إدريس سالم
جان بابيير، في تجربته الروائية الأولى – بمحاسنها قبل مساوئها – يوكل لنفسه مهمّة الإمساك بالقارئ والاحتفاظ به حتى النهاية، بعد أن يقرأ آخر صفحة في الرواية «هل نجح في ذلك يا تُرى؟»، يسرد فيها ألماً شخصياً في عالمين متناقضين (الحبّ والحرب)، إذ هرب من الحرب؛ رافضاً أن يكون مقاتلاً بين الوديان والجبال، وبأسلحة تقليدية غير متطوّرة، ليخسر في الحبّ، فيعيش في دوّامة الجحيم.
بأكثر من عشرين شخصية، منها شخصيتان رئيسيتان، هما “شاهو وهتاو”، الصديقان الحميمان، والمقاتلان العاشقان، الضائعان في فوضى أوتاد الحبّ والتاريخ والجغرافية وصراع مفاهيم إيديولوجية وأخرى سيكيولوجية، يفتح الروائي الكوردي أبواب روايته “الأوتاد” من بوّابتي السرد الكثيف والراوي الذاتي، واقعاً في مشاكل كتابية؛ جراء جرأته الكبيرة على الخوض في عالم الأدب، وخاصة الرواية.
تنقسم رواية الأوتاد الصادرة بطبعتها الأولى في دمشق عام 2000م، وبطبعتها الثانية في القاهرة عن دار “مقام” عام 2018م إلى أربعة فصول رئيسية:
الفصل الأول: تنهيدة التراب:
وفيه يبدأ الكاتب بسرد أحداث قصّته من الطفولة وحتى نضوجه في فعاليات الحياة المتنوعة.
الفصل الثاني: أرجوحة النار:
سرد لعلاقة عشق سوريالية وتراجيدية بين هتاو وحبيبته ميديا، التي تفارق الحياة برصاصة تغتالها، فتخطف روحها.
الفصل الثالث: ترانيم الهواء:
وفيه يسرد لعلاقة حبّ رومانسية وبورنوجنسية بين شاهو وأفين، حيث يمجّد الألم، ويندّد بالواقع المأساوي بأفكار ذاتية إبداعية، ليفضح لَعْنتي الكورد المستبدّتين “الجغرافية والتاريخ”، إلى جانب “السياسة”، تلك اللعنة العالمية التي حلّت بالبشر.
الفصل الرابع: أثلام الماء:
خلط في تداعيات نفسية وروحية بين الحلم واليقظة.
تبدأ أحداث الرواية من المحطة الأولى في مدينته كوباني، لتنتقل تدريجياً إلى المناطق الجبلية بين جنوبي كوردستان وشماله، في ساحة حرب مفتوحة بين حزب العمال الكوردستاني والجيش التركي، وبين هولير والسليمانية، ليعود بذاكرته إلى قرية حداتو وكوباني وهولير وشقلاوة وهكاري وكارا وأرضروم وديرسم، وجبال آرارات، ونهر دجلة والفرات والزاب، وغيرها من الأماكن.
تنطلق رحلة شاهو وهتاو من مدينة كوباني، حيث يجسّد “بابيير” شخصية “شاهو” في الرواية بشيء كبير من ذاكرته البصرية ومشاعره الذاتية التي عاشها مقاتلاً لعقدٍ إلا عامين، إلى جانب كلّ من هتاو وميديا وأفين وألو ومستو ونالين وآخرين، حيث يسرد جوانب حياتهما في دروب العشق والسلاح والاعتقال وآلام السجن.
فالبطل شخصية عنيدة بطبعها، ترك المدرسة، وعمل أجيراً في محلات الصناعة. انكبّ على الدراسة والتثقف الذاتي، وانضمّ إلى حلقات ماركسية، التي كانت تنظّمها حين ذاك اتحاد الشباب الديمقراطي في مدينة الرقة السورية. عشق فتاة من مدينة عفرين، فتعلّق بها كثيراً. أصيب أثناء هجوم مجموعته في جبال قنديل على إحدى مفارز الجيش التركي.
أما هتاو، الشخصية الرئيسية الثانية في الروايةأ الذي أحبّ ميديا، في ظروف كانت مليئة بالقهر والحرمان والهجرة والتشرّد، إذ كانت حياتهما لوحة تراجيدية عميقة، حيث فارقت ميديا الحياة في جنوب كوردستان؛ إثر رصاصة خائنة سكنت في صدرها بشكل مجهول، ليهاجم هتاو عقب الحادثة وينتقد العشائرية الحزبية والنزاع العسكري على النفوذ الجغرافي والسياسي من خلال حرب أهلية طاحنة، جرت أحداثها في تسعينيات القرن الماضي ، بين الحزب الأصفر في إشارة إلى الحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة مسعود بارزاني، وبين الحزب الأخضر في إشارة إلى الاتحاد الوطني الكوردستاني بقيادة الراحل جلال الطالباني، متهماً إيّاهما في أنهما مسؤولان عن مقتل حبيبته، فيعيدنا بزمانية ومكانية روايته إلى ظروف الاضطهاد الروحي بأبعادها ونتائجها:
“ألعن الألوان، أبا الألوان، وصانع خلق الألوان، أصفر موت، أخضر موت، نزاع، خلاف، كراسي، سلطة”.
غلب على الرواية السرد القصصي الكثيف – شروطاً وعناصر – وكأن كلّ فصل هو قصة قصير، قد ينتقدها ناقد أدبي لطولها اللغوي وعرضها الفكري المتشعّب، إضافة إلى الشاعرية الطاغية بإيحاءاتها ورمزيتها وصورها البلاغية، إذ نجد أنفسنا في غالبية الرواية أمام ديوان شعري، فالرواية لها شروط خاصة بها تختلف عن الشعر.
لم يعمل جان بابيير بشكل عام – كتجربة أولى في عالم الرواية – على عناصر الرواية الأساسية، إذ الشخصيات كانت ضعيفة لغة وحواراً وروحاً سيكيولوجياً، وغياب عنصر العدوّ – سواء كائناً بشرياً أو طبيعياً – صحيح أننا كنّا أمام الحبّ والحرب كعدوّين في الرواية، إلا أن الصياغة اللغوية الضعيفة كانت لها كلمة أخرى، وخاصة في مجال الحبكة، والتي كانت غير محكمة.
ختاماً، أورد في نهاية قراءتي الأدبية اقتباسات جميلة وأقوال معبّرة، من عدّة فصول، من رواية الأوتاد:
· بُكارة الجسد فانية، أما بُكارة الروح فليست لك.
· أفاعي من الغبار تصعد نحو السماء، اقترب من النجوم، يحسُّ أنفاسها الدافئة في صدره، يرى السماء عارية في التجاعيد الحرفية للنجوم. (ص 19).
· حبل الأسئلة يلتفّ حول عنقه، سلاحه الوحيد أمام لوحة أصناف التعذيب السوريالية، إيمانه وثقته بنفسه، أوقد قنديل الإرادة قي دهليز الروح” (ص 20).
· وسلكاً دقيقاً عُلّقت عليه صور آپو، البارزاني، الطالباني، شفان بلحيته الكثّة، وكأنه ينادي بمعزوفته ويدعو القادة للوحدة، وعندما سأله عن سعر الصور، أجاب الرجل بدون اكتراث:
– ديناران، ديناران، خمسة دنانير.
وأشار بيده إلى صورة آپو:
– ولم هذه أغلى؟!
ابتسم البائع من تحت شاربيه:
– لأن هذا يطالب بكوردستان، وهؤلاء بالحكم الذاتي. (ص 55).
· نحن نبيع الكلام والشعارات، وتُقاس الوطنية بمقاسات سراويلنا؛ لأن من بين كلّ الكائنات، البشر وحدهم يرصدون أموالاً طائلة وأرواحاً كثيرة يزهقونها، يسمّونها الحرب، من أجل الوصول إلى غاياتهم، إنهم سيدفعون المحرّرين في الجرائد؛ ليسلّطوا سيوفهم على رقاب الحقيقة، إنها الحرب من أجل الفوز بالسلطة، لا يخجلون، كلّ السفالات مُباحة في السياسة، والكتّاب المأجورون هم سفلة حقيقيون، ليقولوا: إن الحزب الأصفر على حقّ، أو الأخضر على حقّ، وبذلك ترتفع أصوات أبواقهم. (ص 59).
· وما بالي أرى في اللوحة جرح وطني في خاصرة آسيا؟ ينزف دون أن يشعر به الجسد، وينظر إلى خاصرته لا مبالياً، بلد الأنفالات، والهجرة، وكمّ الأفواه، والاغتيالات، والقيادات، والأفكار، والجميع موثوقون إلى كراسيهم بحبالٍ فولاذية، والأحزاب المشطورة ضدّ بعضها البعض، تطلّ برؤوسها على أشلاء هذا الجسد. (116).
· المتّة المنقوعة، ويسكي الفقراء.
· في الصبح لا أعرف كيف تمّ إزالة اسمي من لائحة الفرز؟ وأنت تودّين أن تعلني حبّنا أمام ستمائة رفيق ورفيقة.
– لا… لا. سيقومون بتصفيتنا الجسدية؛ بحجّة محاكمة المفاهيم. (ص 156).
* جان بايبير:
شاعر وروائي كوردي سوري. وُلد في 28 آذار عام 1972م.
صدر له:
o شطحات في الجحيم (شعر)، 1998م – دمشق.
o الأوتاد (رواية)، 2000م – دمشق.
o ديوان شعر باللغة الكوردية (Gewiriya Helbeste Za)، 2001م – بيروت.
o قرارات الخطيئة (شعر)، مشترك مع الشاعر محمد صالح مسلم، 2003م.
o ثلاثية كورستان:
o فوضى الفوضى (رواية)، 2005م.
o صرير الأحد غرفة الأربعاء (رواية) 2007م.
o نبوءة اغتالها التدوين (رواية).
o طفل يلعب في حديقة الآخرين (شعر)، 2012م.
o عقد قران في القصيدة (شعر)، مشترك مع الشاعرة الأمازيغية خديجة بلوش، 2013م – تونس.
o متن الغجر (شعر)، مشترك مع الشاعرة تارا إيبو.
o هيْمَن تكنّسين ظلالكِ (رواية)، تحت الطبع.