د. ولات ح محمد
التجريب وإشكالية التجنيس.. فعالية العتبة الروائية
(لا قمامة في هذه المدينة) تستند إلى حدث تراكم القمامة في شوارع المدينة ودلالاته وما يدور بشأنه من حوارات وما تُطرح من آراء، ولكنها لا تستند إلى حكاية وشخصيات بالمعنى الكلاسيكي للمفهومين كما سبق القول، وبالتالي تفتقد (نسبياً) إلى العنصر الحكائي الذي يُعد العمود الفقري لروائية النص. أي أن ثمة إشكالية بخصوص الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا النص. وهذا ما يدركه الناص جيداً ويجعله مثار جدل في روايته، إذ يدفع بأحد الأصوات في حوار مع الراوي للاعتراض على هذه النقطة في أسلوب المؤلف. ولكن قبل ذلك وتجنباً للدخول في أية إشكالية مع القارئ بخصوص الانتماء الأجناسي للنص يضع محمود علامة غير حاسمة لجنس النص تحت عتبة العنوان مباشرة، إذ تأتي الصفحة الداخلية على هذا النحو:
لا قمامة في هذه المدينة..
“رواية؟!”
مع ملحق محاكمة المؤلف حول روايته
“ملاحظة: الملحق جزء من الرواية وليس إضافة من الخارج، إذ إنه تركيبة روائية بالذات”
فتحْتَ العنوان الرئيس (وهو عتبة أولى) وضمن مساحة ورقية صغيرة يضع محمود قارئه أمام ثلاث عتبات تنويهية صغيرة متتالية، وهذا مؤشر أولي على حرصه على أن يضع القارئ على السكة القرائية التي يرتئيها هو ويوجهه بالاتجاه الذي يخدم قراءة النص. وهو حرص ربما نابع من قلقٍ ما بشأن سوء فهم معين قد يجنيه القارئ بحق هذا النص. ولكن علينا التوقف أولاً عند علامة التجنيس “رواية؟!.
إن وضع علامة التجنيس بين علامتي تنصيص متبوعة بعلامة للاستفهام وأخرى للتعجب على هذا النحو: “رواية؟!” يدل على أن الناص لا يجزم بروائية نصه ولا ينفيها عنه، إنه يقترح هذا الشكل من الرواية على قارئه، وكأنه يقول له: أنا أرى أن هذا الشكل أيضاً يمكن أن يكون رواية، فما رأيك أنت أيها القارئ؟. يعزز هذه القراءة ما جاء في المتن ذاته، إذ يقول الراوي: “قد يكون إبراهيم محمود في وضع صعب وتلك هي عادته، من خلال الكثير من كتبه التي أثار بها الآخرين، إنما يكون له سببه الوجيه عندما يحاول تحويل فكرة القمامة ذاتها إلى موضوع له ميزة الرواية، فما المانع من ذلك، وعلى المعنيين بشئون النقد أن يكشفوا أوجه الخلل في طريقة كهذه.. “. إذاً يخوض المؤلف في هذا النص مغامرة تجريب يسعى من خلالها إلى “تحويل فكرة القمامة ذاتها إلى موضوع له ميزة الرواية” كما يقول الراوي نفسه، دون الالتزام بمعطيات التشكيل الروائي كلها، وهو ما جعل المؤلف يبقي مسألة جنس النص محل جدل، فعبر عنها بهذه الطريقة: “رواية؟!”، وكأنه يقول: أنا أراها رواية، فهل تراها كذلك؟ هل هي رواية؟.
تحت العتبات الثلاث أعلاه وعلى مدى يتجاوز الصفحة الواحدة يواجه قارئ النص عتبة أخرى على شكل مقدمة يتحدث فيها محمود إلى قارئه عن أشياء كثيرة متعلقة بقراءة نصه من ضمنها العودة إلى مسألة تجنيس النص ذاتها، إذ يقول: “وفي الوقت الذي يمكن قراءة العنوان وما جاء بعده في الأسفل للتوضيح “رواية” يجب (وأراهن على كلمة يجب) تبيُّن ما جاء إثر الكلمة مباشرة من علامتي استفهام وتعجب، (…) ثمة الكثير الذي يجعل الدائر في الكتاب في مقام الرواية وأحياناً خلاف ذلك، سوى أن الذي يشكّل محتوى الكتاب يجعله أقرب إلى صنعة الرواية، وأنا أصر على ذلك، وإذا تلمّس القارئ أي قارئ خلافاً فهذا شأنه..”
إذاً هي إشكالية التجنيس النصي وقلق التسمية التي لم يكتف المؤلف بإثارتها تحت العنوان، بل عاد في المقدمة لتحفيز انتباه القارئ من جديد بقوله: “يجب (وأراهن على كلمة يجب) تبيُّن ما جاء إثر الكلمة مباشرة من علامتي استفهام وتعجب”. وهذا يشير إلى أنها مسألة أساسية وغير محسومة في حسابات المؤلف في هذه الرواية تحديداً ويريد إشراك القارئ معه في أخذ المسألة بتلك الأهمية. إن هذا السعي من المؤلف لإقناع القارئ عبر المقدمة بأن نصه “رواية” قد يكون – من وجهة نظر هذه القراءة – مسعى مبالغاً فيه؛ فقد يجد القارئ في تقديم النص بهذه الطريقة ما هو أهم من محاولة إقناعه بأنه رواية، وربما كانت علامة التجنيس غير الحاسمة “رواية؟!” كافية في هذا المقام.
العتبة الثانية بعد العنوان تأتي على شكل تنويه يقول: “مع ملحق محاكمة المؤلف حول روايته”، وهي أولاً تحفز القارئ للإقدام على قراءة الرواية؛ فمجرد وجود عبارة “محاكمة المؤلف” كاف لإثارة الفضول لدى قارئ هذه العتبة لمعرفة من سيحاكم المؤلف وعلى ماذا مثلاً؟. وقد جعلها محمود في هذا الموضع من الكتاب تحديداً لإعطائها أهمية العنوان ذاته وليكون قارئ العنوان قارئاً للعتبة أيضاً. وثانياً تخبر العتبةُ القارئَ بأن ثمة ملحقاً في نهاية الرواية سيوضحه المؤلف في العتبة التالية بقوله إن “الملحق جزء من الرواية وليس إضافة من الخارج، إذ إنه تركيبة روائية بالذات”، وهي بذلك تدعو القارئ إلى عدم قراءة فصل المحاكمة بوصفه ملحقاً خارج المتن، حيث ستكون القراءة مختلفة، وتنبهه أيضاً على أن الملحق جزء من مغامرة التجريب الروائي في هذا النص ” إنه تركيبة روائية بالذات”، أي أن الملحق جزء من لعبة فنية مقصودة على مستوى هندسة الروائي للنص، فقد كان بإمكان المؤلف أن يضعه في المتن لا في الهامش.
في هذا الفصل الأخير من الرواية الذي يأتي تحت عنوان: ملحق محاكمة المؤلف على روايته (لا قمامة في هذا البلد)، تقوم شخصيات الرواية برفع دعوى قضائية ضد مؤلف الرواية إبراهيم محمود قصد محاكمته على إساءات ارتكبها بحقها في روايته حسب ادعائها، فتعقد جلسة المحاكمة بحضور كل أصحاب الشأن بالإضافة إلى شخصيات من روايات أخرى بوصفها شهوداً.
يسعى محمود في هذه القفلة الروائية أولاً لتصويب التفسيرات الخاطئة التي يمكن أن يكون القارئ قد ذهب باتجاهها، أو ما يمكن أن يكون قد أساء فهمه من هذه الرواية. وهو بذلك يعود إلى ما أثاره في المقدمة عبر هذه الخاتمة. وثانياً لتأكيد ما قاله في المقدمة من أن التشابه بين أحداث الرواية وشخصياتها ومثيلاتها في الواقع غير مقصود، بدليل أن المحاكمة تبرئه من اتهام الشخصيات له في النهاية. ثالثاً لتقديم وجهة نظر حول رؤية الكتابة والفن للأشياء التي تختلف عن النظرة الواقعية لها، وذلك من خلال شهادات لشخصيات روائية مشهورة كانت حاضرة في قاعة المحكمة، هي من صناعة روائيين مشهورين مارسوا المراوغة والتحايل و”الكذب الفني” في رسم شخصياتهم، ليقول محمود للقارئ إن ما فعله في روايته لا يسيء لأحد ولا يدينه هو أيضاً لأنه جاء في إطار الفن، وإن الكاتب حر في اختيار الطريقة التي يعبر بها عن أفكاره.
ضمن هذه اللعبة الفنية وفي المراحل الأخيرة من الرواية (قبل فصل المحاكمة) تنبثق شخصية من لا شيء لتعترض طريق المؤلف وتفتح معه حواراً حول روايته التي هو بصدد كتابتها ومحورها القمامة، ثم تتحدث عن الكذب الكتابي والفني في مواجهة الكذب الواقعي فتقول:” إنه عالم مبني على الكذب، ومدفوع بالكذب، ومنقاد إلى الكذب، كذب يتجاوز حدودك وحدودي، وحدود كل هؤلاء الذين نسبوا إلى الفن والأدب، باعتبارهم المأهولين بمحنة ما هم عليه، فلم يجدوا بداً من الالتفاف على ما هم عليه، فوجدوا في كذبهم الكتابي والفني، على أنه العالم الفعلي الخاص والجدير بالتقدير، ما يحررهم من ربقة كذب عالمهم الفعلي..”. تقول (دَر) لإبراهيم محمود إن روايته ومعظم كتابته هي نتاج ضعفه، ولو كان قوياً لما كانت هذه الرواية، وتنتقد بعض الأدوار التي أناطها بشخصياته.
هكذا يطرح صاحب (المنغولي) في هذه الرواية فكرة “الكذب الفني أو الكذب بالفن” وكأنه يريد من جديد وبطريقة أخرى القول إن ما جاء في هذه الرواية ينتمي إلى هذا النوع من الكذب الفني أو الكتابي الذي لجأ إليه معظم الكتاب والفنانين، والذي يمثل العالم الحقيقي الوحيد مقابل الكذب المستشري في العالم الواقعي، وإن هذا النص الروائي ليس استثناء.
تشتغل الرواية إذاً على مسارين متوازيين يحاول الروائي أن يخلق بينهما نوعاً من التكامل والتفاعل: الأول هو موضوعة القمامة ومتعلقاتها (وقد سبق القول فيها)، أما الثاني فيتمثل في لعبة فنية يصرح بها المؤلف منذ وضعه لعلامة التجنيس بتلك الطريقة، مروراً بمقدمة تربك القارئ أكثر مما توضح له، وانتهاء بفصل محاكمة الشخصيات لمؤلف الرواية. أما في المتن فتتجسد هذه اللعبة الفنية التجريبية من خلال تقديم أسماء الشخصيات بتلك الطريقة العبثية (التي تحدثنا عنها في القسم الأول من هذه القراءة) ثم حديث الراوي وبعض الشخصيات عن المؤلف إبراهيم محمود في غير موضع من الرواية ليصبح المؤلف بذلك واحداً من أشخاص الرواية، يتحدثون عنه ويعترضون على أسلوبه وأفكاره، ثم يحاكمونه في النهاية. في المجمل ثمة محاولة من محمود على مستوى التجريب لكتابة شكل جديد للرواية يرى فيه إمكانية أن تكون رواية دون أن يفرض انتماءه الأجناسي على القارئ.
يسمي إبراهيم محمود مغامرته النصية هذه “ورطة” ويدعو قارئه إلى أن يتورط معه بدوره من خلال قراءته للنص، لأن كليهما (المؤلف والقارئ) موجود فيه. فهل كانت الورطة كامنة في إثارة موضوعة القمامة أم في جعلها موضوعة لرواية أم في محاولة صناعة رواية مختلفة كهذه بالذات؟، أم أن الورطة التي تحدث عنها محمود كامنة في كل ذلك؟.