ولدت في بدليس، وغرقتُ في بحيرة وان

محمد عفيف الحسيني
1
في بدليسَ ولدتُ. وغرقتُ في شهوةِ بحيرةِ “وان”. 
ولدتُ في حلبجه، وفيها اختنقتُ بغازِ التخيَّل ـ الصباحيِّ. 
في دياربكر ولدتُ، وفيها سقطتُ جريحاً. 
في مهاباد ولدتُ، وفيها حلجتُ القطنَ وصوفَ المواثيقِ، ومنها هاجرتُ إلى صورةِ الأزلِ؛ في مهاباد استقام ضلعي، واشتدَّ الألمُ في مفاصلي الأربعة ـ مفاصلِ النقوشِ على مخدةِ الذي سيولد في متاهة الألم.
2
ولدتُ في عامودا. رافقتْني الطيورُ والحروفُ ومرآةُ الإغريقِ ـ مرآةُ زينفون العريقة؛ رافقني الألمُ، والسطرُ المتشكِّلُ من القوسِ الشمسيِّ ومن الحجر الشمسي، فركتُ ـ كحجر الخفَّان ـ بالحجرِ ركبتي الجريحة في المنفى. أنا ذلك الحجر المقتول، الذبيح، المدوِّم في تدحرجه من اللغةِ إلى الأرضِ ـ المرآةِ، يرتطم بالمرآة، فيهشِّم المرآةَ؛ مرآة الإغريق الذي وصفه سيدي كافافيس في قصيدته المثلية. 
ولدتْ تلك المرآةُ بالقرب من أنفاس الآلهة بألوانهم الزرقاء، لوني أيضاً أزرقُ وباردٌ، لوني شاحبٌ وقلقٌ، لوني يشبه علمي؛ علمي الذي لم يخفقْ بعدُ في أروقةِ الرخامِ؛ علمي الذي خفق في خيالي، وفي خيال قاضي محمد المبجل، نبي الخيال والواقع والرخام.
3
ولدتُ في بدليس.
حملتُ ريشَ السيدَ الكبير الملوِّن الطاغية في المنمنماتِ؛ جبرتُ اللونَ، وكنتُ قاضي الماء ـ ماء وان ـ بحيرة قلبي الشفيفة، فولدتُ مرة ثانية قريباً من الشيخ آدي، رفرفرتْ عباءتُه البيضاء من وبر الماعز الجبلي، ورفرفت لحيته النبوية، ورفرف ذيلُ طائره القدوس: طاووس. 
حملتُ معي ريش السيد البدليسي العذب، الأمير بعينيه المنتهكتين من المنفى؛ إلى المنفى.
4
كان إسمي شرفخان، قبل أربعمائة سنة؛ ثم صار إسمي قامشلوكي، بعد أربعمئة سنة.
كان إسمي ريشاً طائراً، ثم صار إسمي ليس ريشاً ولا طائراً.
5
لم أُولد في بدليسَ، بل جبتُ بعينيَّ المنتهكتين العصيتين، ماءَ منمنمات الأمير، وساءلتُه ـ الأميرَ، عن لوني الذي غمرَ الحجرَ القتيلَ، الحجرَ النبويَّ في عتبة شيخ آدي، مرّ عليه نبضي بلونِ الذهبِ، مرَّ على جناحيه القتيلين، شبحي القديم.
6
ولدتُ في بدليس.
وغرقتُ في بحيرة وان.
7
تتدافع في الماءِ آلهةُ الخساراتِ.
تنجو آلهةُ الخساراتِ.
ليقلْ لي السيدُ الغارقُ، مااسمه؛ ليقلْ لي الغارقُ الطافحُ فوقَ الماء، مثل سمكةٍ كبيرةٍ ميتةٍ، إسم النحَّاتَ الذي صبَّ البرونزَ في المنفى؛ وصبَّ النارَ في السؤالِ الكرديِّ للكرديِّ:
ـ “أيهما يشتدُّ أكثرَ: النارُ، أم كاوا؟”، في سؤالٍ عدمٍ.
8
ولدتُ من أسطورة؛ ومتُّ فيها.
9
حمل الغرباءُ أختامَهم، وغرقوا في النسيان؛ لم يولدوا، مثلي؛ بل أغرقتْهم الحياةُ في المنفى، مثلي.
10
تتفتَّح الزهرةُ على شفةِ كردي ولد في بدليس، ومات فيها.
تتفتح الزهرةُ على بدليس وعلى منمنمات بدليس، وتغرق في تاريخ بدليس الدم.
تتفتَّح الزهرةُ الثلجيةُ في الثلجِ، تمطر الغرباءَ بالشحوب.
يموت الغرباءُ،
أموت أيضاً،
بعد أن ولدتُ في الختمِ الملونِ المنحوتِ على جهات عامودا.
11
ولدتُ في بدليس. 
استدرجني الموتُ إلى أن أموتَ، استدرجني إلى مصاطبه الجميلةِ العذوبةِ، فأُستدرجتُ، إلى مصاطبه الجميلة العذوبة: كانت شفتايَ داميتين، وقلبي ينبض بالآلهةِ الكثيرةِ التي كانت تنظر إليَّ من سماواتها، تنظر بعينين كليلتين إلى الكليل.
hajalnama@hotmail.com
السويد.
· من كتاب جديد، قيد الاعداد.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أعلنت منشورات رامينا في لندن، وبدعم كريم من أسرة الكاتب واللغوي الكردي الراحل بلال حسن (چولبر)، عن إطلاق جائزة چولبر في علوم اللغة الكردية، وهي جائزة سنوية تهدف إلى تكريم الباحثين والكتّاب المقيمين في سوريا ممن يسهمون في صون اللغة الكردية وتطويرها عبر البحوث اللغوية والمعاجم والدراسات التراثية.

وستُمنح الجائزة في20 سبتمبر من كل عام، في…

في زمنٍ تتكسر فيه الأصوات على صخور الغياب، وتضيع فيه الكلمات بين ضجيج المدن وأنين الأرواح، يطل علينا صوتٌ شعريّ استثنائي، كنسمةٍ تهبط من علياء الروح لتفتح لنا أبواب السماء. إنه ديوان “أَنْثَى عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ” للشاعرة أفين بوزان، حيث تتجلى الأنوثة ككائنٍ أسطوري يطير فوق جغرافيا الألم والحنين، حاملاً رسائل الضوء، ونافخاً في رماد…

ماهين شيخاني

كان مخيم ( برده ره ش ) يرقد بين جبلين صامتين كحارسين منسيّين: أحدهما من الشمال الشرقي، يختزن صدى الرياح الباردة، والآخر من الغرب، رمليّ جاف، كأنّه جدار يفصلنا عن الموصل، عن وطنٍ تركناه يتكسّر خلفنا… قطعةً تلو أخرى.

يقع المخيم على بُعد سبعين كيلومتراً من دهوك، وثلاثين من الموصل، غير أن المسافة الفعلية بيننا…

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…