خرائط اللذة في كتاب «الشبق المحرم»

 د. هويدا صالح 
كاتبة وباحثة مصرية
إن جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة في بلداننا العربية يجسدها التعامل مع ثلاثية التابو المحرم (الدين والسياسة والجنس)،ففي مناخ يعاني من الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، تعلو نبرة التحريم والرقابة وقضايا الحسبة، حتى أن البعض من غير ذي صفة ينصب نفسه رقيبا على الإبداع، من هنا تأتي أهمية كتاب ”الشبق المحرم، أنطولوجيا النصوص الممنوعة” للكاتب إبراهيم محمود والذي صدر مؤخرا عن دار رؤية للنشر والتوزيع. يغامر الكاتب في الدخول إلى منطقة محرمة حيث يقوم بقراءة معمقة للنصوص المُؤسِسَة لفكرة الشبق عبر التاريخ الإنساني، يحاول أن يكشف تلك النصوص الممنوعة التي تناولت ”الجسد “عبر التاريخ، وفي ثقافات مختلفة، يقدم لها قراءة مغايرة عما هو سائد، ويكشف عن أنواع الشبق التي سيطرت على الإنسان، وشكلت وعيه، ليس بعلاقته بجسده فقط، بل بالعالم ورؤيته لذلك العالم. 
يقول في مقدمة الكتاب:”في الحديث عن الشبق المحرم ليس في إشارة، أي إشارة، إلى وجوب تحريره من خاصية الاستبداد التاريخية، كما لو أن ثمة دعوة للأخذ به إلى الخارج، بما أن الداخل هو سجنه، ليعيش حياته البرية ”.هي دعوة للغوص في الذات، بهدف تحريرها من فكرة التحريم من ناحية، والغوص في النصوص التي شكلت وعي الشعوب بذواتها من ناحية أخرى، وكأنها دعوة لعيش الحياة في صورها الأولية التي كونت الوعي الجمعي للبشرية.الشبق المحرم يتعلق بالدرس التاريخي الذي لم ينل اهتمام الباحثين بما هو لائق بأهميته، خوفا من فكرة التحريم، مما كرّس للكبت والمنع، وهو ما يضع الذات الإنسانية في أزمات عميقة قد تظهر في أشكال من المرض النفسي، ويكون أساسها كبت تلك الرغبات الإنسانية التي وُسِمت بالدونية.إن الكاتب يقدم محاولة للكشف عما هو مهدور من قيم إنسانية يكون الجسد ساحتها.
يتحدث الباحث عن رؤيته لاستراتيجية تأليف الكتاب، ويرى أنه حاول: ”تعميق تلك المواضيع التي شكلت دروساً تخص الجسد في مختلف أنشطته الممنوعة والمشروعة من خلال مصادر مختلفة،ومقاربة بنية الموضوعات التي لم تُحلل ولم يتعامل معها إلا باعتبارها سخيفة أو لتزجية الوقت وحالة نشاز في التاريخ، وكأنها بذلك فتحت المجال لقراءة أدبياتها.. ورغم أنني مدرك تمام الإدراك أن ما أطرحه من أفكار، وأصوغه من تساؤلات ، قد يصدم الكثرين بدعوى أن ما أقوم به يسئ إلى أدبيات الأخلاق المتداولة”.
لا شك أن العرب عرفوا في تاريخهم أساليب مختلفة حول ممارسة الشبق والتعبير عنه، كغيرهم من الشعوب، وكان التعبير عنه أكثر تحررا من القيود التي تُفرض عليه الآن، حتى أن أشهر الكتب الجنسية قام بتأليفها علماء  دين وفقهاء.
ارتكز خطاب العرب الشبقي على مجموعة من تصورات ومفاهيم ترتبط بالجسد ارتباطا وثيقا، فالجسد لم يكن موضوعا محرما أو مسكوتا عنه، بل كان ركنا أساسيا في الثقافة العربية، حتى أن الغزالي ربط اللذة الجنسية بلذة جنات النعيم، على عكس المحاولات الراهنة لستر الجسد وحجبه.
 
يقسم الكاتب كتابه إلى سبعة فصول، ويقسم كل فصل إلى عدة محاور. كشف الكاتب في عرضه لأفكار الكتاب عن عدة مفارقات تشكل وعينا بمفهوم الجسد: فنحن نجد سهولة وإناحة فيما يمكن مشاهدته من أفلام ومسلسلات وبرامج تلفزيونية، حيث التقنية الحديثة تقدم ما نرغب فيه شهويا، وفي المقابل يجري التعتيم على كل ذلك في الأدبيات الرسمية، حيث تغيب كلمات ومواقف وسلوكيات تتعلق بالشبق والجسد رغم حضورها في السر. المفارقة الثانية حضور الحديث عن الشبق في الجلسات الخاصة وليالي الأنس لأشخاص لا نتخيل أن يصدر عنهم ذلك، ولكن أي إشارة إلى وضع كهذا في العلن يعدو خدشا للحياء وإساءة للأخلاقيات. المفارقة الثالثة ما تطالعنا به الأدبيات العلمية من تشريح للجسد، والدخول فيه في أقسام الطب المختلفة وعيادات الأطباء.
كما يستعرض الكاتب تاريخ الشبق في الحضارات القديمة: مصر القديمة، سومر والهند والصين واليابان واليونان، ومن ثم العرب، ويعرض لأهم الرؤى التي نظرت من خلالها الشعوب إلى فكرة الشبق وبين الإباحة والتحريم، كما استعرض أهم النصوص الموغلة في القدم التي تناولته. حاول الكاتب أن يقدم للقارئ حمولات معرفية هائلة تكمن وراء هذه النصوص المترعة بالشبق. وتوقف طويلا أمام ”الكاماسوترا” أو ما يُسمى بعلم الجنس الهندي، كما توقف أيضا وقفة مطولة أمام كتاب الشيخ النفزاوي ”الروض العاطر في نزهة الخاطر” وفي تعاطيه مع هذا الكتاب لم يكتف باستعراض أهم الأفكار التي وردت فيه، بل قارن بين موقفين لباحثين من العرب المحدثين في تعاملهم مع الكتاب،موقف الباحث السعودي عبد الله الغذامي الذي تعامل بدونية معه، بل وصفه بالنص السخيف المثير للغرائز الذي يهين المرأة ويحولها إلى مجرد جسد تستخدمه الثقافة الذكورية، في حين أنه في تلقيه لكتاب ابن القيم الجوزية ”حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح” لم يوجه انتقادات له، بل يرى أنه لم يسلع المرأة ويحولها إلى جسد تستخدمه الثقافة، وبرر الباحث إبراهيم محمود أن موقف الغذامي من كلا الفقيهين، النفزاوي وابن القيم الجوزية إلى اختلاف مذهبي، فالنفزاوي مالكي المذهب وابن القيم حنبلي المذهب، والغذامي كما هو معروف حنبلي المذهب.
كذلك توقف الباحث أمام تحليل المفكر عبد الكبير الخطيبي وموقفه من كتاب النفزاوي وكيف أنه احتفى بالكتاب وبين أهميته، ويعلن الباحث دهشته من موقف الغذامي والخطيبي رغم أن كليهما يستخدمان المنهج التفكيكي.
كما حلل الباحث طروحات المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في تعامله مع موضوعة “الجسد” و”الشبق” وخاصة في كتابه (استعمال الملذات) حيث يرى أنه:” في هذا السياق يبقى لعمل ميشيل فوكو الضخم بأجزائه الثلاثة حيث موته المفاجئ لم يسمح لنا بإنجاز الجزء الرابع وهو( اعترافات شهوة) قيمة كبيرة تحت عنوان (تاريخ الجنسانية) إنه عمل لا يمكن تجاهل الجهد المعرفي الذي بُنى فيه ، وقدم فوكو نفسه وعرف بها في حقل الأنثربولوجي والعالم الموسوعي”.
ولعل فوكو معنى بالبحث في الشبق واللذة حيث تدور جل كتاباته بين فضاءات لذة تتجاوز الأرضي كرغبات تخترق الجسدي الفاني، وحيزات لذة رهينة الحياة الأرضية وأثر الزمن فيها. وفي ضوء هذا النزوع المعرفي يمكن قراءة كل أعماقه بوصفها مجموعة من لذات سورها الحياة من جهة والموت من جهة أخرى. كذلك يعرض الباحث للمعجم الشبقي في كتب التراث العربي مثل الجنسانية عند” ابن سيدة” والشبقي في فقه ”الثعالبي” وكذلك جنسيات جلال الدين السيوطي. ويختم الباحث كتابه بفصل أخير ولافت أعطاه اسم كشكوليات مختارة وناقش فيه محاور شديدة الطرافة، فنجده يناقش الأخلاق الأيروسية وأدبيات المثليين وأدبيات المخنثين.*
*-موقع
alfanar.newsl، وهو
موقع إخباري إماراتي ، تاريخ نشر المقال، 9 كانون الثاني 2017. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…