاهرات، قد يشير بها الكاتب إلى الربيع الذي فقده البلد أثناء حكم الجنرال، وعاد ليظهر في بداية الثورة ليشع روح البلاد (المرأة تعتبر رمز الخصب، والربيع فصل الخصوبة).
عدة فصول يشهده متن الرواية، ونلاحظ ذكاء الروائي بتقفيل كل فصل بحبكة مثيرة، تشبه حبكة البوليسيات، إذ تجبر القارئ على التلهف للفصل الذي يليه. يمكنني القول أن الغرانيق ترتدي عدة صفات (ساخرة، كوميدية سوداوية، معرّية للمستور، وصراخ ثورة).
‏يختزل مازن عرفة الرواية بنصّ أخير مفصول عن بقية الفصول. الرواية التي تحكي قصة بلد جنراله يحرق البلاد بما فيها من بشر وحجر وشجر ليكسب ذاته، الذات الآلهة: ‏”تمسك يدي المسدس الفضي نفسه، أوجهه إلى صدغي… فيضغط الإصبع بثقة ودون تردّد على الزناد، لتخرج الطلقة.. لا أموت أنا بل تموت البلاد”.
مازن عرفة:
كاتب وباحث سوري (مواليد عام 1955م)، مقيم في ألمانيا. حائز على إجازة في الآداب، قسم اللغة الفرنسية من جامعة دمشق، ودكتوراه في العلوم الإنسانية، قسم المكتبات، من جامعة ماري كوري (لوبلين، بولندا). 
«الغرانيق» هي روايته الأولى عن دار نوفل، من بعد «وصايا الغبار»، ومجموعة من المؤلفات من ضمنها «سحر الكتاب وفتنة الصورة»، و«تراجيديا الثقافة العربية»، ورواية أخرى قيد الطبع.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أحمد عبدالقادر محمود

 

الجبلُ يبقى شامخاً لو عبثت فيه الفئران

صلدٌ لا ينحني و إن غزتْ سفحه الغربان

لا يرتضي بالخنوع و إن رمته النائباتُ أذان

تبقى المهابة فيه لو دنت الجيْفُ والخصيان

يعلو ولا يستجيب لمنْ أتاهم ذلَّة إذعانُ

صخرٌ ولكن ينادي في المدى عزَّة و برهان

لا تنكسرْ عزّتهُ لو مزقوه قسوة و هوان

يصغي لصمت الرياح و في ثناياه الأسى…

تنكزار ماريني

يتكشف عنوان ”سيرة عابر ألغام“ من رواية حليم يوسف القوية مثل لوحة معقدة من المعاني والمشاعر التي تتجذر بعمق في سياقات شخصية وسياسية. يمكن تقسيم هذا العمل الأدبي إلى مفهومين مركزيين: ”السيرة الذاتية“ و”عابر الألغام“. ويدعو كلا الجانبين إلى تفسير متعدد الطبقات ويلقي الضوء على ازدواجية الحياة في ظل نظام القمع.

مستويات تحليل العنوان:

يستدعي عنوان…

إبراهيم البليهي

 

‎إن النجاحات العملية الخارقة؛ هي التي أيقظت العلم وليس العكس؛ فماذا يعني أن يكون أكبر تحوُّل حضاري في العصر الحديث؛ قد تَحقَّق خارج نطاق التعليم؛ فهل نتذكر أن اختراع المطبعة هو أعظم الإنجازات وقد حققه حدَّادٌ وليس عالمًا، وهل نتذكر الاختراق المزلزل الذي حققه كولومبس. أما التحول الأعظم والأكثر دلالة؛ فهو الثورة الصناعية التي تمثل…

عِصْمَتْ شَاهِين الدُّوسكي

 

قُلْتُ لَهَا :

خُذْي مِنَ الرُّوحِ شِغَّافَ الرُّوحِ

وَطَرِزْي وِشَّاحَ الشِّتَاءِ

وَغَطِّي الْجُرُوحَ

كُلُّ فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ الْحَيَاةِ

تَنْمُو فِيه سَنَابِلُ الْبَوْحِ

لَا .. كَفَى … تَغْتَالِي

سَنَابِلِي الْحُبْلَّى بِثِقْلِهَا الْمَجْرُوحِ

بِعِنَادِ خَرِيفٍ يَتَذَمَرُ

يَمْنَعُ الْمَطَرَ وَالنَّوْحَ

نَعَمْ ضُمِينِي لِكُلِّ فُصُولِكِ الْجَرِيئةِ

وَأَزَيحِي سِتَاَرَ الثَّلْجِ الْمَطْرُوحِ

قَدْ يُدَفِينا وَنُدَاوي شَوْقَ الرُّوحِ

***********

قَالَتْ :

آهٍ مِنْكَ وَمِنَ النَّوَى

أَسْمَعُ صَوْتَكَ ، قَلْبِي يَهْوِى

وَالرُّوحُ تَعْشَقُ حَتَّى لَوْ كَانَ أَعْمَى

لَا تَشْكُو…