عاطف محمد عبدالحميد ” مصر “
في كتابه ” أئمة وسحرة ” الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع، يطرح الكاتب إبراهيم محمود عدة أسئلة تتعلق بكتابة التاريخ عمومًا، منها كيف يمكن أن يكون كائنًا في التاريخ ومسكونًا بأحداثه ووقائعه؟ وهل تكفي الإقامة في التاريخ من خلال قراءة ما كتب فيه وعنه، أم من خلال تفكيك كل ما كتب فيه وعنه؟ وهل هناك ما يجعل التاريخ تاريخًا في مجموعة مصنفاته ودلالاته القيمية، وما عُرف به على صعيد التنوع الثقافي وتوصيفه المعرفي؟..أيضًا يتساءل محمود أليس التاريخ هو الآخرون في كل ما شاهدوه وعاشوه وفكروا وأبدعوا فيه وعبروا عنه شعرًا وتصويرًا وكتابة فكرية مختلفة؟..كذلك يسأل هل ثمة معنى لما يمكن اعتباره قاعدة لا تتزحزح وحقيقة ثابتة، ومقولة فوق كل تصور انتقادي؟
السؤال الكبير
غير أن السؤال الكبير، على حد قول الكاتب، هو أين التاريخ، ومن يمتلك الحقيقة في ذلك؟..
هنا يؤكد محمود أنه من خلال معايشته للتاريخ وتواصله الوجداني والعقلي معه شعر بحضور سلطة تشكل حقيقة التاريخ، تاريخ معين، تاريخ جماعة أو فئة أو طائفة مختلفة، وتعتبر كل تاريخ آخر شذوذًا تاريخيًّا، عدمًا، إثمًا يستوجب اللعنة، وأن القهر هو علامة التاريخ الفارقة!
أيضًا يقول الكاتب إن التاريخ علّمنا من خلال مدوناته الكبرى وما يكتشف فيه بالتدريج، أن ليس هناك تاريخ واحد، فكل تاريخ يتحدد من خلال من يحمله، أو من يمثله، وهذا يعني الحضور النسبي للتاريخ كحقيقة.
ووفقًا لما يراه الكاتب أن من يستهل كلامه بعبارة ” للتاريخ فقط ” إنما يراوغ الحقيقة، ومن ثم التاريخ نفسه، لأن هذه الحقيقة هي تاريخية، ومهما كانت الاستثناءات موجودة، فإن ذلك لا يعني إلقاء القهر في التاريخ، بل إن كل حديث عن الاستثناء هو في جوهره تعبير عميق عن تاريخ مبني بالقهر على القهر, هنا أيضًا يطرح الكاتب سؤالاً مهمًا وهو: هل يعني هذا نفي كل مصداقية للتاريخ، والشك الهدام في كل ما كتب واعتبر تاريخًا، أو دعوة لنسفه؟ ويجيب بأن الوضع ليس كذلك، إنما هو تعبير عن حقيقة متجذرة في الواقع.
كذلك يقول الكاتب إن لكل تاريخ شهوده، وبين الشاهد الواحد والتاريخ فارق كبير، كالفارق بين ما تراه العين وتسمعه الأذن ويحلله العقل ويكتشفه، وما لا تراه العين وهو الأكثر مساحة، وما لا تسمعه الأذن وهو الأكثر وجودًا، وما لم يحلله العقل ويكتشفه وهو الأكثر غيابًا وأهمية.
شخصيتان مثيرتان
في كتابه ” أئمة وسحرة ” يناقش إبراهيم محمود التاريخ الذي يتعلق بشخصيتين شهيرتين، وهما شخصية “مسيلمة الكذاب” وشخصية “عبد الله بن سبأ”، وتاريخ هاتين الشخصيتين قد أثار الكاتب مثلما لم يثره شيء آخر، لأنهما من أكثر الشخصيات إثارة للمناقشة وتراجيدية وتميزًا بالتناقضات، من خلال ما روي من أخبار ونُقل من أقوال وصيغ من عبارات بخصوصهما.
محمود يرى أن الشخصيتين متناقضتين تمامًا؛ من حيث التقديم التاريخي وكلاهما تختلف عن الأخرى اختلافًا كليًّا في الموقع الذي انطلقت منه، والدور الذي قامت به تاريخيًّا، لكنهما في المحصلة متساويتان في القيمة، فالأولى تتميز بالتفريط في الأوصاف التي قدمت بها، والثانية تتميز بالإفراط في الأوصاف التي عُرفت ولا تزال تعرف بها.
محمود يقول إن مسيلمة كان قد ظهر في عهد الرسول واعتبر من المرتدين في الإسلام، وقد قدمت هذه الشخصية بصورة كاريكاتيرية، وبأوصاف وتوصيفات لا تشكل نتيجة متناغمة: إذ عرف عنه أنه كان ذا مكانة مرموقة اجتماعيًّا وثقافيًّا ودينيًّا بين قومه بني حنيفة، وتشكل الأدوار التي قام بها والقوال التي نسبت إليه أدوارًا متناقضة لا تتفق والمكانة التي تميز بها كما قدمته كتابات المؤرخين الإسلاميين قديمًا وحديثًا كذلك، ولو كانت شخصيته، يرى الكاتب، بمثل هذه السذاجة والتفاهة وسطحية التفكير لما كان لها هذا الحضور المعروف في تلك الكتابات، ولما أثار انتباه واهتمام النبي ومخاوف أبي بكر، وكل من كان معه في الخلافة.
أما شخصية عبد الله بن سبأ فقد بولغ في أهميتها، وفي خطورتها إذ كان سبب الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان بن عفان وشكلت المنبع لظهور المناوئين للدولة الإسلامية في طابعها السني: الشيعة والمرجئة والخوارج.
التاريخ معاناة
الكاتب يؤكد هنا أيضًا أننا إذا أضفنا إلى ذلك الغموض الذي يلف تاريخ هذه الشخصية والأخبار المبتسرة والمثيرة المتعلقة بها، فإنها تصبح مدعاة للاستغراب وتستوجب بحثًا في تاريخها، من خلال ما كتب عنها قديمًا وحديثًا.
كما يحاول في كتابه هذا أن يتتبع ما يقوله المؤرخ الإسلامي ويستنطق أقواله ويبين مدى دقتها تاريخيًّا، بالرجوع إلى التاريخ نفسه والذي يتجذر في أكثر من مصدر.
هنا أيضًا يفتش الكاتب في تاريخ وبيئة هاتين الشخصيتين عبر كتب التاريخ، ومنه نعرف أن مسيلمة كان أكثر من شخصية في شخص واحد، وأن عبد الله بن سبأ كان قد جذر للفتنة، متتبعًا تاريخهما في الكتابات القديمة وكذلك الحديثة والمعاصرة، قائلًا إن الذي يظل قابلًا للمناقشة، ويمكن تناوله في إطاره التاريخي هو وجود أرضية مشتركة بين الاثنين، وعلى أكثر من صعيد، فكما استهدف مسيلمة إلغاء كل مشروعية للدولة الإسلامية ومحاربتها في آن، كذلك استهدف ابن سبأ الطعن في مشروعية الخلافة والشك في مصداقيتها، والقضاء على رمزها الأكبر عثمان.
ومثلما كان لمسيلمة أتباعه ومؤيدوه وأعوانه، فقد كان لابن سبأ مراسلون ومؤيدون ومريدون يأتمرون بأمره, وكما حاول مسيلمة الطعن في دعوة محمد ومنافسته في النبوة، فقد سعى ابن سبأ إلى الطعن في شخصية عثمان.
في ” أئمة وسحرة ” يؤكد الكاتب أن التاريخ معاناة، وهو حصيلة علاقة بين المؤرخ كإنسان، مهما كانت ميزاته وطباعه، والتاريخ كمجموعة وقائع وأحداث، مهما اختلفت تسمياته ومنهجياته، وليست كتابة التاريخ لمجرد الكتابة فقط، بل هي تعبر عن نزوعها الثقافي والفكري إذ تحصر التاريخ في إطار من التصور، ودائرة علاقات محددة، وتبني عليه وفيه آمالًا، وتبتغي أهدافًا، وتصوغ الواقع من أجل واقع آخر منشود, كذلك يرى الكاتب أن التاريخ يواجهنا دائمًا، لا لأننا نتقدم نحوه، أو نستعيده، وإنما لأنه يسكننا، ويشرف على كل ما نقوم به، ونفكر فيه ونفصح عنه*.
*-موقع http://www.misrelmahrosa.gov.eg، تاريخ النشر 9 تشرين الأول 2018 .